• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الذاتية والموضوعية لنهضة المجتمع

أسرة البلاغ

الذاتية والموضوعية لنهضة المجتمع

لكي تنهض الأُمّة وتنطلق لابدّ من أن تتوفر الشروط الإنسانية الآتية :

1- احترام العقل وإعطاءه الدور اللائق.

2- المنهج.

3- الوعي.

4- الثقة بالنفس والشعور بدور الأُمّة.

5- إرادة التغيير.

6- الحرّية واحترام إرادة الإنسان وحقّه في الحياة.

7- المبادئ.

8- الطليعة (القادة).

 

1- احترام العقل وإعطاءه الدور اللائق

ونعني باحترام العقل هنا اسـتخدام العقل في تحصيل العلم وفهم الموجود، فهم الذات والعالم الخارجي، والتعامل مع الأشياء تعاملاً عقلياً. فالعقل هو المنطلق الأوّل لحركة النهوض والانعتاق، وهو جوهر الإنسانية، والقوّة المدركة لعالم الطبيعة والإنسان، والأداة الفعّالة في صنع الحضارة والمدنية. وعندما ينطلق العقل حرّاً، يفكِّر ويتأمّل، ويتعامل مع الرسالة الإلهية والطبيعة والحياة والأشياء، وفق نظام نظري وعملي متقن الأداء، تكون الأُمّة قد وضعت أقدامها على مسار التغيير والانطلاق. وحين يُقمع العقل، ويتسلّط الإرهاب الفكري، وتُشلّ حركة الإبداع وقوى الإنسان العقلية عن ممارسـة دورها الموكل إليها في الحياة، فسوف لن تخرج الأُمّة من كارثة التخلّف وظلمات الجهل والركود.

لذا انطلق القرآن بالعقل يقوده من نصر إلى نصر، ويفتح به آفاق الوجود من فتح إلى فتح. يدعوه إلى فهم عالم الطبيعة والوجود، كما يدعوه للانفتاح على ما فيه من قيم ومبادئ وعقيدة وأفكار وشريعة:

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا) (محمّد/ 24).

(إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ) (الزُّمر/ 42).

وعلى امتـداد تاريخ البشرية كانت المعركة بين العقل والخرافة والتخلّف سجالاً وملاحم متواصلة. ويُصوِّر إمام العقل، عليّ بن أبي طالب (ع) قيمة العقل من خلال عرض قصّة الحوار بين آدم وجبرئيل (ع) فيقول:

"هبط جبرئيل على آدم ـ صلوات الله عليه ـ فقال: يا آدم! إنّي أمرت أن أخيّرك في ثلاث، فاختر واحدة ودع اثنتين، فقال له آدم: يا جبرئيل! وما الثلاث؟ قال: العقل والحياء والدِّين، فقال آدم: فإنّي قد اخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدِّين انصرفا، ودعاه فقالا: يا جبرئيل! إنّا أُمِرْنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج". وروي عنه (ع) قوله: "صدر العاقل صندوق سرّه، ولا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب".

لقد أسّس القرآن الحياة والحضارة والمدنيّة على أساس العقل، حتى صحّ أن نقول أنّ الحضـارة الإسلامية حضـارة عقلية، وأوّل أُسس هذا البناء هو العقيدة الإسلامية، فقد خاطب القرآن العقل، ودعا إلى التفكّر والتأمّل والفهم والاستنتاج، ورفض الخرافة والأساطير والتقليد الأعمى. واعتمد القرآن في كلّ ذلك الدليل والبرهان الحسِّي والعقلي لإثبات وجود الخالق والتعريف به سبحانه.

وانطلاقاً من هذا المنهج، منهج البرهنة والاستدلال، قال علماء الإسلام بأنّ الإيمان بالعقيدة الإسلامية لا تقليد فيه، بل يجب على الإنسان أن يؤمن إيمان دليل وبرهان عقلي، وبغضّ النظر عن مستوى هذا الدليل والبرهان.

2- المنهج

ونعني بالمنهج طريقة فهم الأشياء والتعامل معها. أي منهج تحصيل المعرفة، وطريقة فهم الحياة. بكلّ ما في المعرفة والحياة من مفردات المادّة والطبيعة والفكر والرسالة الإلهيّة والمجتمع والتاريخ. وليس بوسع العقل البشري أن يعمل، وتوظّف كلّ طاقاته بشكل منتج ومتنامٍ، إلّا إذا استخدم منهجاً علمياً موصلاً إلى نتائج علمية.

