ومن أهمّ أعمال القلب النيّة، وهي: القصد إلى الفعل، وإنّها واسطة بين العلم والعمل، فإنّه إذا ما لم يعلم الشيء لم يكن قصده، وما لم يقصد لم يقصد لم يصدر عنه، والسالك العارف لمّا كان غرضه الوصول إلى مقصد معيّن كامل على الإطلاق، وهو الكمال المطلق ومطلق الكمال، أي الله سبحانه وتعالى، فلابدّ من اشتمال العمل على قصد التقرّب به إليه عزّ وجلّ. فيمتثل أمر الله تعالى فيما ندب إليه عباده ووعدهم الأجر عليه، وإنّما يأجرهم على حسب عقولهم وأقدارهم ومنازلهم ونيّاتهم.
وإنّما المقصود من العبادات هو الطاعة لا مجرّد التعبّد وإتيان الطقوس الدينية، والناس يتفاوتون في عباداتهم، فمنهم من يعبد الله طمعاً بجنّته، ومنهم من يعبده خوفاً من ناره، ومنهم من يعبده شكراً وحبّاً له.
فمن عرف الله بجماله وجلاله ولطف فعاله، ومن ثمّ أحبّه وعشقه وإشتاق إليه، وأخلص عبادته له، لكونه أهلاً للعبادة ولمحبّته له، فقد أحبّه الله وأخلصه واجتباه، وقرّبه إلى نفسه وأدناه، قرباً معنوياً، ودُنوّاً روحانياً، كمن قال في حقّ مَن هذه صفته:
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) (ص/ 25).
ومن لم يعرف من الله سوى كونه إلهاً صانعاً للعالم قادراً عالماً، وأنّ له جنّة ينعم بها المطيعين، وناراً يعذّب بها العاصين، فعبده ليفوز بجنّته، أو يكون له النجاة من ناره، أدخله الله تعالى بعبادته وطاعته الجنّة وأنجاه من النار، فإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى.
والناس في نيّاتهم في العبادات على أقسام: أدناهم من يكون عمله إجابةً لباعث الخوف، فإنّه يتّقي النار، ومنهم من يعمل إجابةً لباعث الرجاء، فإنّه يرغب في الجنّة، ومنهم من يعبد الله حبّاً وشوقاً لا خوفاً ولا طمعاً.
قال أمير المؤمنين وسيّد الموحّدين عليّ (ع): "ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".
عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن حدّ العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤدّياً؟ فقال: "حسن النيّة بالطاعة (طاعة الله وطاعة الإمام (ع)".
عن أبي هاشم قال: قال أبو عبدالله (ع): "إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أو لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء، ثمّ تلا قوله تعالى:
(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء/ 84).
قال: على نيّته".
كان الاستشهاد بالآية الشريفة مبنيّ على أنّ المدار في الأعمال على النيّة التابعة للحالة التي اتّصفت النفس بها من العقائد الصحيحة والفاسدة والأخلاق الحسنة والسيِّئة، فإذا كانت النفس على الصحيحة والحسنة فإنّه بتلك الحالة والشاكلة يعمل الخير في الدنيا لو خلّد فيها فيخلّد في الجنّة، وإذا كانت على الباطلة والسيئة فإنّه يعصي الله فيستحقّ الخلود في النار.
يقول العلّامة المجلسي في كتابه القيّم بحار الأنوار: إنّ النيّة ليست مجرّد قولك عند الصلاة أو الصوم أو التدريس: أُصليّ أو أصوم أو أُدرّس قربةً إلى الله تعالى ملاحظاً معاني هذه الألفاظ بخاطرك ومتصوّراً لها بقلبك، هيهات إنّما هذا تحريك لسان وحديث نفس، وإنّما النيّة المعتبرة انبعاث النفس وميلها وتوجّهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها إمّا عاجلاً وإمّا آجلاً.
وهذا الانبعاث والميل إذا لم يكن حاصلاً لها لا يمكنها اختراعه واكتسابه بمجرّد النطق بتلك الألفاظ، وتصوّر تلك المعاني، وما ذلك إلّا كقول الشبعان أشتهي طعاماً وأميل إليه قاصداً حصول الميل والاشتهاء، وكقول الفارغ أعشق فلاناً وأُحبّه وأنقاد إليه وأُطيعه، بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء وميله إليه وإقباله عليه إلّا بتحصيل الأسباب الموجبة لذلك الميل والانبعاث واجتناب الأُمور المنافية لذلك المضادّة له، فإنّ النفس إنّما تنبعث إلى الفعل وتقصده وتميل إليه تحصيلاً للغرض الملائم لها بحسب ما يغلب عليها من الصفات.
