• ١٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المتحف.. جوهرية القداسة

صالح أحمد الشامي

المتحف.. جوهرية القداسة

الفنان..؟!

هل هو إنسان سوي؟

أم هو إنسان ملهم؟

أم هو إنسان مهووس أو ممسوس؟

أم...؟

تلك قضية بدأها الفيلسوف اليوناني "أفلاطون" حينما تحدث عن شخصية "الشاعر" وعن "شعر الشاعر".

إنّه يقول: "إنّ جميع الشعراء العظام الملحميون، فهم والغنائيون على السواء، إنما يؤلفون، لا بالفن، بل أنّهم ملهمون وممسوسون".

ويقول: "إنّ ما يؤلفه الشعراء، لا يؤلفونه بالحكمة، بل بالطبيعة، ولأنّهم ملهمون مثل الأنبياء. وما نحي المعجزات".[1]

وواضح من قوله أنّ الشاعر "الفنان" إنسان غير عادي، فهو ملهم أو ممسوس، كما أنّ دوره في إنتاج الشعر، إنما هو دور سلبي، إنها عملية تلقٍ فقط، فالعمل الفني ليس من صنع الإنسان، بل هو إلهام يتلقاه الإنسان..

ومهما يكن من أمر فقد كان موقفه ذاك، بداية انطلاق – فيما يبدو – في النظرة إلى الفنان نظرة خاصة ترتفع به فوق الناس..

وتتابع الفلاسفة بعد ذلك، وانضم إليهم علماء الجمال أخيراً، في مناقشة هذه "المشكلة" والإدلاء بآرائهم في شأنها.

لقد "جاءت الأفلاطونية الجديدة فعملت على توطيد دعائم تلك النظرة الصوفية إلى الفن، حتى لقد ساد بين الناس الزعم بأنّ الفنان موجود غير عادي!، قد حباه الله ملكة الإبداع الفني التي تكسب كلّ ما تلمسه طابع السحر والسر والإعجاز!! وهذا ما نادى به على وجه الخصوص "الأفلاطونية" في عصر النهضة، إذ كانوا يمجدون الفنان ويفسرون الأعمال الفنية بأنها ثمرة لملكة سحرية لا نظير لها عند عامة الناس".

"ولم يلبث أصحاب النزعة "الرومانتيكية" أن قدموا لنا الفنان بصورة الرجل الملهم الذي يتمتع بعاطفة مشبوبة، وحس مرهف، وحدس لماح، وبصيرة حادة، وإدراك نفاذ، وقدرة هائلة على الابتكار، حتى لقد انتهى بهم الأمر إلى تأليهه أو عبادته.."[2].

وهكذا اتجهت آراء كثير من الفلاسفة، وكذلك المدارس الفنية، إلى تصوير "الفنان" بصورة الشخصية الفذة النادرة.. الملهمة!! وتسليط الأضواء على إنتاجه الفني أو تصرفاته من خلال هذه النظرة الخاصة.

ولقد صادفت هذه النظرة إلى الفنان هوى في نفوس الفنانين أنفسهم. فذهبوا على مرّ العصور يؤكدون لأنفسهم هذه المكانة، عن طريق روايتهم لما يرونه؛ من إلهاماتهم ورؤاهم.. وغيبوباتهم.

إنها منزلة تكريم، من جانب، وهي من جانب آخر تبرير لانحراف المنحرفين منهم، فكلّ سلوك أو تصرف غير سوي يصدر عن فنان، يجد له تفسيراً أو تعليلاً من خلال هذه النظرة. ذلك أنّ فنية الفنان وإلهامه حين يسيطران عليه يجعلانه يغيب عن ذاته وتبقى الكلمة للفن.

وهكذا نَعِم الفنانون بكلِّ تقدير، ووجدوا من يدافع عن إنتاجهم وعن سلوكهم أياً كان وضعه، والمتحف كان خير مكان لتمجيد ذلك الفن.

يرى الفيلسوف الفرنسي "ألان" (1868 – 1951م) أنّ الفنان ليس مجرد شخص عادي يصح لنا أن نطالبه بالخضوع للبشر، أو الامتثال للعادات الجمعية، بل هو إنسان عبقري لابدّ لنا من أن نعده "قانوناً لنفسه"[3].

وقد أكّدت التعاليم الكنسية هذا المعنى، كما يروى لنا ذلك الفنان الانكليزي "كات ستيفنز" في قصة إسلامية، حيث قال: ".. عدت من جديد إلى تأليف الموسيقى وشعرت أنها هي ديني. ولا دين لي سواها، وحاولت الإخلاص لهذا الدين، حيث حاولت إجادة التأليف للموسيقى، وانطلاقاً من الفكر الغربي المستمد من تعاليم الكنيسة الذي يوحي للإنسان، أنّه قد يكون كاملاً كالإله إذا أتقن عمله أو أخلص له وأحبه"[4].