وحين ينتكس الفكر ويسيطر المنهج غير العلمي، سواء في مجال البحث وتحصيل المجهول المعرفي والعلمي، أو في الفهم وطريقة التعامل مع موجودات الحياة، يدخل العقل والجهد والإمكانات في متاهات وضياع متناقض، ولا يمكن للإنسان أن يحقِّق نتائج علمية، أو يصنع حياة صحيحة متطوّرة. وإذاً فالعنصر الثاني من عناصر النهوض بعد العقل هو المنهج. المنهج الذي يستخدمه العقل للوصول إلى أهدافه في فهم الطبيعة والمجتمع والرسالة الإلهيّة وقيم الحياة.

النهضة ومنهج فهم النص الشرعي

في البدء قد يُثار سؤال: ما علاقة فهم النص الشرعي بالنهضة والحركة والتطوّر البشري. ومن المسلّم أنّ القانون والقيم والأعراف، وطريقة فهم الحياة، لها تأثيرها البالغ، سلباً أو إيجاباً في نهضة الأُمّة أو تخلّفها. وفهم النص الشرعي هو منطلق إيجاد القانون والقيم والأعراف وفهم الحياة. ولقد سلب الفهم غير السليم للنص الشرعي إرادة الإنسان، ودعاه إلى الخضوع للحاكم الظالم، كما دعاه إلى الكسل والإتكالية. فظهر الفكر الجبري، ووجوب الخضوع لإرادة الحاكم، مهما يكن جائراً أو ظالماً، كما ظهر عند البعض النداء بإقالة العقل، والتوقّف عن فهم النص الشرعي إلّا من خلال الفهم السلفي، والذي لا يفي بمتطلّبات التطوّر والتغيير والتحوّلات الاجتماعيّة الكبرى في الحياة. ممّا يؤكّد أهمية دور منهج فهم النص في النهضة والتطوّر. فدور منهج فهم النص في النهضة كدور منهج فهم الحياة الواقعية في النهضة، وذلك يدعونا إلى تقديم إيضاح موجز عن هذا المنهج.

وقبل الحديث عن كيفية التعامل مع (النص الشرعي)، ينبغي لنا أن نعرِّف (النص) كما نعرِّف (الاجتهاد) الذي هو أداة النهضة الفكرية، كما ينبغي أن نعرِّف بالمرجعية الفكرية في حال التعامل مع النص، ونعدِّد حالات الفهم والاستفادة عن طريق الاجتهاد ومحاولة إسباغ الوصف الإسلامي، أو الشرعي على ما يُستفاد ويُستنبط من النص، وبالتالي تحديد ما هو إلهي، وما هو بشري من القضايا المستفادة من النص أو تفسيره.

النص في الاصطلاح: "هو اللفظ الدال على معنى غير محتمل للنقيض بحسب الفهم"[1].

والنص ما لا يحتمل إلّا معنى واحداً، أو لا يحتمل التأويل. ومنه قولهم: "لا اجتهاد مع النص. وعند الأُصوليين: الكتاب والسُّنة"[2].

النص: "هو اللفظ الذي لا يحتمل بحسب نظام اللغة وأساليب التعبير، سوى إفادة مدلول واحد، إفادة يقينية، أو باعثة على الاطمئنان"[3].

إنّ دراسة وتحليل المعنى المختزن في الصيغة البنيويّة للنص الديني، هي علم له أُصوله ومناهجه ودراساته الخاصّة في (علم أُصول الفقه). وبهذا العلم يسلم النص من العبث والتلاعب والذاتية ليخضع للمنهجية العلمية، وليعطي النتائج العلمية المطلوبة. وإذاً فمصطلح النص الشرعي يُطلق على الصيغة البنيويّة للآية القرآنية، وللكلام النبويّ. كما يُطلق على الكلام الصادر عن أئمة أهل البيت (ع) في المعتقد الإمامي باعتباره حاكياً عمّا يحمله القرآن، أو الحديث النبويّ.

