• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

فاتحة الكتاب.. بشارة للإنسان

السيد عبد الأعلى السبزواري

فاتحة الكتاب.. بشارة للإنسان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هذه الآية المباركة (بسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تشتمل على كثير من المعارف الإِلهية لا سيَّما الصفات الراجعة إلى ذات الباري عزَّ وجل، وفي اختيار صفتي (الرحمن الرحيم) ما فيه من البشارة للإنسان من كونه مورد رحمته وعطفه تعالى، مهما تعدَّدت أسباب الشرِّ وقويت. وفيها إرشاد إلى تعليم الإنسان لتوخِّي الرحمة والمودة في أفعاله، وجعل نفسه من مظاهر رحمته تعالى ليعرف انّه مؤمن بالله تعالى. وأن لا يعتمد على نفسه مهما بلغ من الكمال لأنّه المحتاج، بل لابد له من إيكال أمره إلى الغني المطلق.

التفسير
قوله تعالى: (بسم الله). ال‍(باء) للإستعانة، لأنَّ الإنسان مفتقر بذاته، والمحتاج المطلق لا بد أن يستعين في جميع شؤونه بالغنيِّ المطلق الذي هو الله تعالى، فالممكنات في ذاتها وعوارضها، وحدوثها وبقائها محتاجة إليه، فهي بلسان الحال تستعين به تعالى، فقدّرت الاستعانة في المقال تطبيقاً بين لساني الحال والمقال.
وجعل المتعلَّق كلّ ما يفعل بعد البسملة ـ وإن كان صحيحاً ـ لا بأس به ولكن كون المتعلق هو الإستعانة يدل عليه ـ أيضاً ـ بالملازمة، فإنَّ الإستعانة المطلقة به تعالى تستلزم الإستعانة في كل فعل يؤتى به خصوصاً ما يؤتى به بعد البسملة كما أنّ كون المتعلق هو الفعل الخاص مثل القراءة في المقام يستلزم تحقق الإستعانة المطلقة أيضاً، إذ المراد مستعيناً به لا القراءة المطلقة ولو بلا إستعانة ورعاية منه تعالى، فيكون الفرق بينهما كالفرق بين الطبيعي والفرد في أنَّ تحقق كل منهما خارجاً يستلزم تحقّق الآخر، بل هو عينه.
(اسم): اصله من السمو ـ مخففة ـ بمعنى الرفعة، ومنه السماء ويصح أن يكون اشتقاقه من السمة بمعنى العلامة، والهاء عوض الواو فيكون أصله الوسم، فالوسم والوسام والوسامة بمعنى العلامة.
والهمزة: همزة وصل التقديرين، ويصح الاشتقاق من كل منهما لأنّ التبديل والتغيير في حروف الكلمة جائز ما لم يضر بالمدلول، إلاَّ أن يكون اللفظ بخصوص شخصه سماعياً. ومن وقوع التغيير والتبديل في هذا اللفظ في الاشتقاقات الصحيحة وسهولة لغة العرب نستفيد صحَّة ما تقدَّم.
ويصح رجوع أحد المعنيين إلى الآخر في جامع قريب: وهو البروز والظهور، لأنّ الرفعة نحو علامة، والعلامة نحو رفعة لذيها، وهما يستلزمان البروز والظهور. ودأب اللغويون والاُدباء ـ وتبعهم المفسرون ـ على جعل المصاديق المتعددة ـ مع وجود جامع قريب ـ من مختلف المعنى، مكثرين بذلك من المعاني غافلين عن الأصل الذي يرجع الكل إليه فكان الأجدر بذلك بهم بذل الجهد في بيان الجامع القريب والأصل الذي يتفرع منه، حتى يصير بذلك علم اللغة أنفع مما هو عليه، ولذهب موضوع المشترك اللفظي وغيره من التفاصيل إلا في موارد نادرة.
ولعلَّ سبب إعراضهم عن ذلك هو أنّ ذكر اللفظ وبيان موارد إستعمالاته سهل يسير بخلاف الفحص عن الجامع وتفريع ألفاظ منه.
ثم إنَّ لفظ الاسم: اسم جنس لأسماء غير محصورة، تحدث وتزول على مرّ العصور، في ألفاظ ولهجات غير متناهية. وهذا من اللايتناهى الذي اتفق الفلاسفة على صحته، واصطلح القدماء منهم عليه ب‍ (اللايتناهى اللايقفي) ولشرحه موضع آخر يأتي عند قوله تعالى: (وَمِنْ أَيَاتِهِ خَلُقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاخْتِلاَفُ ألسِنَتِكُمْ وَأَلوَانِكُمْ) (الروم/22).
