"الإنسان الرقمي" تعبير أصبح مشهوراً منذ أن جعله نيكولاس نيغروبونتي عنواناً لأحد كتبه. والمعلوم أن نيغروبونتي هو من أكبر المتخصصين في العالم في مجال تكنولوجيا الإعلام، وهو مدير قسم المعلوماتية في أحد أبرز معاهد البحث المتطوّر في العالم، معهد ماساوستس للتكنولوجيا MIT.
وكانت البشونية عرّفت الإنسان منذ أرسطو إلى مشارف العصر الحديث بكونه "الحيوان الناطق"، فجسّد هذا التعبير ثقافة العصر الوسيط التي كانت تتمحور حول اللغة واستقصاء النصوص المقدّسة وغير المقدّسة. إلى أن أطلق عالم الأحياء الشهير كارل فون لينّيه عام 1758 تعبير "الإنسان العارف" ليصبح التعريف الجديد للإنسان وتجسّد الاتجاه الجديد للثقافة الإنسانية التي أصبحت تتجه نحو المعرفة المباشرة عبر الملاحظة والتجريب والتصنيف... إلخ. ثمّ في القرن التالي – التاسع عشر – ظهر تعبيراً "الإنسان الصانع" و"الإنسان الاقتصادي" لتأكيد شدّة ارتباط الإنسان في العصر الرأسمالي بعملية الإنتاج وبمصالحه ضمن هذه العملية. لعل من حقنا حينئذ أن نجعل عبارة "الإنسان الرقمي" التي أطلقها نيغروبونتي حلقة جديدة وأخيرة في هذه السلسلة وتعبيرة عن خاصية الإنسان في مستهلّ القرن القادم. فلا يمكن اليوم تصفّح مجلة أو صحيفة بدون الإصطدام بتنبؤات مذهلة وغامضة في الآن ذاته تنطلق من التطوّر السريع للتكنولوجيا الإعلامية بمختلف فروعها، وسواء تعلّق الأمر بالوسائل السمعية – البصرية أو بالاستعمالات الجديدة للهاتف أو بالأشكال المستقبلية للحاسوب أو بشبكة الإنترنت المشهورة، فإنّ هناك مبدأ تكنولوجيا أساسياً هو الذي فجّر هذه الثورة، وهو ما يطلق عليه "الترقيم". لا يتطلب فهم هذه الثورة التكنولجية كفاءات خارقة، يكفي أن نتبين المثل التالي: عندما وضع ألكسندر بل عام 1876 النموذج الأوّل لآلة الهاتف الحديثة، كان كلّ عبقريته أنّه استطاع أن يجد حلاً لمشكلة إعادة نفس الذبذبات من بُعد. فنحن نسمع كلام الآخرين إذا كانوا على مقربة منّا لأنّهم يحدثون أصواتاً، أي ذبذبات هوائية يمكن لنا التقاطها بآذاننا، أما إذا كان المتكلم بعيداً فلا نسمعه لأننا نعجز عن التقاط الذبذبات الهوائية. وقد استطاع بِلْ أن يجد حلاً للمعضلة بواسطة الكهرمغنطيس، أي بتحويل الذبذبات الأصلية – وهي هوائية – إلى موجات كهربائية ثمّ نقلها إلى مكان بعيد وتحويلها مجدداً إلى ذبذبات هوائية وهكذا يمكن الاستماع إلى الصوت رغم بُعد المسافة. لكن لنتصوّر الآن ملياراً أو مليارين من البشر يريدون التواصل فيما بينهم بهذه الطريقة، فالأمر سيحتاج حينئذ إلى عدد غير معقول من الأسلاك. ورغم أنّ التكنولوجيا الصوتية وجدت العديد من الحلول لإدارة هذا العدد، فإنّ الثورة الإعلامية الحقيقية بدأت عندما استطاع العلماء أن يحوّلوا الذبذبات (أو أيّة إشارات أخرى) إلى أرقام ببساطة يصبح أي صوت من الأصوات مجموعة من الأرقام، وبذلك يمكن لنا التواصل عن بعد بأقل التكاليف، لكن يمكن أيضاً خزن الأصوات أو تعديلها وتحويرها. ولا يقتصر الترقيم على الأصوات، فهو ينسحب أيضاً على الصور (فهي ذبذبات ضوئية). وبما أنّ أجهزة الحاسوب أصبحت اليوم في غاية السرعة والقوّة، فهي قادرة على إدارة كل هذه "الأرقام" بالكيفية التي يريدها الإنسان. لذلك يُمكن تصوّر عالم الغد بالشكل التالي: لن يكون الإنسان محتاجاً إلا إلى آلة واحدة هي الحاسوب، بفضلها يستطيع أن يتصل بأي شخص في العالم (شرط أن يكون له أيضاً حاسوب) عبر تحويل الأصوات إلى أرقام ثمّ إعادتها إلى الشكل الأوّل ويمكن أن يخزن معلومات صوتية (محاضرات، ندوات..) أو يحصل عليها من أي مكان من العالم، ويمكن أن يستغني نهائياً عن مدارس بلده وجامعاته لأنّه يصبح قادراً على الاستماع إلى أيّة محاضرة في أكبر جامعات العالم. كذلك لن يكون محتاجاً إلى الكتب لأنّ الحروف بدورها يمكن ترقيمها ويمكن أن نضع محتوى مكتبة ضخمة على بضعة أقراص مدمجة (CD ROM). على سبيل المثال، يمكن اليوم اقتناء الموسوعة الشاملة (Enc. Universalis) في طبعة ورقية من 28 مجلداً أو في طبعة إلكترونية من قرص واحد يزن 30 غراماً. أما المجلات والصحف فقد تكون أول شهداء هذه الثورة الحديثة، لأنّ ارتفاع أسعار الورق والشحن فضلاً عن الأضرار المتصلة بالبيئة بفعل قطع الأشجار كلها عوامل تدفع إلى تشجيع الصحافة الإلكترونية التي تنقل المقال من الكاتب إلى القارئ عبر أسلاك الهاتف العادية. فالحاسوب الذي يقدّم لك كل صباح صحيفتك المفضّلة على شاشة، يمكن له أيضاً أن يختار لك ما تشاء من برامج التلفزيون. فطالما أنّ هذه تُبثّ مرقمة، فإنّه قادر على التقاطها وتحويلها مجدّداً إلى صور ممتعة. تكاد كل هذه الاستعمالات المذهلة تكون بمثابة ألعاب الصغار إذا ما قارناها بما تخفي الثورة التكنولوجية من أسرار لا يعلم كل حقائقها إلا أصحابها. والأكيد أنّ السيطرة ستكون مستقبلاً من نصيب الأكثر قدرة على تصيّد المعلومات المرقمة. ليست تلك المتعلقة بمكالمات اخوانية أو برامج ترفيهية، لكن تلك المتعلّقة بالتكنولوجيا والمعرفة العلمية وأسرار الدفاع ومراقبة الطبيعة والتجسّس الصناعي والبحوث... إلخ. وها هنا لن يكون كافياً امتلاك حاسوب منزلي ولا قضاء بعض الساعات في الإبحار على الإنترنت مثلاً، فضلاً عن ضرورة وجود تجهيزات ضخمة للبثّ والاستقبال – عبر الأقمار الاصطناعية مثلاً – يمكن للفرد الواحد الاعتماد عليها. هل هذا أمر يدعو إلى التفاؤل أم إلى التشاؤم؟ لا شك في أننا نعيش اليوم ثورة تكنولوجية تضاهي أهمية الثورة الصناعية الأوروبية في القرن التاسع عشر، لذلك فإنّ موقعنا مستقبلاً سيرتبط بكيفية تعاملنا معها. فإذا كان أجدادنا قد جهلوا الواقع المحيط بهم إلى أن تحوّلت الثورة الصناعية الأوروبية إلى غزو استعماري نتيجة تراكم فوائض السلع والرساميل، فأصبحوا عاجزين بعدها عن معالجة آثار وضع جهلوا بداياته، فإننا قد نكرر اليوم نفس المأساة ونجعل أحفادنا مستقبلاً عاجزين في الصراع العالمي من أجل توظيف المعلومة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتقنياً... إلخ. ففي عصر "الإنسان الرقمي" قد نتحوّل نحن إلى مجرد أرقام، إلى حشد من المعلومات يحلّلها غيرنا ويوجهنا الوجهة التي يريد. إننا نشهد اليوم اهتماماً متزايداً لدى العرب من رجال السياسة والإعلاميين والتقنيين بهذه التطورات التي تحيط بنا، لكننا نُلاحظ أيضاً غياب أي مجهود أدنى لتنسيق الجهد ورسم استراتيجيات عربية موحّدة لمواجهة هذا الوضع الجديد، أو على الأقل التعاون في ما لابدّ من التعاون فيه، مثل تطوير التجهيزات الأساسية للبث والاستقبال. هذا إضافة إلى أننا نكاد نصطدم منذ البداية بالسلبيات دون الإيجابيات، ويدفعنا التوجّس إلى "رمي الرضيع مع الماء" كما يقول المثل الفرنسي. فشبكة الانترنت مثلاً لم تحدث في العالم العربي ذلك الوقع الذي أحدثته في الخارج – ولا أتحدث هنا عن الوقع الإعلامي ولكن عن توظيفها حقيقة لأغراض البحث في المجالات المختلفة – والسبب في ذلك أنّ الفرد الواحد لا يمكن أن يستفيد من كل إمكانيات هذه الشبكة إلا إذا توافرت في البلد الذي يقيم فيه مجموعة من التجهيزات الأساسية تتطلب استثمارات ضخمة، وليس من السهل الإقدام على هذه الإستثمارات ذات النتائج الآجلة في وضع يتميّز بعسر إدارة المهام العاجلة. فكيف يمكن مثلاً إقناع مراكز القرار بالاستثمار في مشاريع تمكّن من التواصل مع مكتبة الكونغرس إذا كانت لا تزال مستفحلة في أكثر من نصف سكان العالم العربي؟ وإضافة إلى المصاعب المادية، فإنّ هناك عوائق أخرى مثل الاستعمالات غير الأخلاقية للوسائل الجديدة، على غرار ترويج الدعاية الإباحية أو دعاية الحركات الإرهابية. وهنا أيضاً نشهد ردود فعل إنعزالية تتمثّل خاصة في وضع شروط عسيرة التحقيق لطالب الاشتراك في هذه الشبكات أو فرض رسوم مالية باهظة، عدا عن أنّ الخصخصة أصبحت تشمل كل القطاعات دون هذا القطاع بالذات، لذلك فإنّ العديد من المؤسسات الأجنبية تقبل الاستثمار في هذا الميدان لكن هاجس المراقبة المباشرة يكون حائلاً دون قبول خدماتها. والخلاصة أنّ هناك وضعاً جديداً لا يمكن التغاضي عنه، وأنّ من المشروع جدّاً أن نتخوّف من آثاره السلبية، لكن من الخطأ الفادح أن نسلك أمامه مسلك النعامة. فـ"القرية الكونية" التي يبشّر بها البعض، ستكون فضاء صراعات تماماً كما هي الحال اليوم، لكنها ليست صراعات حول المواد الخام أو الأقاليم، بل حول المعلومة. فهل نحن مستعدون لذلك؟ المصدر: كتاب مواقف من أجل التنويرمقالات ذات صلة
ارسال التعليق