فإذا غلب على قلب المدرّس مثلاً حبّ الشهرة وإظهار الفضيلة وإقبال الطلبة إليه، فلا يتمكّن من التدريس بنيّة التقرّب إلى الله سبحانه بنشر العلم وإرشاد الجاهلين، بل لا يكون تدريسه إلا لتحصيل تلك المقصاد الواهية والأغراض الفاسدة، وإن قال بلسانه أُدرّسُ قربةً إلى الله، وتصوّر ذلك بقلبه وأثبته في ضميره وما دام لم يقلع تلك الصفات الذميمة من قلبه لا عبرة بنيّته أصلاً.
وكذلك إذا كان قلبك عند نيّة الصلاة منهمكاً في أمور الدنيا والتهالك عليها والانبعاث في طلبها، فلا يتيسّر لك توجيهه بكلّيته وتحصيل الميل الصادق إليها والإقبال الحقيقي عليها، بل يكون دخولك فيها دخول متكلّف لها متبرّم بها، ويكون قولك: أُصلّي قربةً إلى الله، كقول الشبعان أشتهي طعاماً، وقول الفارغ أعشق فلاناً.
والحاصل أنّه لا يحصل لك النيّة الكاملة المعتدّ بها في العبادات من دون ذلك الميل والإقبال، وقمع ما يضادّه من الصوارف والأشغال، وهو لا يتيسّر إلا إذا صرفت قلبك عن الأُمور الدنيوية، وطهّرت قلبك عن الصفات الذميمة الدنيّة، وقطعت نظرك عن حظوظك العاجلة بالكليّة[1].
فالمراد بالنيّة تأثّر القلب عند العمل وانقياده إلى الطاعة وإقباله على الآخرة وانصرافه عن الدنيا، وذلك يشتدّ بشغل الجوارح في الطاعات وكفّها عن المعاصي، فإنّ بين الجوارح والقلب علاقة شديدة يتأثر كلّ منهما بالآخر، كما إذا حصل للأعضاء آفة سرى أثرها إلى القلب فاضطرب، وإذا تألّم القلب بخوف مثلاً سرى أثره إلى الجوارح فارتعدت، والقلب هو الأمير المتبوع والجوارح كالرعايا والأتباع، والمقصود من أعمالها حصول ثمرة للقلب.
فالنيّة أصل العمل وعلّته وهي الباعثة على العمل، فالنيّة روح العمل، والعمل بمثابة البدن لها.
ثمّ إنّ تصحيح النيّة من أشقّ الأعمال وأحمزها، فهي ليست مجرّد تصوّر الغرض والغاية وإخطارها بالبال، بل هي تابعة للحالة التي النفس متّصفة بها، وكمال الأعمال وقبولها وفضلها منوط بها، ولا يتيسّر تصحيحها إلّا بإخراج حبّ الدنيا وفخرها وعزّها من القلب برياضات شاقّة شرعيّة وتفكّرات صحيحة منتجة ومجاهدات كثيرة متواصلة، فإنّ القلب سلطان البدن، وكلّما استولى عليه يتبعه سائر الجوارح، بل هو الحصن الذي كلّ حبّ استولى عليه وتصرّف فيه يستخدم سائر الجوارح والقوى ويحكم عليها، ولا تستقرّ فيه محبّتان غالبتان كما قال الله عزّ وجلّ: يا عيسى، لا يصلح لسانان في فمٍ واحد، ولا قلبان في صدرٍ واحد، وكذلك الأذهان. وقال سبحانه:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب/ 4).
فالدنيا والآخرة ضرّتان – إذا لاحظنا الدنيا على نحو الاستقلال، وإلّا فالدنيا مزرعة الآخرة لو لاحظناها كمقدّمة وثانياً وبالتبع، فتأمّل – لا يجتمع حبّهما في قلب، فمن استولى على قلبه حبّ المال لا يذهب فكره وخياله وقواه وجوارحه إلّا إليه ولا يعمل عملاً إلا ومقصوده الحقيقي فيه تحصيله، وإن ادّعى غيره كان كاذباً، ولذا يطلب الأعمال التي وعد فيها كثرة المال ولا يتوجّه إلى الطاعات التي وعد فيها قرب ذي الجلال، وكذا من استولى عليه حبّ الجاه ليس مقصوده في أعماله إلّا ما يوجب حصوله، وكذا سائر الأغراض الباطلة الدنيوية، فلا يخلص العمل لله سبحانه وللآخرة إلّا بإخراج حبّ هذه الأُمور من القلب، وتصفيته عمّا يوجب البعد عن الحقّ.