ولفظ الاسم هنا واسطة محضة لاسم الله تبارك تعالى، لا أن يكون له موضوعية خاصة، فيكون مما به يُنظر لا مما إليه يُنظر كما هو الشأن في جميع الأسماء، إلا أنَّ فيها واسطة لتعرّف المعنى وهنا واسطة لتعرف اللفظ أي "الله".
وعلى أية حال سواء كان الاسم من الوسم واقعاً بمعنى العلامة، أو من السمو بمعنى الرفعة، ففي ذكر البسملة يكون إظهاراً لإضافة العبد نفسه إليه تعالى إضافة تشريفيةً بذكر اسمه تعالى، ورفعةٌ لمقام العبد به، وذكر الاسم في غيره تعالى علامة للمعنى المراد، وإخراجه من الخفاء إلى البروز والظهور.
ولاريب في أنَّ الاسم عرض قائم بالغير، سواء أريد لفظ (ا س م) أو مدلوله اللفظي كلفظ "كتاب" مثلاً، وما أطيل فيه قديماً من أنّ الاسم عين المسمى أو غيره قد ظهر المتعالية بطلانه.
وفي تخلل لفظ الاسم بين حرف "الباء" ولفظ الجلالة إشارة إلى أنَّ ما هو حدّ الإدراك للإنسان إنما هو ذكر اسمه تعالى والاعتقاد به، مشيراً من حيث الإضافة إلى الذات، لا أن يحوم أحد حول كشف الحقيقة والذات، فأنها لن تدرك لغيره تعالى.
وأما قوله تعالى: (اقرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق/1) مخاطباً نبيه (ص) حيث ذكر الاسم فيه أيضاً، فهو لأجل تعليم الغير، لا بالنسبة إلى مقام النبي الجامع من الحقائق كنوزها، والحاوي لدقائق رموزها.
ثم أنّه قد ذكرت هذه الكلمة (اسم) في القرآن الكريم مفردةً ومجموعة مضافة إلى الله تعالى، وإلى الرب، وإلى الضمير الراجع إليه تعالى، وموصوفة. فقال تعالى: (وَللهِ الأسْمَاءُ الحُسْنَى) (الأعراف/ 180). وفي الكل مقرونة بالتعظيم والتجليل.
الله: أجل لفظ في الممكنات كلِّها، لأعظم معنىً في الموجودات جميعها. بهت في عذوبة لفظه كل سالك مجذوب، وتحير في عظمة معناه جميع أرباب القلوب، تتدفقَّ المحبة والرأفة عن الاسم فكيف بالمعنى؟! فكأن نفس المعنى يتجلى فيه فيقول: (إِنَّني أَنَا اللهُ لاَ إِلَه إِلاَّ أَنَا) ( طه/ 14) جمعت فيه من الكمالات حقائقها ومن الألطاف والعنايات دقائقها ورقائقها، يطلبه الملائكة الكروبيون كما يطلبه أهل الأرضين، فما أعظم شأنه فقد عجزت العقول ـ وإن قويت فطنتها ـ عن درك أفعاله فضلاً عن صفاته فكيف بذاته؟! فكلمّا زاد الإنسان تأملاً فيه زيد تحيراً وجهلاً، فسبحان الذي اكتفى بالتحيّر في الذات والصفات والأفعال عن التعمق فيها، لعلمه الأزلي بعدم قدرة ما سواه على ذلك، أو لعدم لياقة جملة من العقول به.
ثم إنّه قد ذكر أهل اللغة أنّ (الله) اسم جنس للواجب بالذات ولكنه منحصر في الفرد كالشمس والقمر ونحوهما وتبعهم فيه جمع من المفسرين.
وهو غير صحيح عقلاً؛ لأنّ المتفرد بذاته في جميع شؤونه وجهاته والبسيط فوق ما نتعقله من معنى البساطة كيف يقال في اللفظ المختص به إنّه اسم جنس (عام)؟!
وقد ثبت في الفلسفة الإلهية المتعالية أنّ الكلية والجزئية والجنسية ونحوها من شؤون المفاهيم الممكنة، وذاته الأقدس فوق ذلك مطلقاً، فلا يصح إطلاق اسم الجنس على اللفظ المختص به تعالى.
