أسرة البلاغ
◄﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران/ 169).
الحسين بن عليّ (ع) شعار ومدرسة وتيّار كفاح وجهاد رسالي وسياسي فريد في تاريخ الإسلام.. لذلك كان دوره كبيراً، وأثره عظيماً.. فقد كان قوّة دافعة محرِّكة في أحداث التاريخ الإسلامي وخصوصاً الجهادي منه على مدى أجيال وقرون عديدة ولم تزل نهضته وحركته ومبادئه تتفاعل وتؤثر في ضمير الأُمّة ووعيها.
لقد كانت هناك عوامل ودواعي سياسية واجتماعية ورسالية دفعت الإمام الحسين (ع) إلى التحرُّك والثورة ومواجهة يزيد بن معاوية.. وفي مقدّمة هذه الدواعي هو انتهاك المبادئ التي يقوم على أساسها الحكم في الإسلام، والتي من أبرزها:
1- احترام رأي الأُمّة ومشاورتها في تسيير شؤون الحكم والسلطة:
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ﴾ (آل عمران/ 159).
2- سيادة القانون والقيم وجعلها مقياساً لقيمة الحاكم.. ومدى مشروعية وجوده وحقه في ممارسة صلاحياته:
﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾ (ص/ 26).
﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ (المائدة/ 48).
3- العدل والمساواة بين أبناء الأُمّة في الحقوق والواجبات بمختلف طبقاتهم وقومياتهم:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ...﴾ (النساء/ 58).
4- الكفاءة والاستقامة في تولّي شؤون الأُمّة وتسيير مهام الحكم والسياسة فيها:
"اُمِرنا أن نُنزِل الناس منازلهم" (حديث شريف).
5- العدالة في التوزيع الاقتصادي:
﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر/ 7).
"لو كان هذا المال ليَّ لسوّيت بينهم، فكيف والمال لله" الإمام عليّ (ع).
6- حق النقد والنصح والتوجيه ومناقشة سياسة الحاكم:
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران/ 104).
"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" (حديث شريف).
وحين رأى الحسين (ع) الأوضاع والظروف السياسية والاجتماعية، وتوجّه السلطة وسياستها العامّة لا تلتزم بهذه المبادئ.. وانّ الأُمّة تعيش حالة من الحيرة والضياع السياسي؛ شخّص واجبه ووظيفته الشرعية كإمامٍ وقدوة للأُمّة في أن يؤدِّي دوره السياسي والعقائدي.
لذا كانت هذه الثورة.. ثورة غنيّة بالدروس والعِبَر.. فيها التضحية بالمال والنفس والأهل والمكانة الاجتماعية.. وفيها تحدّي الإرهاب والقسوة.
فقد قطع الحسين (ع) مئات الأميال وسار الليالي والأيّام وتحرّك عبر ظرف سياسي عصيب.. ووطَّنَ نفسه على التضحية والفداء فقُتِلَ هو وأبناؤه وأهل بيته وأصحابه ومُثّل بأجسادهم وحُملت رؤوسهم: يطاف بها بين كربلاء والكوفة والشام، وسُبيت نساؤهم وحُمِلْنَ عبرَ الصحارى والقِفار، وقد كان يعلم ويتوقع حدوث كل ذلك وهو مُصِرٌّ على التضحية والفداء.
إنّ ثورة يقودها واحد من أقدس شخصيّات الأُمّة وأئمتها لتكون لها قيمتها وأهميتها العقائدية والأخلاقية والوجدانية الخاصّة.
ولأهمية هذه الشخصية وعظمة هذه الحركة الحسينية المباركة ارتأينا أن نقدم هذا المقال الموجز وهو يتحدّث عن أهم وأبرز حوادث الحركة الحسينيّة التي شغلت العالم وملأت آفاق التاريخ وشدّت الأنظار..
فهي حَرّية بأن تُدرَس وتُستوعَب وتُستخلَص منها الدروس والتجارب خاصة للشعوب المستضعفة والواقعة تحت سيطرة الطغاة والأنظمة الاستعبادية.
سائلين المولى القدير أن ينفع القرّاء وأن يُسدِّد جهودنا ويعيننا على تبليغ كلمة الخير والهداية، إنّه سميع مجيب.
الحسين الثائر
كربلاء.. كربلاء.. روضة السيف والدم والقلم.
كربلاء كلمة الحق.. أنشودة المجد في فم الزمان.
كربلاء قصيدة الشعر.. وقافية اللّوعة والألم.
كربلاء شلال الدم، وبركان الغضب المقدس.
لن تموت كربلاء.. لن تغيب شمسها من اُفق التاريخ.. لن تمحو لوعتها يد الطغاة من وجدان الأحرار.
كربلاء هطلت في أرضها سحابة الدم الحر الشهيد فأنبتت أجيال الشهداء والثوار.