فللناس في نيّاتهم مراتب شتّى، بل غير متناهية بحسب حالاتهم، فمنها ما يوجب فساد العمل وبطلانه كالرياء والعجب، ومنها ما يوجب صحّته ومنها ما يوجب كماله، ومراتب كماله أيضاً كثيرة[2].
فالنيّة تختلف بحسب الأشخاص والأحوال وبمقدار معرفتهم، ولكلّ منهم نيّة تابعة لشاكلته وطريقته وحالته: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء/ 84)، أي على نيّته، فلكلّ شخص في كلّ حالة نيّة تتبع تلك الحالة فلها منازل ودرجات.
منها: نيّة من تفكّر وتنبّه في شديد عذاب الله وأليم عقابه، فيأتي بالواجبات ويترك المحرّمات خوفاً من عذابه.
ومنها: نيّة من غلب عليه الشوق إلى ما أعدّ الله للمحسنين في الجنّة من نعيمها وحورها وقصورها، فيعبد الله طمعاً في جنّته، وقد وقع اختلاف بين العلماء الأعلام من العامّة والخاصّة في صحّتهما وصحّة العبادة، والعلّامة المجلسي يرى صحّتها على الأظهر خلافاً للزمخشري من العامة وللسيّد ابن طاووس والشهيد الثاني والعلامة الحلّي حيث يدّعي اتفاق العدلية على أنّ من فعل فعلاً يطلب الثواب أو خوف العقاب، فإنّه لا يستحقّ بذلك ثواباً. والأولى تسمّى عبادة العبيد، والثانية عبادة التجّار والاُجراء.
ومنها: عبادة الشاكرين، نيّة من يعبد الله تعالى شكراً له فإنّ من يرى النعم التي لا تحصى يحكم عقله بأنّ شكر المنعم واجب فيعبده لذلك، كما هو طريقة المتكلّمين، وقد قال أمير المؤمنين علي (ع): "إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار"[3].
فإنّ الحرّ تأمره حرّيته أن يشكر المنعم.
قال عليّ بن الحسين (ع): "إنّي أكره أن أعبد الله لأغراض لي ولثوابه، فأكون كالعبد الطمع المطيع إن طمع عمل وإلّا لم يعمل، وأكره أن أعبده لخوف عباده فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل، قيل: فلِمَ تعبده؟ قال: لما هو أهله بأياديه عليّ وإنعامه[4].
ومنها: عبادة المحسنين، بنيّة من يعبده حياءً فإنّه يحكم عقله بحسن الحسنات وقبح السيّئات، ويتذكّر أنّ الربّ جليل مطّلع عليه في جميع أحواله، فيعبده ويترك معاصيه لذلك، وإليه يشير النبيّ (ص): "الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك".
ومنها: عبادة المقرّبين، أن يعبد الله بنيّة التقرّب إليه تشبيهاً للقرب المعنوي بالقرب المكاني، وهذا هو الذي ذكره أكثر الفقهاء، وربما المراد منه إمّا القرب بحسب الدرجة والكمال، فإنّه العبد لإمكانه في غاية النقص عارٍ عن جميع الكمالات، والربّ سبحانه متّصف بجميع الصفات الكمالية، فبينهما غاية البعد، فكلّما رفع عن نفسه شيئاً من النقائص واتّصف بشيء من الكمالات حصل له قرب ما بذلك الجناب جلّ جلاله. أو القرب بحسب التذكّر والمصاحبة المعنوية، فإنّ من كان دائماً في ذكر أحد ومشغولاً بخدماته، فكأنّه معه.
ومنها: عبادة الصدّيقين، أن تكون بنيّة أنّ الله أهلاً للعبادة كما قالها أمير المؤمنين عليّ (ع)، ولا تسمع هذه الدعوى من غير أولياء الله، وإنّما يقبل ممّن يعلم منه أنّه لو لم يكن لله جنّة ولا نار، بل لو كان على فرض المحال يدخل العاصي الجنّة والمطيع النار، لاختار العبادة لكونه أهلاً له، كما أنّهم في الدنيا اختاروا النار لذلك، فجعلها الله عليهم برداً وسلاماً، كما كان ذلك لإبراهيم (ع) خليل الله نبيّه.
ومنها: عبادة المحبّين الكرام، بأن يعبد الله حبّاً له، ودرجة المحبّة أعلى درجات المقرّبين، والمحبّ يختار رضا محبوبه، ولا ينظر إلى ثواب، ولا يحذر من عقاب، وحبّه تعالى إذا استولى على القلب يطهّره عن حبّ ما سواه، ولا يختار في شيء من الأُمور إلّا رضا مولاه ومحبوبه، كما قال الإمام الصادق (ع): "ولكنّي أعبده حبّاً له عزّ وجلّ، فتلك عبادة الكرام، وهو الأمن، لقوله عزّ وجلّ: (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (النمل/ 89)، ولقوله عزّ وجلّ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران/ 31).