نعم، لو أراد القائل بأنّه اسم جنس على نحو الجنسية الوجودية، أي: السعة الوجودية بالعنوان المشير إلى الذات لا الجنسية الماهوية، لكان له وجه لطيف، ولكنهم بمعزل عن ذلك.
نعم، ربما يطلق الإله على غيره تعالى إطلاقاً اعتقادياً باطلاً، كقول فرعون: (مَا عَلِمتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص/ 38) وقوله تعالى: (أَجَعَلَ الأَلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً) (ص/ 5).
كما أنّ القول بأنّ (الله) اسم جنس باطل من جهة العلوم الأدبية أيضاً، لعدم وقوعه صفة، ووقوعه موصوفاً دائماً، فلا يصح أن يكون اسم جنس، بل هو علم مختص لواجب الوجود بالذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية لظهور آثار العلمية فيه على ما هو المعروف بين الأدباء.
ونظير ذلك ما ذكروا: انّه مشتق من (وَلَهَ) بمعنى تحيَّر، أو من (ألَهَ) بمعنى تعبَّد، لتعبّد الكل له تكويناً أو اختياراً، وتحيّرهم فيه.
وهذا ـ أيضاً ـ مردود بأنّ التحيّر والتعبّد عنوان وصفي، فلا يصح أن يؤخذ في ما هو اسم للذات المتصف بجميع صفات الجمال والكمال والجلال.
فالحقّ ما نُسب إلى الخليل اللغوي وغيره من أنّ لفظ الجلالة بسيط وليس بمشتق، واللام جزء اللفظ، وأنّ الواضع له هو الله تعالى، بل جميع أسمائه عرفت بتعليمه عزَّ وجلَّ، فهو المعرِّف فيها والمعرِّف بها، ويشهد له قول الصادق (ع): "اعرفوا الله بالله".
إن قلت: إنّ كلام اللغويين في مفهوم (الله) من حيث إنّه مفهوم لا الذات الأقدس، إذاً لا إشكال في صحة قولهم في الاشتقاق وكونه من اسم الجنس.
قلت: قولهم إنما يصح في المفاهيم الممكنة وأما إذا كان الموضوع واحداً وواجباً بالذات يكون الإطلاق عليه مع إطلاقه على الممكن كالاشتراك اللفظي، كما ذهب إليه جمع من الفلاسفة في أسمائه تعالى، فيكون إطلاقه عليه تعالى بنحو العلَمية وفي الممكن بنحو اسم الجنس، كما في لفظ المدينة ـ مثلاً ـ فإنّها علم لمدينة الرسول (ص) واسم جنس لسائر المدن، ولكن في اسمه تعالى لا يجوز إطلاقه على غيره لاختصاصه به، كما في قوله تعالى: (إِنَّني أَنَا اللهُ لاَ إِلَه إِلاَّ أَنَا) (طه/ 14) ويستفاد ذلك من كلام العرب قبل الإسلام أيضاً هذا ما يتعلق بلفظ الجلالة من حيث هو.
وأما معناه فلا ريب في أنّه مما تحيَّرت فيه العقول، مع اعتراف الجميع بوجوده، ودأب القرآن وما ورد في الشريعة التعبير عنه تعالى بالأسماء الحسنى (الصفات) التي ذكرت في القرآن، من دون تحديد بالنسبة إلى الذات، بل ورد في الأثر عن الأئمة (عليهم السّلام): "يا مَن لا يعلم ما هو، ولا كيف هو، ولا أين هو، ولا حيث، إلا هو" فأثبتوا له تعالى أصل الهوية ولكن حصروا العلم بالهوية به تعالى".
وأما ما ورد عن الفلاسفة المتألهين: إنّه الذات الجامع لجميع الكمالات الواقعية، والمسلوب عنه جميع النواقص كذلك. وعن العرفاء وبعض محققي الفلسفة الإلهية: أنّه الذات المسلوب عنه الإمكان مطلقاً. وعن بعض قدماء اليونان: ـ الذي عبر عنه في كلماتهم بشيخ اليونانيين ـ أنّه ذات فوق الوجود.
ولعل عدم تعرض القرآن وسائر الكتب السماوية لحقيقة ذاته الأقدس لوضوحه بالآثار، وقصور الممكن مطلقاً عن درك حقيقة ذات الواجب، وإنما حدّه درك الآثار فقط، وهو تعالى بين ذلك كاملاً في كتابه، وتتم بذلك الحجة والبيان.
وعلى أي تقدير فـ(الله) هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى التسعة والتسعين، أو الثلثمائة وستين التي من أحصاها دخل الجنَّة ـ على ما رواه الفريقان ـ وهذه الأسماء المباركة منطوية في لفظ الجلالة انطواء الشعاع في نور الشمس، مع المسامحة في هذا التشبيه.

قوله تعالى: (الرَّحَمنِ الرَّحِيمِ)
هما من الرحمة ومن مشتقاتها، ورحمتُه عزَّ وجلَّ أعمّ صفاته، وأوسعها شملت جميع ما سواه، قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعتَ كُلَّ شَيْءٍ)
( الأعراف/ 156) فكلما يطلق عليه شيء في جميع العوالم يكون من رحمته تعالى.
وإشكال: أنّ الشرَّ يطلق عليه الشيء أيضاً، فلا بد وأن يكون من رحمته تعالى. مردود: بأنّه ليس فيه التكوينيات شرّ محض، وإنما يتحقق الشر بالإضافة وأما في الاختيارات فإنّ وساطة الاختيار بين الفعل والفاعل تجعل الشرَّ الفاعل، فلا يكون من رحمته كما في قوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) (النساء/ 79).
وفي قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ) (لقمان/ 27) إشارة إلى مظاهر رحمته الواسعة، وقد اعترف الأنبياء (صلى الله عليهم) والأئمة (عليهم السّلام) وجميع الفلاسفة المتألهين بالقصور عن الإحاطة بمراتب رحمته تعالى الواسعة، وأنّ بعض عظمائهم أطال القول في أنّ وجود كل شيء من رحمته تعالى، وأثبت ذلك بالأدلة الكثيرة، ومع ذلك أعترف بالقصور عن دركها.
ثم إنّ هاتين الكَلِمَتين من الصفات المشبهة، إلاَّ أنّهم فرّقوا بينهما بوجوه:
الأول: أنّ (الرحمن) مبالغة، و(الرحيم) صفة مشبهة تدلّ على مجرد الثبوت. هذا، وإن كان صحيحاً بالنسبة إلى ذات اللفظين حين الإطلاق على المخلوق، وأما من حيث إضافَتِهمَا إلى الله عزَّ وجلَّ فلا وجه للمبالغة بالنسبة إليه تعالى، لأنّ صفاته بالنسبة إليه تعالى غير محدودة فلا تجرى المبالغة فيها. نعم تصح المبالغة بالنسبة إلى مورد الرحمة على نحو قوله تعالى: (من جاءَ بَالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (الأنعام/ 160) وقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران/ 37) إلى غير ذلك مما ترجع المبالغة فيه إلى المبالغة بالنسبة إلى المخلوق.
وأما ما في بعض التفاسير: من أن فعلان لا يدلّ على الثبوت بخلاف فعيل، وإنما ذكر تعالى (الرحيم) لأجل إظهار ثبوت الرحمة بالنسبة إليه تعالى.
مخدوش: لأنّ التفرقة بين اللفظين إنما تصح في الممكنات دون الواجب تبارك وتعالى، كما عرفت.
الثاني: الرحمن يختصَّ بالدّنيا، والرَّحيمُ بالآخرة، لتقدّم الدنيا على الآخرة في سلسلة العوالم والنشآت الزمانية فيكون المقدّم للمتقدَّم والأخير للمتأخر، أو لذكر الرحيم مقروناً بالغفران والتوبة في جملة من الآيات الكريمة والغفران وأثر التوبة في الآخرة الرحيم مختصاً بها.
والوجهان مخدوشان لا يصلحان حتّى للاستحسان، فأنّ العوالم بالنسبة إليه تبارك وتعالى في عرض واحد، وإنَّه محيط بالزمان والزمانيات وخارج عنهما إلاَّ أن يحلظ ذلك بالنسبة إلى المخلوق. وقد ورد الرحمن بالنسبة إلى الآخرة في قوله تعالى: (الملكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ)
( الفرقان/26)، وقوله تعالى (يوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إلَى الرَّ حْمَنِ وَفْداً) (مريم/85)، كما ورد الرحيم بالنسبة إلى الدنيا في قوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء/29)، وقد ورد عن الأئمة الهداة: "يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما".
الثالث: أنّ الأول عام للجميع لقوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعتَ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف/ 156) والثاني خاصٌ بالمؤمنين لقوله تعالى: (بالمؤمنينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة/ 128).
وهو ـ أيضاً ـ مردود، فإنّ ذكر بعض الأفراد وأشرفها لا يدل على نفي ما عداه إلاَّ بالمفهوم، وقد ثبت في محلّه أنّه لا مفهوم للقيد، فراجع.