وفي هذا التعريف الموجز بالهيأة البنيويّة (للنص الشرعي) وكيفية التعامل مع الخزين المستودع فيه، بغية فهمه، واستجلاء روحه ومقاصده، عن طريق التفسير والتأويل، ووفق المنهج العلمي المحدّد، الذي يُخرج الدراسة من التحميل الذاتي للنص، إلى الموضوعية العلمية التي يبرز فيها دور العقل كمكتشف يقوم بمهمّة استنطاق النص، والتعبير عمّا يحمله من غير أن يتصرّف فيه، أو يضيف إليه من خزينه المستودع في منطقة الوعي أو اللاوعي.

فيأتي إلى النص مركّباً من ذاتيتين : ذات الموضوع، وذات العقل الممارس .ومعنى الاجتهاد "اصطلاحاً كما عن الحاجبي، والعلّامة: استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي. وعن غيرهما: ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلاً أو قوّة"[4].

وإذاً فالاجتهاد في الشريعة، هو بذل الجهد العلمي لاستخراج الأحكام والقوانين الشرعية من أدلّتها التفصيلية. والشخص المؤهّل لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها (الكتاب والسُّنة) هو الفقيه، بما توفّر لديه من إحاطة وأدوات علمية. وللاجتهاد دور أساس في نهضة الأُمّة، وحركة وعيها الفكري والسياسي، ذلك لأنّ الاجتهاد يساهم في استنباط الأحكام الشرعية والمفاهيم الإسلامية التي يحتاجها الفرد والدولة والمجتمع في شتّى المجالات العبادية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها .

وبقدر ما يسير الاجتهاد وفق فهم عصري للموضوعات والقضايا والحاجات الإنسانية، يساهم هذا العمل في تطوير الحياة، وإيجاد النهضة في الأُمّة. ذلك لأنّ القانون المتطوّر هو أحد أركان نهضة الأُمّة، وهو القانون الذي يستوعب حركة الحياة ومستجدّاتها، ويعمل على دفع عجلة الحياة إلى الأمام .

ويُساهم الاجتهاد مساهمة أساسية في استنباط تلك القوانين والأحكام التي يحتاجها المجتمع المعاصر، كالعلاقات الدولية، وأحكام البنوك والشركات والمال والنقد وحماية البيئة، ومستجدّات الطب والصحّة، وتنظيم الأسرة، ونظم الإعلام المعاصر والتكنولوجيا... إلخ.

3- الوعي

إنّ المشكلة الكبرى التي يعاني منها الإنسان على امتداد الأجيال والحُقب هو فهمه للحياة ووعيه لحقيقة ما يجري فيها. إنّ معظم مشاكله النفسية، والشخصية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، متأتية من فهمه الخاطئ للحياة ووعيه السطحي، أو غير السليم لها. لقد انتهى الفهم المضطرب بالإنسان إلى فلسفة اللامعنى للحياة وإلى فلسفة الرفض، والتشاؤم والعبثية والقلق، وكانت كلّ هذه الانعكاسات مصدر الشقاء والعذاب للإنسان. كما فهم آخرون الحياة بأنّها المغنم الذي يجب احتكاره وحرمان الآخرين منه، وأنّها منتهى وجود الإنسان، ففيها يعيش ويُفنى، وليس بعدها من حياة أخرى، فنشب الصراع والحروب والاستعباد والشقاء البشري نتيجة لهذا الفهم والتعامل مع الحياة. إنّ وعي الحياة وفهمها على حقيقتها ترتبط به حركة الإنسان وموقفه، كما يرتبط به شقاؤه وسعادته. ولهذا الفهم أثره البالغ في اليقظة والنهوض، ونمط البناء الحياتي والتنموي.

إنّ النهضة البشرية لا تتم بالعنصر المادّي وحده، بل تسـير على خطّين متوازيين؛ هما البُعد المادّي، والبُعد الإنساني، وما لم يحدث التغيير في الجانب الإنساني من الإنسان، ليس بوسع التحوّلات المادّية، ولا القانون الشكلي أن يحدثا التغيير في حياة الإنسان. إنّ فهم الحياة، أو وعيها، فهماً ووعياً سليماً، يرتبط بوعي وفهم عدّة عناصر هي:

فهم مبدأ الوجود، فهم الآمال والنهاية والغاية التي ينتهي إليها الوجود، فهم الذات، فهم الموجود في عالم الحياة. فما لم يفهم الإنسان العالَم، المحيط به، وكيف وُجِدَ، وإلى أين يسير، والغاية من وجوده لا يستطيع أن يفهم ذاته. وما لم يفهم ذاته لا يفهم الحياة، وما لم يفهم الموجود من المال ومُتع الحياة وخيراتها لا يستطيع أن يتعامل معها تعاملاً سليماً. إنّ الفهم ذا البُعد الواحد، البُعد المادّي، لا يوفِّر وعيـاً سـليماً للحياة. لقد انتهى هذا الفهم بكارثة الشقاء والعذاب النفسي للإنسان، وبالتالي فإنّ النهوض المادّي صاحبه تخلّف مُروِّع في الجانب الإنساني. فإنّ الإحصاءات تفيد أنّ التقدم التقني الهائل صاحبه هبوط مُروِّع في الجانب الإنساني، وإنّ عذاب الإنسان وشقاءه إزداد مع هذا التقدّم التقني. وإذاً ففهم الحياة يرتبط بشكل أساس بالإيمان بالله، وعلاقة الوجود به. أو التنكّر لذلك، وانعكاس هذا الارتباط أو الانفصام على طبيعة الفهم.

الإنسان عندما يفهم أنّه يُخاطَب من قبل خالق الوجود، ويتلقّى البيان والتعريف عن وجوده في هذا العالَم، إنّما يتلقّى المعرفة الحقّة، والوعي الحقّ عن ذلك الخالق العظيم .

وعندما يفهم الإنسان ذلك، يُدرك أنّ الحياة الدنيا مرحلة في حياة الإنسان، وأنّه يعمل لعالم البقاء؛ لذا فهو يتعامل مع الحياة وما فيها من مُتع ولذّات ومال وسلطة وجاه وقوّة وعلم ومشاكل على أنّها عرض زائل، ويتعامل مع هذا العرض بقدر ما يحقِّق له البقاء السليم، وأنّه جزء من هذه الإنسانية، كما أنّه جزء من عالم الطبيعة يحيى على هذه الأرض، ليرحل عنها:

(هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود / 61).

4- الثقة بالنفس والشعور بدور الأُمّة

الإنسان عندما يفقد ثقته بنفسه إنّما يلغي وجوده، ويخسر قيمته في الحياة، ويتحوّل إلى كم مهمل أمام نفسه، وبهذا الشعور السلبي الهدّام، الشعور بالنقص، يكون قد أخرج نفسه من الحياة، فهو لا يرى نفسه جديراً يتحمّل المسـؤولية أو الاعتماد، وغير قادر على إنجاز الأعمال بمفرده، فلا يستطيع أن يفكِّر ويخطّط ويعمل بالاستقلال، وتلك مشكلة نفسية وتربوية، لها جذورها من النشأة الأسرية، وتجربة الطفولة الأولى، كما لها جذورها الاجتماعية والسياسية. وقد حرصت قوى الاستكبار والطاغوت، ودول الاستعمار العالمي على أن تكرِّس هذا المفهوم لدى الشعوب المقهورة، وتكوِّن لديها عقدة الشعور بالنقص، والاعتماد على ما ينتجه المسيطرون والمستعمرون من فكر وثقافة وصناعة وعلوم وتقنية ونُظم حياة، وتعميق الشعور بالعجز عن التفوّق، واسترداد الذات السليبة. وقد أغنى القرآن الكريم بشعور روح الإنسان المسلم الثقة بالنفس، والاعتزاز بالذات الإسلامية وتعميقها في نفس الإنسان المسلم ووعيه، لينطلق من قاعدة نفسية صلبة في خوض معترك الحياة، ومجابهة التحدِّيات.

وأوضح القرآن للأُمّة المسلمة دورها الحضاري الرائد بقوله:

(وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً لِتَكُونُوْا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدَاً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة/ 143).

فالقرآن يحدِّد للأُمّة مكانتها في هذه الآية، إنّها أُمّة قائدة وشهيدة على الأُمم بما تحمل إليها من مبادئ، وتدعوها إليه من قيم الحقّ والعدل والحرّية والأخلاق، وما تنتهجه من منهج العلم والعقلانية، بل ويوضِّح القرآن للأُمّة المسلمة أنّها خير أُمّة أُخرجت للناس، وعليها أن تكون في الطليعة من موكب البشرية تعتزّ بمكانتها الحضارية الرائدة، ولا يتسرّب إليها، الشعور بالنقص، أو بتفوّق غيرها عليها؛ وإن قُهرت آناً من الزمن وسبقها البعض في فترة من التاريخ .