فمن أحبّ الله أحبّه ومن أحبّه الله عزّ وجلّ كان من الآمنين[5].
وقال (ع): "إنّ العباد [ة] ثلاثة: قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأُجراء، وقوم عبدوا الله عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة".
فالقسم الأوّل: عبدوا الله خوفاً من النار والعذاب فهم كالعبيد يطيعون أسيادهم خوفاً منهم، وتحرّزاً من عقوبتهم، والقسم الثاني: فإنّهم كالأجير يعمل للأجر فيعطى له، إلّا أنّ أفضل العبادة أن تكون حبّاً لله أي محبّاً له، والمحبّ يطلب رضا المحبوب، أو يعبده ليصل إلى درجة المحبّين ويفوز بمحبّة ربّ العالمين، والأوّل أظهر، (فتلك عبادة الأحرار) أي الذين تحرّروا من رقّ الشهوات، وخلعوا من رقابهم طوق طاعة النفس الأمّارة بالسوء الطالبة للذات والشهوات، فهم لا يقصدون في عبادتهم شيئاً سوى رضا عالم الأسرار، وتحصيل قرب الكريم الغفّار، ولا ينظرون إلى الجنّة والنار، وكونها أفضل العبادة لا يخفى على أولي الأبصار، وفي صيغة التفضيل دلالة على أنّ كلّاً من الوجهين السابقين أيضاً عبادة صحيحة، ولها فضل في الجملة، فهو حجّة على من قال ببطلان عبادة من قصد التحرّز عن العقاب أو الفوز بالثواب[6].
وقال (ع): "صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم، لأنّ سلامة القلب من هاجس المحذورات بتخليص النيّة لله في الأُمور كلّها". قال الله عزّ وجلّ:
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 88-89).
وقال النبيّ (ص): "نيّة المؤمن خيرٌ من عمله".
وقال (ع): "إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئٍ ما نوى".
ولابدّ للعبد من خالص النيّة في كلّ حركة وسكون، لأنّه إذا لم يكن هذا المعنى يكون غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله تعالى فقال:
(إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا) (الفرقان/ 44).
وقال:(أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف/ 179).
ثمّ النيّة تبدو من القلب على قدر صفاء المعرفة، ويختلف على حسب اختلاف الأوقات في معنى قوّته وضعفه، وصاحب النيّة الخالصة نفسه وهواه مقهورتان تحت سلطان تعظيم الله والحياء منه، وهو من طبعه وشهوته ومنيته، نفسه منه في تعب والناس منه في راحة[7].
قال الإمام محمد بن عليّ الباقر (ع): "لا يكون العبد عابداً لله حقّ عبادته حتى ينقطع عن الخلق كلّه إليه، فحينئذٍ يقول: هذا خالص لي، فيتقبّله بكرمه".
وعلينا أن نسأل الله ذلك كما ورد في المناجاة الشعبانية: "وهب لي كمال الانقطاع إليك".
قال رسول الله (ص): "يا أيّها الناس إنّما هو الله والشيطان والحقّ والباطل والهدى والضلال والرشد والغيّ والعاجلة والعاقبة والحسنات والسيِّئات، فما كان من حسنات فللّه، ومن كان من سيِّئات فللشيطان"[8].
عن أبي عبدالله (ع) في قول الله عزّ وجلّ: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (هود/ 7)، قال: "ليس يعني أكثرهم عملاً ولكن أصوبكم عملاً، وإنّما الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة الحسنة، ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا الله عزّ وجلّ، والنية أفضل من العمل، ألا وإنّ النيّة هي العمل، ثمّ تلا قوله عزّ وجلّ: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء/ 84)، يعني على نيّته"[9].
فالعمدة في قبول العمل بعد رعاية أجزاء العبادة وشرائطها المختصّة، وهي: النيّة الخالصة الصادقة والاجتناب عن المعاصي، كما قال الله تعالى:
(فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف/ 110).
وقال سبحانه:
(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27).