ها هي أصداء الصوت الأبي الذي أطلقه الحسين تتردد في وادي الطّفوف.. وتقرع مسامع الأجيال.. وتطوف في ربوع التاريخ إعصاراً يعصف بالطغاة، وبركان دم يهزّ عروش الظالمين، ويوقظ الضمائر الحرّة، ويحرك في تاريخ الإنسان روح الثورة والجهاد، ها هو صوته يُدوِّي ويملأ مسامع الزمن:
(لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أقرّ اقرار العبيد).
فمَن هو هذا الحسين؟ وما هي معالم هذه الشخصية الفذّة العملاقة؟
إنّ رجل التاريخ اللّامع هذا.. وأسطورة الملاحم والكفاح، وكلمة الإباء والشرف هو: الحسين السبط ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ابن عبدالمطلّب بن هاشم.
وأُمّه فاطمة الزهراء بنت محمّد رسول الله (ص).. وجدّته خديجة الكبرى وأبوه ابن عمّ النبيّ (ص).
وُلِدَ الحسين الشهيد في المدينة المنوّرة في الخامس من شعبان السنة الرابعة من الهجرة[1]. وقيل في الثالث من شعبان السنة الرابعة من الهجرة.. ولد الحسين (ع) فاستقبلته الأُسرة النبوية بروح الحب والحنان، واستقبله رسول الله (ص) فسمّاه (حسيناً)[2].
نشأ وترعرع في أحضان رسول الله، وبين عليّ أمير المؤمنين وفاطمة – عليهما السلام –، فارتضع أخلاق النبوّة، وشبّ على مبادئ الرسالة الإسلامية العظيمة، مبادئ الحقّ والعدل والاباء.. أحاطه رسول الله في طفولته بمشاعر الحب والحنان.. وكان يحمله وأخاه الأكبر (الحسن) (ع) على صدره ويصرِّح أمام أصحابه ويعلن عن هذا الحبّ الأبوي الكريم ويقول:
"اللّهُمَّ إنِّي اُحِبُّهُما واُحِبُّ مَنْ أحَبَّهُما"[3].
ويصور في عبارات أخرى حبّه ورعايته للحَسنين فيقول:
"إنَّ ابْنَيَّ هذَينَ رَيحانَتايَ مِنَ الدُّنيا"[4].
"مَن أحبَّ الحسن والحسين فقد أحبّني، ومَن أبغضهما فقد أبغضني"[5].
وكان رسول الله (ص) يصلِّي والحسن والحسين يتناوبان على ظهره فباعدهما الناس فقال (ص):
"دَعوهُما بِأبِيَ هُما وأمِّي، مَن أحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ هذينِ) أخرجه أبو حاتم[6].
"مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ مِنْ أهْلِ الجنَّةِ فَلْيَنْظُر إلى الحُسَين"[7].
وهكذا يعرِّف بالحسين الشهيد في طفولته، ويشخِّص مقامه للأُمّة لئلّا تعتذر يوماً عن الجريمة بحقِّه.
وتوالت الأيّام، وتناسى العصاة قول رسول الله (ص) وفجعوه بفلذة كبده الإمام والسبط الحسين بأباحوا دمه المقدّس، واستباحوا حرماته، فذكّر ابن عمر بذلك حين سُئل بمسألة:
فَـ[عَنْ ابْنِ عُمَرَ وقد سُئِلَ عن المُحْرِم يَقْتُل الذُّبابَ، فقال: أهْلُ العراقِ يَسألُوني عَن الذُّباب، وَقَدْ قَتلُوا ابن بِنْتِ رَسُولِ اللهِ (ص)، وقَد قالَ رسولُ اللهِ (ص): "هُما رَيْحانَتايَ مِنَ الدُّنيا"][8].
وتحدّث التاريخ عن موقف آخر لأنس بن مالك وهو يقرن بين موقفين، أحدهما لرسول الله (ص) وهو يُقبِّل ثغر الحسين ويضمّه إلى صدره، والآخر لابن زياد والي الكوفة الأموي بعد استشهاد السبط الحسين، حين رأى ابن زياد يعبث برأس الحسين (ع) ويضربه بقضيبه وهو في طستٍ بين يديه، قال: لَمّا قُتِلَ الحُسينُ بن عليّ (ع) جِيءَ بِرَأسِهِ إلَى ابنِ زِياد فَجَعَلَ يَنْكُثُ بِقَضِيبٍ على ثَناياهُ، وقالَ:
(إنْ كانَ لَحَسن الثَّغر، فَقُلْتُ لأسوءنَّكَ، لَقَدْ رَأيْتُ فَم رَسُولِ اللهِ (ص) يُقَبِّلُ مَوْضِعَ قَضِيبِكَ مِنْ فِيهِ) خرّجه ابن الضحّاك[9].
أمّا أبو بكر الصديق فقد قال:
(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يقول: الحَسَنُ والحُسينُ سَيِّدا شَبابِ أهْلِ الجَنَّةِ)[10].