الرابع: أنَّ الرحمن ذات الرحمة الشاملة لكل محتاج إليها، وبجميع مراتبها التفضلية، بلا اختصاص لها بنوع دون نوع، من الجماد والنبات والحيوان والإنسان وسائر المخلوقات، فلأجل إهمال المتعلَّق استفيد العموم والشمول لجميع الأنواع الممكنة من حضيض الجمادات إلى أوج المجرَّدات.
نعم، من أهمِّ مصاديق الرحمانية تنظيم عالم التكوين بأحسن نظام ومن أجل مصاديق الرحيمية تنظيم التشريع بأكمل نظام، وأثر التشريع إنما يظهر بالنسبة إلى المؤمنين العاملين به، اختص الرحيمية بالآخرة من هذه الجهة، فهو تعالى رحيم في الدنيا بالتشريع وفي الآخرة بالجزاء عليه.
والذي ينبغي أن يقال: إنّه لاريب أن جميع ما سواه تعالى مورد إفاضة الوجود منه تبارك وتعالى وهذا هو الرحمة الرحمانية التي خرج بها ما سواه من العدم إلى الوجود؛ كما لا ريب في أنّ كل نوع من أنواع الموجودات مطلقاً بل كل صنف له خصوصية لا توجد تلك الخصوصية في غيرها، وهي غير محدودة بحدّ، وتنكشف في طيّ العصور ومرّ القرون، وتلك الخصوصيات غير المتناهية المجعولة منه تبارك وتعالى مورد الرحمة الرحيمية.
فكما أنّ في الإنسان نوعاً خاصاً منه وهو المؤمن مورد رحمته الرحيمية كذلك يكون في المَلَك والفَلَك والَجماد والنبات والحيوان ـ أيضاً ـ أصناف خاصَّة تكون في الأصناف مورد رحمته الرحيمية، بعد عدم برهانٍ صحيح على اختصاص رحمته الرحيمية بخصوص دار الآخرة، كما عرفت.
وقد ذُكرا في مفتتح القرآن العظيم للإِعلام بأنّ القرآن من أبرز مظاهر رحمتيه تعالى، أما الرحمانية فلفرض وحيه وإنزاله، وأما الرحيمية فلأنّه تبارك وتعالى تجلّى لعباده فأظهر فيه المعارف الربوبية، وخلاصة الكتب السماوية وزبدة التكوين والتشريع، وربط به قلوب أوليائه.
ثم إنّه يظهر من ذكر الرحمن بعد اسم الجلالة في البسملة وفي قوله تعالى: (قلِ ادْعُوا اللهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) (الإسراء/110).
وسائر موارد استعمال هذا الإِسم المبارك في القرآن العظيم أنّ لهذا الاسم الشريف أهمَّية عظمى، ومنزلة كبرى عند الله تعالى، فهو من اُمهات الأسماء كالحي، والرب، والقيوم، والرحيم، وإلى هذه الأربعة ترجع سائر أسمائه عزَّ وجلَّ. فإذا رجعنا إلى موارد استعمالات هذا اللفظ في القرآن الكريم نرى أنّه استعمل مقروناً بالتعظيم والتجليل بالنسبة إلى عالمي الدنيا والآخرة، قال تعالى: (جناتِ عَدْنٍ الَّتي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبَادَهُ بِالغَيْبِ) (مريم/ 61)، وقال تعالى: (الملكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ) (الفرقان/ 26)، وقال تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَّمَ القُرْآنَ) (الرحمن/ 1) وقال تعالى: (ما ترَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوتٍ) (الملك/ 3).
وأما الرَّحيم فقد ذكر في القرآن الكريم غالباً مقروناً مع الرؤوف والتواب والغفور، فقد جمع الله تبارك وتعالى في كتابيه التدويني (القرآن)، والتكويني بين رحمته الرحمانية ورحمته الرحيمية، فتكون الرحمة الرحمانية عامَّة لجميع الممكنات، قال تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى) ( طه/5) أي: استولى، والعرش هنا عبارة عمَّا سواه تعالى، والرحمة الرحيمية تعم جميع ذوي الكمالات التي اُفيضت عليهم، من المجردات إلى الجمادات، فتكون من مظاهر رحمتيه تعالى الرحمانية، كما عرفت.

المصدر: كتاب تفسير البسملة عن كتاب مواهب الرحمن في تفسير القرآن/ج1

ارسال التعليق

Top