قال الشيخ البهائي: المراد بالنيّة الصادقة انبعاث القلب نحو الطاعة غير ملحوظ فيه شيء سوى وجه الله سبحانه، لا كمن يعتق عبده مثلاً ملاحظاً مع القربة الخلاص من مؤونته أو سوء خلقه، أو يتصدّق بحضور الناس لغرض الثواب والثناء معاً، بحيث لو كان منفرداً لم يبعثه مجرّد الثواب على الصدقة، وإن كان يعلم من نفسه أنّه لولا الرغبة في الثواب لم يبعثه مجرّد الرياء على الإعطاء. ولا كمن له وِردٌ في الصلاة وعادة في الصدقات، واتّفق أن حضر في وقتها جماعة، فصار الفعل أخفّ عليه و(الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (القيامة/ 14)، وحصل له نشاط ما بسبب مشاهدتهم وإن كان يعلم من نفسه أنّهم لو لم يحضروا أيضاً لم يكن يترك العمل أو يفتر عنه قطعاً.
فأمثال هذه الأمور ممّا يخلّ بصدق النيّة. وبالجملة فكلّ عمل قصدت به القربة وانضاف إليه حظّ من حظوظ الدنيا بحيث تركّب الباعث عليه من ديني ونفسي، فنيّتك فيه غير صادقة، سواء كان الباعث الديني أقوى من الباعث النفسي أو أضعف أو مساوياً[10]. انتهى كلامه.
فعلينا أن نجاهد بكلّ ما في وسعنا وطاقتنا من تصحيح النيّة، فإنّها أصعب من تصحيح العمل بمراتب شتّى، فإنّه ليس المراد بالنيّة – كما علم – ما يتكلّم به الإنسان عند الفعل أو يتصوّره ويخطر بباله، بل هو الباعث الأصلي والغرض الواقعي الداعي للإنسان على الفعل وهو تابع للحالة التي عليها الإنسان، والطريقة التي يسلكها، فمن غلب عليه حبّ الدنيا وشهواتها لا يمكنه قصد القربة وإخلاص النيّة عن دواعيها، فإنّه نفسه متوجّهة إلى الدنيا وهمّته مقصورة عليها، فما لم يقلع عن قلبه عروق حبّ الدنيا وجذورها، ولم يستقرّ فيه طلب الآخرة وحبّ الله سبحانه لم يمكنه إخلاص النيّة واقعاً عن تلك الأغراض الدنيّة والرذيلة، وذلك متوقّف على مجاهدات عظيمة ورياضات طويلة وتفكّرات صحيحة واعتزال عن شرار الخلق، ولهذا ورد أنّ "نيّة المؤمن خير من عمله" والنيّة أفضل من العمل والسعي في تصحيحها أهمّ وأعظم:
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت/ 69).
قال أمير المؤمنين عليّ (ع): "الدنيا كلّها جهل إلّا مواضع العلم، والعلم كلّه حجّة إلّا ما عمل به، والعمل كلّه رياء إلا ما كان مخلصاً، والإخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يختم له"[11].
قال رسول الله (ص): "إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، وإنّما ينظر إلى قلوبكم"[12].
وقال (ص): "إنّ أولى الناس أن يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأُتي به فعرّفه نِعَمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت وكلّنك قاتلت ليقال: جريء، فقد قيل ذلك، ثمّ أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلّم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنّك تعلّمت ليقال: عالم، وقرأت ليقال: قارئ القرآن فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار".
وقال (ص): "إنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى أمر دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
وقال: "نيّة المؤمن خيرٌ من عمله، وفي لفظ آخر: أبلغ من عمله".
وقال: "إنّما يبعث الناس على نيّاتهم". وقال (ص) مخبراً عن جبرئيل عن الله عزّ وجلّ أنّه قال: "الإخلاص سرّ من أسراري، استودعته قلب من أحببت من عبادي".
وهذا يعني أنّ لله ودائع خاصّة في قلوب الخواصّ من عباده وهم الذين أحبّهم الله تعالى، وإنّما سبحانه بحبّ المتّقين والمتطهّرين والتائبين والمحسنين كما في آياته الكريمة، فتدبّر.
وقال (ع): "من أخلص لله أربعين يوماً، فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".
وعن الإمام الصادق (ع)، قال: "ما أنعم الله عزّ وجلّ على عبدٍ أجلّ من أن لا يكون في قلبه مع الله عزّ وجلّ غيره"[13].
هذا وإنّ القرآن الكريم كتاب الله الحكيم يهدي للتي هي أقوم، قد مدح قلوباً وذمّ قلوباً، ونسعى ليكون قلبنا بلطف من الله سبحانه من القلوب الممدوحة والصالحة، والله الموفّق والمستعان.
الهوامش:
[13]- البحار 67: 249، عن كتاب منية المريد للشهيد الثاني.
المصدر: كتاب حقيقة القلوب في القرآن الكريم
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق