• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الأُمّة الصائمة القائمة.. أقدر على مواجهة التحديات

مجموعة كتاب

الأُمّة الصائمة القائمة.. أقدر على مواجهة التحديات

أظلّنا شهر رمضان بنفحاته وبركاته.. شهر القرآن والخير والبر.. شهر الفضل والمرحمة.. شهر السمو الأخلاقي والروحي.. شهر هو تاج الشهور وذروة سنامها.. شهر هو مدرسة.. لا بل جامعة ليس لها نظير على مدى الدهر، وكرّ الليالي والأيّام.

شاءت إرادة الله – تعالى – أن يُفرد للناس شهراً في السنة يصححون فيه مسارهم، ويحسنون فيه التوجه إليه، ويزيلون فيه ما تراكم على النفوس من حب الدنيا والانجذاب لمباهجها، ويخرجون به ومعه من أسر الدنيا إلى سعة الآخرة، وإلى آفاق الإيمان الرحبة، ليحسن الإنسان صياغة حياته صياغة رشيدة، جديرة بالكائن الذي كرّمه الله على سائر خلقه.

كان نزول القرآن الكريم في رمضان أعظم نعمة أنعم الله بها على الإنسان، وأكبر مقوِّمات الفضائل (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185).

والقرآن كتاب الله الذي عُرفت به هذه الأُمّة، وعلى أساسه استحقت أن تكون مؤهلة لقيادة البشرية.. الكتاب الذي أنشأها من جديد.. ومكّن لها في الأرض.. ومن شكر الله على نعمة القرآن أن يكون شهر رمضان شهراً للقرآن تلاوةً وتدبراً وقياماً بحقِّ المنعم سبحانه.

في رمضان عبودية لله تجسِّد الحرية الكاملة للإنسان، فأوسع الناس حرية أكثرهم عبودية لله.. هذا الذي لا تتحكم فيه شهوة ولا يخضع للذة طارئة ولا ينساق وراء رغبة جامحة ولا يستذله مال ولا يرهبه سلطان زائل.

والصوم نظام حياة يستغني فيه العبد عن الطعام والشراب، وعن لغو الحديث ليرتفع إلى مرتبة الزهد في مدارج الرقي إلى الله قصداً للآخرة، وبعداً عن الدنيا.. إذ لا يجتمع في قلب المؤمن قصد الآخرة وحب الدنيا.

وإذا كانت الآخرة أمراً غيبياً لا نراه، فإنّ المسلم الصائم القائم يشم عبقها في رمضان، ويلمس أثرها في قلبه نبضاً وشعوراً وأملاً وشوقاً بالنفس تشف وتعلو بالصيام حتى إنّ الصائم يكون قريباً من الملائكة التي من طبيعتها الصيام عن الطعام والشراب: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الأنبياء/ 20).

وقد ميّز الحقّ تبارك وتعالى تلك الشعيرة عن سائر العبادات، حيث أمر الملائكة ألا يكتبوا ثوابها وأن يتركوا ذلك لحين يجزل الله الثواب لعباده "إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به"، كما بشّر الصائم بفرحتين: فرحة عند نهاية صومه، وأخرى عند لقاء ربه.

إنّ من شأن رمضان أن يحدث انقلاباً في حياة المسلمين، حيث الإقبال على عبادة الله وتلاوة القرآن، والقيام للتذلل بين يدي الله، والتسبيح والدعاء والذكر والاستغفار.. فلا غرو أن نشهد آثار ذلك الانقلاب في حياة الناس، حيث تقل المشاحنات، وتزول البغضاء وتُوصلُ الأرحام، وتتصل عُرى العلاقات الاجتماعية، ويصبح المجتمع المسلم كأنّه أسرة واحدة.

كما أنّ رمضان يبعث وعي المسلمين بماضيهم وحاضرهم، ويضعهم أمام مسؤولياتهم التاريخية، ويكشف عن صميم رسالتهم.. فرمضان الذي شهد نزول كلمة السماء إلى الأرض، ليكون هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.. هو أيضاً شهر الإنجازات العظيمة والانتصارات الباهرة من فتح مكة وتخليص الكعبة مما الصقته بها الوثنية من أدران.. إلى غزوة تبوك وسرية اليمن وفتح الأندلس وفتوحات صلاح الدين التي كانت طريقاً لتحرير القدس، وعين جالوت، والعاشر من رمضان، إلى غير ذلك من الانتصارات التي حققتها الأُمّة التي قوّى رمضان عزيمتها، ووحّد صفها، وبعث همتها.

وها هو رمضان يعود علينا، وقد تكالب الأعداء على الأُمّة ينهشون جسدها المثخن بالجراح، وواجب المسلمين اليوم أن يستلهموا روح رمضان ويعيدوا سيرة السابقين وما حققوه في رمضان من انتصارات وإنجازات.

وإنّ أمتنا الصائمة القائمة لتجد على الدوام – على الفقر في دمائها وأعصابها في رمضان – ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد والأسلحة الذخيرة.

والله نسأل أن يجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم من النار ومن المقبولين، وأن يجعل للأُمّة عزة ومنعة، وحفظاً لدمائها وأعراضها، وصوناً لكرامتها ونصراً على أعدائها (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا) (الإسراء/ 51).

 

المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1379 لسنة 199م

ارسال التعليق

Top