• ١٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تنمية الإحساس بالجمال

د. نجيب الكيلاني

تنمية الإحساس بالجمال

إنّ الله جميل يحبّ الجمال.

وصور الجمال في الكون والحياة، دليل على قدرة الله وعظمته وحكمته، والقيم العليا في مبادىء السماء، ترمز إلى نواحٍ جمالية مُثلى، لأنّها ينبوع السعادة الحقيقية للبشر في كلّ زمان ومكان، فالخير والفضيلة، والحبّ والصدق، والعدل والرحمة، والتآخي والبرّ، والطُّهر والعفاف، وغير ذلك من الأمور الإيجابية البناءة، التي تملأ القلب بالرضى والسرور، هي في مجموعها جماع السعادة الدنيوية والأخروية، هي تعبير عن الجمال المعنوي الذي لا حدود له..

واتّساق الكائنات الحيّة والجامدة، وامتداد السماء بصفائها وسُحبها وأمطارها، وتدفّق الأنهار والبحار وما تحويه من نِعَم، وتنوّع المزروعات والحيوانات والطيور، ثم السُّنن الكونية الدقيقة المنظّمة التي لا تكون بدونها أيّة حياة، وتعاقب الليل والنهار وغيرهما تنبض بما لا يمكن وصفه أو التعبير عنه من الجمال المعجز..

لكن - لحكمة يعلمها الله - هناك من لهم أعين لا يبصرون بها، وآذان لا يسمعون بها، وقلوب لا يفقهون بها، إنّهم كالأنعام بل هم أضلّ، وقد دعت الآيات القرآنية إلى تأمّل هذا الكون، واكتشاف روعة التنظيم والتنسيق والجمال فيه، حتى يزداد الإنسان إيماناً ويقيناً، ويسعد بتلك الثروة الهائلة التي تغمر الإنسان والكون في كلّ موقع (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم/ 34).

وتذوّق الجمال واليقين من أعظم نِعَم الله، وقد رمز إليها أحد الصالحين بقوله: "إنّ بين جنبي من اللذة، ما لو علمها الملوك لقاتلوني عليها بالسيوف".

وتمثل الخطيئة والشر والفساد والظلم والاستغلال والغفلة والبُعد عن مبادىء السماء، مثل صورة بشعة للقبح الذي يضاد الجمال..

والأدب - كفن جميل - إذا ما سار على النهج السليم، وروعيت فيه القواعد الجمالية شكلاً ومضموناً، أوحى إلى القارىء بصور للجمال متنوّعة مؤثرة، فالقصة بما فيها من أحداث وشخصيات وتنسيق وقيم وتشويق، تخلب لب الطفل، في كلّ زمان ومكان، وتجعله يشعر بالمتعة والرضى والائتناس، وتمدّه بالمعرفة والخبرة، فيستشعر تلك "اللذة" الروحية التي تفوق في روعتها مادّيات الحياة ومغرياتها...

إنّ تنمية التذوّق الجمالي لدى الطفل، له وثيق الصلة بسلوكه المستقبلي، وحُكمه على الأمور، واتخاذه للمواقف المؤثرة في الحياة، سوف يشغف بكلّ ما هو جميل.

وسوف يأنف من كلّ قبيح أو بشع...

عندئذ يجد في نفسه الرغبة لفعل الخير، والبعد عن الشر، وسوف تتكوّن في ضميره وعقله جذور راسخة للقيم الفاضلة، لأنّه حريص - بتكوينه - على الاستمتاع بما فيه من جمال وخير وحُسن عاقبة، وستكون وسيلة لإرضاء ربّه، واستقامة أمره، وخدمة مجتمعه، ولسوف ينظر إلى الوجود من حوله نظرة تعمّق وفهم وتذوّق وتأمّل، ويبهر بما لله من قدرة وعظمة، وتترعرع في داخله أزاهير الحبّ والبهجة والنقاء...

إنّ الطفل ينزعج أيّما انزعاج وهو يستمع إلى قصص البشاعة والقسوة أو يقرؤها، وقد يملؤه الخوف والذعر، فيلجأ إلى مَن حوله ليحتمي بهم، وتفزعه مشاهد الدماء والقتل والظلم الفادح، وتطارده الكوابيس في نومه، وتتلوّن نظرته إلى الحياة بلون قاتم مخيف محزن، ولهذا فإنّ الذين يكتبون للأطفال، يجب ألا يغرقوا في مثل تلك المشاهد والأحداث المرعبة، بحجة أنّ الحياة فيها الخير والشر، وفيها القبح والجمال، والظلم والعدل، إنّ الانحياز إلى الجوانب الخيّرة المشرقة في الحياة أمر حيوي بالنسبة لأدب الأطفال، ولا بأس من الإشارة بطريقة عابرة غير تفصيلية لما قد يعتمل في أحداث الحياة من انحرافات وخطأ حتى لا يخدع الطفل، ويكتشف في المستقبل أنّنا خدعناه، هذا هو الأسلوب الأمثل في تصوير الحياة والناس للطفل، كما يمكن للكاتب أن يلمّح إلى أنّ الشر عاقبته وخيمة، وأنّ الخير يفضي إلى السعادة والفلاح ورضى الله والناس.

والطفل أقرب إلى تذوّق الجمال من الكبار، فقد يرى الجمال في قطعة من الحديد الصدىء، أو دمية صغيرة، أو زجاجة فارغة. فيقتني هذه أو تلك ويحرص عليها، ثم إنّ نضوج الكبار وخبراتهم وحاستهم النقدية، تجعلهم أقل استمتاعاً بما يقرأون أو يسمعون من قصص، لكن الطفل يستغرق في تصوراته وأوهامه وهو يقرأ أو يسمع وينتش أيّما نشوة، ويضع لنفسه عالماً فريداً مشوقاً، وينهمك فيه، ويكاد ينسى كلّ ما حوله، وكاتب الأطفال - عندما يدرك ذلك - يستطيع أن يفهم أيّة فرصة نادرة تلك، وأيّة مسئولية كبرى يحملها، وهو ينقش على تلك الصفحة البيضاء ما يريد من قيم وأفكار ومشاعر.

 

المصدر: كتاب أدب الأطفال في ضوء الإسلام

ارسال التعليق

Top