هذا هو الحسين في قلب رسول الله (ص) وفي عُرفه وشريعته وقد نشأت في بيت من أكرم بيوتات الإسلام وأعزّها، وهو بيت رسول الله (ص) وتربّى على خُلقِهِ ومبادئه، فكان مثال الورع والتقوى، وقدوة الاخلاص والزهد والعبادة، قوي الشخصية، شجاعاً غيوراً على الإسلام والأُمّة، ذا شخصية قيادية عظيمة، شديد التمسّك بالحق، قويّ الإرادة[11] لا تأخذه في الله لومة لائم. فبهذه الصفات العظيمة، وبهذه الشخصية العبقرية، وبهذه المكانة الاجتماعية الفريدة صار الحسين قوّة فاعلة في ضمير التاريخ الإسلامي، وإرادة حيّة تؤثر عبر الأجيال، لقد نحت له هذا المجد العظيم تمثالاً في قلب كل حرّ أبيّ يعرف للإنسانية حقها، وللمبادئ والقيَم قيمتها.
لقد آمن المسلمون بحب أهل البيت، وأحبوا الحسين كواحد من أئمة أهل البيت (ع)، لهذا كانت الفجيعة واللوعة التي رُزِئت بها الأُمّة بفقدِ الحسين عذاباً لضميرها، ومثاراً للحزن والألم فيها، ولذا كان لهذه الشخصية مقام خاص يتميّز بالحبِّ والحنان والإخلاص العظيم، لقد فاضت المشاعر من حول الحسين (ع) وتعلّقت القلوب بحبِّه وبعظم شخصيته، فقد نظم الشعراء طيلة أربعة عشر قرناً، فما نضبت القوافي، ولا أجدبت خصوبة الشعر، ولا اعتذرت صور المواقف والتصوير الفنّي لمشاعر الحزن ووقائع المأساة، وعبقرية الفداء.
وكتبت الأقلام، فما جف المداد، ولا تلكأ البيان.
وانطلقت باسمه الثورات فما توقف ينبوع الدم عن الجريان، ولا وهنت العزائم.
ورفعت باسمه الشعارات فما خبا شعار، ولا خمد صوت أعاد صدى تلك الثورة الحسينيّة العظيمة.
إنّ الشعور بالذنب، وعقدة الخذلان لأهل البيت – عليهم السلام – استحكمت في الضمير الإسلامي بعد شهادة الحسين (ع)، فقام ثوّار يطالبون بالثأر ونشأت حركات تنادي بالقصاص فكانت ثورة التوابين وثورة المختار الذي اقتصّ من قتلة الحسين... إلخ، وامتدّت سلسلة الثورات ولم يهدأ البركان إلى يومنا هذا.
لقد نصبَ المسلمون مأتماً للحسين، وعاشوا فاجعة الطّف من يوم شهادته وحتى هذا اليوم، فلم تهدأ العبرة، ولم تجف الدمعة.. والفاجعة حيّة تنمو وتتفاعل مع الضمير الإنساني، وتؤثر في وجدان الأُمّة، وتثير أشجانها.
وقد نشأت مدرسة أدبية، ومنبر حسيني، ما زال يُنَمِّي ويُحْيِي هذه المأساة ويرويها على مسامع الأجيال عبر آفاق الزمن..
وهكذا كانت كربلاء مشعلاً للثورة، وشعاراً للثوّار، ومثاراً للحزن واللّوعة، وكان الحسين تمثالاً من الحب والوفاء ينتصب في قلب كل حرّ شريف.
فهو مثال الحرّ الأبي.. ومثال الثائر المنتصر للمستضعف المظلوم وهو أحد القربى الذين أمر الله سبحانه بحبِّهم:
﴿.. قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا...﴾ (الشورى/ 23).
وهو أحد أهل البيت الذين أذهبَ الله عنهم الرِّجس بقوله:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب/ 33).
وهو أحد الذين باهَل بهم رسول الله نصارى نجران:
﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران/ 61).
"رِضا الله رِضانا أهل البيت، نصبرُ على بلائه، ويوفِّينا أُجور الصّابرين".
الإمام الحسين (ع)
الهوامش:
[1]- الشيخ المفيد (المتوفّى سنة 1421هـ)، الإرشاد، ص198.
[2]- يُروى أن مدّة حمل الزهراء بالإمام الحسين (ع) دامت ستة أشهر فقط. محب الدين الطبري: (المتوفّى سنة 694هـ)، ذخائر العقبى، ص118.
[3]- محب الدين الطبري، ذخائر العقبى، ص124.
[4]- المصدر السابق.
[5]- المصدر السابق، ص123.
[6]- المصدر السابق، ص229.
[7]- المصدر السابق، 129.
[8]- المصدر السابق، ص124.
[9]- المصدر السابق، ص126-127.
[10]- المصدر السابق، ص129.
[11]- وصفه أحد الذين حضروا معركة عاشوراء بقوله: (ما رُئيَ مكثور قط قد قُتِلَ ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه، ولا أمضى جناناً وأجرأ مقدماً منه، أن كانت الرّجّالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب). ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4، ص77.
ارسال التعليق