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران/ 110).

وعندما يعيش هذا الشعور في أعماق الأُمّة، وهذا الاعتزاز بالشخصية العقيدية، تكون الأُمّة قادرة على تجاوز العقبات، ولديها القدرة على النهوض.

5- إرادة التغيير

لكي يمضي الإنسان بمشروعه وأهدافه في الحياة، يجب أن يكون ذا إرادة وتصميم وعزيمة لا تلين. ويتجسّد دور الإرادة وأهميّتها في الموقف البشري في عملية الصراع، وعملية التحدِّي ومواجهة الصعاب والإخفاقات، والإنسان الذي يحمل الإرادة القوية الصادقة يحقِّق أهدافه، ويكرِّس جهده واهتمامه وطاقاته من أجل تحقيق الأهداف .

إنّ مهمّة التغيير في الأُمّة لَهيَ مهمّة صعبة، وتحتاج إلى إرادة وعزيمة، فالأُمّة التي لا تحمل إرادة التغيير، ولا تحمل روح الرفض للواقع المتخلِّف، وترضى بالعيش تحت الظروف التي ألفتها من الظلم والفساد والفقر، ولا تنزع إلى وضع أفضل، ومستقبل زاهر، لَهيَ أُمّة فقدت إرادة التغيير، ولا يمكن أن تحقِّق النهوض والتحرّر من التخلّف والظلم والفساد السياسي والاجتماعي، ولن تحقق التنمية الاقتصادية والتقدّم العلمي.

إنّ التغيير الذي ينشده الإسلام، هو التغيير الجذري الشامل الذي يبدأ من أعماق النفس البشرية، منطلقاً من تغـيير المحتوى الذاتي للإنسان، فتغيير الوضع الفكري والروحي والسلوكي للإنسان، هو منطلق التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني:

فبإرادة التغيير والعزم عليها يحدث التغيير، وإيجاد هذه الإرادة يحتاج إلى عمل متواصل من قِبَل الطليعة ذات الإرادة والعزيمة. إنّ الذين غيَّروا، وأعدّوا للنهضة، هم أُناس يمتازون بإرادة التغيير، وبالقوّة والصمود، ويرفضون الاستكانة للطاغوت.

وقد وصف الله سبحانه إرادة المصلحين والمغيِّرين بالعزيمة، وبذا وصف صفوة الأنبياء بأنّهم أُولو العزم، لأنّهم أُولو إرادة قوية لا تلين ولا تتراجع. حملوا الرسالات بقوّة، وتحمّلوا مشاق التغيير والصراع بأشدّ صورها. وبذا خاطب سيِّد المرسلين محمّداً (ص) فقال:

(فَاصْبِر كمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَهُم) (الاحقاف/ 35) .

ومن هذا المنطلق خاطب الله نبيّه يحيى بقوله:

(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة) (مريم/ 12).

احمل رسالة التغيير بقوّة وعزيمة وإرادة لا تلين.

6- الحرّية واحترام إرادة الإنسان

الحرّية: هي القدرة على الاختيار، والبحث في الحرّية يقود إلى تقسيم الحرّية إلى قسمين:

أ ـ الحرّية الداخلية أو حرّية الإرداة والاختيار الباطني عند الإنسان: وهي التي دار البحث حولها من قِبَل علماء العقيدة (علماء الكلام) والفلاسفة والمفكِّرين الإسلاميين، وغير الإسلاميين، وانتهى البحث فيها إلى مذاهب وآراء شتّى، فذهب فريق أمثال الأشعري وغيره، إلى أنّ الإنسان كائن مُجبَر، لا يملك القدرة على الاختيـار؛ فالأفعال تجري عليه كما يجري الماء في النهر. فنحن نقول: جرى الماء في النهر، وليس للماء حرّية ولا إرادة في اختيار الجريان في النهر، بل يجري بقوّة قاهرة خارجة على ذات الماء.

وكذا الأفعال التي ننسبها إلى الإنسان، فهي أفعال الله تجري بواسطة الإنسان، وليس الإنسان هو الفاعل الحقيقي لتلك الأفعال، وفسّروا دور الإنسان بالكسب .

وهكذا جرّدت هذه النظرية الإنسان من الحرّية والاختيار، في حين ردّت آراء إسلامية أخرى على هذا الاتّجاه، واعتبرته معارضاً لعقيدة التوحيد التي تؤمن بعدل الله سبحانه، وتنزِّهه عن الظلم، فكيف يُجرِّد الخالق سبحانه الإنسان من الاختيار، ويُجري عليه أفعاله، ثمّ يُحاسبه عليها، وهو لا يملك القدرة على الفعل والترك فيما فرض عليه، بل ما قيمة الأمر والنهي من قِبَل الله تعالى إذا كان الإنسان لا يملك القدرة على الاختيار .

فالإنسان وفق الرؤية القرآنية، ومنطق العقل الإسلامي، يجب أن يكون مختاراً وحرّاً، ليكون مسؤولاً، وليجري عالم الإنسان وفق عدل الله تعالى، فلا مسؤولية بلا حرّية، قال تعالى:

(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد/ 10).

(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان/ 3).

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَسْؤُولُونَ) (الصافات/ 24).

(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ) (الأعراف/ 3).

وهكذا تتلازم الحرّية والمسؤولية في العقيدة الإسلامية، وفي الفكر الإسلامي. وهكذا تكون قيمه الإنسانية في كونه حرّاً مسؤولاً.

ب ـ الحرّية الاجتماعية: وإذا كانت الحرّية الداخلية أو الذاتية تتمثّل في القدرة على الاختيار والترك، فإنّ القسم الثاني من الحرّية، هو الحرّية الاجتماعية.

وهي الحرّية التي يمنحها القانون والأخلاق والمجتمع للفرد، ويُعطى حقّ ممارستها في المجتمع. ويجب أن تتعامل معه السلطة والمجتمع وفقها، ومثالها حرّية الفكر والسياسة والتملّك وغيرها.

والحرّية هي منطلق النهضة والتنمية والتقدّم لدى الفرد والمجتمع، فالإنسان الذي لا يملك الحرّية لا يستطيع أن يصنع الحياة، والإنسان الذي يشعر بالاضطهاد وسحق إرادته وشخصيته، لا يتفاعل ولا يستجيب للسلطة، ولا لمشاريعها وسياستها، ولا يستطيع أن يوظِّف طاقاته، وبالتالي لا يستطيع النهوض أو التقدّم.

وإنّ من أخطر أسباب تخلُّف عالمنا هو مصادرة إرادة الإنسان، وكبت حرّيته المشروعة، الحرّية المسؤولة التي لا تنفك عن الالتزام والمسؤولية .

ولكي تنهض الأُمّة، فهي بحاجة إلى الحرّية، بحاجة إلى حرّية الفكر، بحاجة إلى أن يُحرّر العقل من الإرهاب الفكري، ويُفسح أمامه المجال واسعاً لينطلق، وليفكِّر وليبدع وليمارس دوره الملتزم في مجال المعرفة وتشخيص المسار فإنّ الإنسان المكبوت الحرّية هو إنسان مشلول القدرة والإرادة، ولا يستطيع أن يوظِّف طاقاته وإمكاناته.

7- المبادئ

النهضة هي حركة انتقال من وضع حضاري واجتماعي إلى آخر، فهي حركة تغيرية، والتغيير لابدّ له من أن يستند إلى مبادئ وأُسس فكرية حضارية تسلك كدليل للمغيِّرين يوضِّح أهدافهم، ويشخِّص معالم مسيرتهم، ويحدث التغيير على أساسها. فلا تحدث نهضة في الأُمّة، ولا يحصل تغيير أو انتقال في مسارها، ولا تتوفّر دواعي النهوض والانطلاق، إلّا إذا كانت لتلك الأُمّة مبادئ وقيم وأفكار تقود نهضتها، ويتحقّق الانتقال النوعي فيها على أساسها. إنّ الثورات الإصلاحية والنهضات التغيّرية، إنّما قادتها مبادئ وأفكار ومفاهيم، كما قادها رجال طليعيون، وقادة مبدئيون. وذلك هو سرّ بعث الأنبياء وإرسال الرُّسل. فقد حمل الأنبياء والمرسلون الرسالات والمبادئ التي دعوا شعبوهم وأُمّمهم إليها لإحداث عملية الإصلاح والنهوض من التخلّف والفساد. وكم تحدّث القرآن عن أنّ رسالته هي لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، من التخلّف العقيدي والعلمي والفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي إلى العلم والهدى وعدل السلطة والسياسة واستقرار الحياة.

وتلك المبادئ ما لم يؤمن بها أصحابها، ويعتنقوها بوعي وإخلاص لاتستطيع أن تُحدِث التغيير في نفوسهم، ولا تبعثهم على الحركة والنهوض. إنّ الأُمّة الإسلامية بين يديها رسالة القرآن، دليل النهضة، ومشعل النور والهداية، بُعث به الهادي محمّد (ص) لإنقاذ البشرية، ولتحقيق النهوض الحضاري على أساس العلم والإيمان وقيم الأخلاق.

(الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم / 1).

إنّ الرسالة الإسلامية، هي رسالة العلم والحضارة، وقد استوعبت حاجة الإنسان الفكرية التشريعية والتربوية. واستطاعت أن تبعث في البشرية بأسرها روح النهضـة والوعي.

8- الطليعة (القادة)

إنّ نقطة البداية، ومنطلق النهضة والتغيير في الأُمّة هم الطليعـة، والقيادة الرائدة التي تتحسّس محنة التخلّف، وتشعر بآلام الإنسان، وتكرِّس همّها وجهدها للإصلاح.. لقد كان طليعة الرّواد والقادة هم الأنبياء والمرسلون (ع)، كانوا نقطة البداية، ومنطلق التغيير.

ويبدأ الإنسان الفرد النبيّ أو القائد الحركة، ثمّ ينطلق نحو الآخرين فيختار، وينتقي مَن يراه مؤهّلاً للمشاركة في عملية التغيير، وتحدِّي الواقع المختلِّف؛ ليكوِّن النواة الأولى. بادئاً بالتوعية على فساد الواقع وضرورة تغـييره، وإيضاح صورة التغيير والمنهج الذي يدعو إليه المغيِّر .

وهكذا بدأ الأنبياء (ع)، فكان مع كلّ نبيّ طليعـة هي النـواة الأولى للتغيير والبناء، ثمّ تبدأ عملية التعميم والانتشار، حتى تصبح الدعوة إلى النهوض والتغيير والإصلاح تياراً اجتماعياً تحرِّكه وتقوده الطليعة الرائدة.

وقد ثبّت القرآن تلك الحقيقة من خلال عرضه لقصص الأنبياء، وصراعهم ضدّ الطواغيت، وثبات الفئة المؤمنة الرائدة، مثالها:

(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغَضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِن شَيء رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّـلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة / 4).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ فَآمَنَت طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (الصف/ 14).

الخلاصة

لابدّ لكلّ أُمة ترنو إلى النهوض أن تتوفر فيها عناصر معينة تعتمد عليها لتحقيق غرضها ذلك، وفي خصوص الشروط المطلوب توفرها للأمة الإسلامية لكي تنهض وتواكب المسيرة الحضارية أن تتوفر فيها العناصر التالية:

1-          احترام العقل: أي استخدامه في تحصيل العلم وفهم الوجود.

2-          المنهج: وهو الطريقة المخصوصة لفهم الأشياء للتعامل معها.

3-          الوعي: وهي فهم حقيقة الحياة وارتباطها بحركة الإنسان وموقفه الذي يحدد شقاؤه وسعادته.

4-          الثقة بالنفس والشعور بدور الأُمّة: حيث بفقدانه يحدث الشعور بالنقض مما يكبح النهضة والاعتماد على النفس.

5-          إرادة التغيير: الذي عنده تحمل الأُمّة روح الرفض للواقع المتخلّف.

6-          الحرّية واحترام إرادة الإنسان: بشقيها الداخلية وهي حرّية الاختيار والاجتماعية وهي التي يمنحها القانون والأخلاق والمجتمع للفرد.

7-          المبادئ: فلا تحدث نهضة الأُمّة ما لم تعتمد على مبادئ وقيم تقود لنهضتها.

8-          الطليعة: حيث تنطلق المبادئ من الإنسان الفرد النبيّ أو القائد الحركة إلى الآخرين بادئاً بالتوعية على فساد الواقع وضرورة تغييره.

مصطلح

 الحرّية: هي القدرة على الاختيار

 


[1] - الطريحي، مجمع البحرين.

[2] - المعجم الوسيط.

[3] - يراجع الشهيد الصدر، دروس في علم الأُصول، الحلقة الثانية، ص 209.

[4] - الأخوند الخراساني، كفاية الأُصول، ص 528 .

 

ارسال التعليق

Top