وهكذا كان للكنيسة إسهام في تقرير فكرة وجود إنسان كالإله!! ولعل هذه المعاني والعوامل مجتمعة هي التي دفعت "نيتشه" إلى المناداة بفكرة "الإنسان الأعلى" وأنّ هذا الإنسان هو "الإله الجديد"[5].

والفنان هو أحق الناس بالإنسان الأعلى؟!

 

المتحف:

وقد سرت نظرة التقدير هذه إلى الفن، الذي هو إنتاج الفنان، فالمتاحف – وهي الأماكن المعدة لعرض إنتاج الفنانين – أصبح لها من القداسة، ما هو شبيه بقداسة دور العبادة.

تقول المهدية مريم جميلة، في كتابها: الإسلام في النظرية والتطبيق:

"يجد الزائر الغريب للمتاحف الشهيرة، مثل "اللوفر" في باريس، و"المتروبوليتان" في نيويورك، الجو في هذه الأماكن شبيهاً للغاية لبيت العبادة، فلقد ربي كلّ متفرج منذ طفولته ليعظم كلّ الصور والتماثيل المحفوظة في هذه الأمكنة. وكأنها ذروة الكمال، ولكلِّ منها قيم لا تقدر بثمن، وليس له بديل، فعندما يقف أمام فينوس دي ميلو، أو الموناليزا، لليوناردو دافنشي يؤخذ فيعجز عن الكلام.."[6].

يضاف إلى ذلك: الجو الذي يضفيه المشرفون على هذه المتاحف من التعتيم المصطنع في بعض الأماكن، والإضاءة الخافتة في بعضها الآخر. ومن أسلوب العرض لبعض اللوحات، كأن تعرض لوحة واحدة بمفردها في قاعة خاصة بها، كما هو الشأن في لوحة الموناليزا في متحف اللوفر، وقد يخصص لها بناء مستقبل، كما هو الشأن بالنسبة للوحة "الجورنيكا" حيث خصص لها بناء خاص ملحق بمتحف البرادو في مدريد.

كلّها أمور تنبع من فكرة التقدير الكبير للفنان والارتفاع به فوق مستوى البشر.

وعظمت قيمة الإنتاج الفني حتى أضحت – في كثير من الأحيان – أكبر من قيمة الإنسان نفسه:

"جاء في كتاب: الثقافة الإسلامية للسيد محمد مرمادوك بكثال:

لا شكّ أنّ البعض منكم يذكر البحث الذي ورد في الصحف البريطانية منذ سنوات. ولقد كان السؤال ما يلي:

لنفرض أنّ تمثالاً يونانياً شهيراً وجميلاً فريداً من نوعه، وهو لذلك لا يعوض، كان في غرفة واحدة هو وطفل حي، واندلعت النيران في الغرفة، ولم يكن بالإمكان إلا إنقاذ الواحد أو الآخر، فأيهما يجب إنقاذه؟

إنّ كثرة عظمى من الذين أجابوا برسائلهم من الرجال ذوي الثقافة والمكانة المرموقة قالوا – حسب ما أذكر –: بأنّه يجب إنقاذ التمثال وترك الطفل يهلك. وكانت حجتهم في ذلك، أنّ ملايين الأطفال يولدون يومياً، بينما لا يمكن تعويض ذلك العمل اليوناني العظيم"[7].

تلك هي النظرة السائدة بشأن الفنان، ولا شكّ أنّ بعضهم لم ير فيه أكثر من إنسان عادي، ولكن الاتجاه الآخر غلبهم على أمرهم، فلم يقدر لرأيهم أن يقف على قدم المساواة مع الرأي الأوّل.

 الهوامش:


[1]- دراسات في علم الجمال، مجاهد، ص55.

[2]- مشكلة الفن، زكريا إبراهيم، 145.

[3]- فلسفة الفن في الفكر المعاصر، د. زكريا إبراهيم، ص140.

[4]- المجلة العربية، عدد 104.

[5]- مشكلة الإنسان، د. زكريا إبراهيم، ص187.

[6]- الإسلام في النظرية والتطبيق. تأليف: المهدية مريم جميلة. ترجمة س. حمد، مكتبة الفلاح – الكويت ط1 1398هـ، ص76.

[7]- المصدر السابق، ص76.

المصدر: كتاب الفنّ الإسلامي التزام وابتداع

 

ارسال التعليق

Top