• ١٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التقوى.. مراقبة للنفس

مجموعة كتاب

التقوى.. مراقبة للنفس
حقيقة التقوى: التقوى لغةً، من الوقاية، بمعنى التحفظ والامتناع. وشرعاً: بمعنى عقل النفس ومنعها عن كلِّ ما تسوء عاقبته، وذلك بالامتناع عن مخالفة الخالق تبارك وتعالى في الأوامر والنواهي، كما ورد عن الإمام الصادق (ع) أنّه سُئل عن تفسير التقوى فقال: "أن لا يفقدك حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك".   جهات التقوى: للتقوى جهتان: الأولى: اكتساب الطاعات وامتثال الأوامر الإلهية والسعي أن لا يترك الواجب (الذي يستوجب عدم الإتيان به سخط خالق العالم وغضبه). وفي المرتبة الثانية السعي لأن لا يترك المستحبات مهما استطاع (والمستحب هو العمل الذي يثاب على الإتيان به ولا يعاقب على تركه). الثانية: اجتناب المحرمات، وترك ما نهى عنه الخالق تعالى، والامتناع عن كل ما يوجب الاتيان به غضبه وسخطه، (الحرام هو العمل الذي يُعاقب على الإتيان به)، وفي المرتبة الثانية السعي لترك المكروهات (المكروه هو العمل الذي يحسن عدم الإتيان به، ويطلب الشارع المقدس تركه، غاية الأمر أنّه لا توجد عقوبة في الإتيان به). والشخص الذي يطلب السعادة، ومقام التقوى الشامخ، يجب أن يعطي اهتماماً أكثر للجهة الثانية في التقوى، وهي الامتناع عن المحرمات والذنوب، لأنّه إذا امتنع عن المحرمات فإنّ عمله الصالح مهما كان قليلاً وصغيراً سيكون مقبولاً، ويقربه إلى الله تعالى (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27)، وقال رسول الله (ص): "يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح".   أقسام التقوى: التقوى والورع على أربعة أقسام: 1-             ورع التابعين، وهو الامتناع عن المحرمات. 2-             ورع الصالحين، وهو الامتناع عن المشتبهات حتى لا يقع في الحرام. 3-             ورع المتقين، وهو ترك المباحات حتى لا يقع في الحرام (مثل ترك السؤال عن حال الناس لئلا يقع في الغيبة). 4-             ورع السالكين، وهو الإعراض عن غير الله تعالى خوفاً من ضياع العمر العزيز في الأعمال غير المفيدة، حتى وإن لم تجر إلى الحرام.   الذنب يحبط الأعمال الصالحة: في الحديث الشريف عن رسول الله (ص): "ليجيئن أقوامٌ يوم القيامة لهم من الحسنات كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار. قيل: يا رسول الله (ص) أمصلون؟ قال: كانوا يصلون ويصومون ويأخذون وهناً من الليل، لكنهم كانوا إذا لاح لهم شيء من الدنيا وثبوا إليه". وقال أيضاً: "انّ لله ملكاً ينادي على بيت المقدس كلّ ليلة: من أكل حراماً لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً". على هذا فإنّ أهل الإيمان يجب أن يخافوا كثيراً، ويراقبوا أنفسهم كثيراً حتى لا يكون العمل الصالح منهم باطلاً بسبب ارتكاب الذنوب. إنّه لخسران، وشقاء أن يهدر الإنسان بيده رأس ماله. (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) (الفرقان/ 23).   أقسام الذنب: إذا تورع الإنسان عن الذنوب الكبيرة، لا يؤاخذ على الصغيرة، ويعفو الله تبارك وتعالى بفضله عنها كما في قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا) (النساء/ 31). إذاً الذنوب قسمان: كبيرة وصغيرة. الذنب الكبير: هو كلّ ذنب ورد في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة التصريح بأنّه كبير. ويتجاوز عدده الأربعين. وقد ورد في المصدرين المقدسين الوعيد على هذه الذنوب بالنار. مثل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) (النساء/ 93)، أو "من ترك الصلاة متعمداً فقد برىء من ذمة الله وذمة رسوله". ونخلص بأنّ الذنب المنصوص عليه قرآناً وسنة بأنّه كبير فهو كذلك، يضاف إليه كلّ ذنب عُدّ بحسب نظر المتشرعة وأهل التدين كبيراً. ويجب الإلتفات إلى أنّ الاصرار على الصغيرة كبيرة أو الوقوع في مفاسد كثيرة موجودة في الصغائر، لأنّ أي عمل نهى عنه الله تعالى انما هو بسبب وجود مفسدة في ارتكابه، وحينما يرتكب العبد ذنباً صغيراً فإنّه وإن عفى عنه ببركة ابتعاده عن الكبائر إلا انّه سيتورط بمفسدة ذلك الذنب، وبذلك المقدار سيسود قلبه.   الآثار المترتبة على الذنب: 1-             الذنب يسود القلب: عن الإمام الباقر (ع): "ما من عبد إلا وفي قلبه نقطة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج من النقطة نقطة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى الخير أبداً، وهو قوله تعالى: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين/ 14). 2-             يضعف تأثير الموعظة: إنّ قلوب هؤلاء المذنبين بسبب ظلمة الذنب تكون صماء مظلمة ومحجوبة عن رؤية الحقِّ ومعرفته، ويغلق عليها طريق الخير، وقبول النصيحة. فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) قوله: "من همّ بسيئة فلا يعملها، فإنّه ربّما عمل العبد السيئة فيراه الرب فيقول تعالى: "وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعد ذلك ابداً". فبسبب ارتكاب هذا الذنب يكون مستحقاً للحرمان من ألطاف الحقّ، ولا يوفق للتوبة، وبالنتيجة لا يغفر له". 3-             الندم الشديد: في وصية الرسول (ص) لأبي مسعود يقول (ص): "لا تحقرن ذنباً، ولا تصغرنه، واجتنب الكبائر، فإنّ العبد إذا نظر إلى ذنوبه دمعت عيناه دماً وقيحاً" يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) (آل عمران/ 30). 4-             يمنع استجابة الدعاء: قال (ص): "مرّ موسى (ع) برجل من أصحابه وهو ساجد وانصرف من حاجته وهو ساجد فقال، لو كانت حاجتك بيدي لقضيتها لك فأوحى الله إليه: يا موسى لو سجد حتى انقطع عنقه ما قبلته أو يتحول عمّا أكره إلى ما أحب". 5-             يحبط الأعمال الصالحة: "جدوا واجتهدوا، وإن لم تعملوا فلا تعصوا فإنّ من يبني ولا يهدم يرتفع بناؤه وإن كان يسيراً، ومن يبني ويهدم يوشك أن لا يرتفع بناؤه". من هنا تصبح العبادة الحقيقة ترك الذنب "أصل الدين الورع، كن ورعاً تكن أعبد الناس، كن بالعمل بالتقوى أشد اهتماماً منك بالعمل بغيره، فإنّه لا يقل عمل يتقبل، لقول الله: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27). "لو صليتم حتى تكونوا كالأوتاد، وصمتم حتى تكونوا كالحنايا لم يقبل الله منك إلّا بورعٍ حاجز". وأخيراً لا يبقى حل سوى التقوى: روي عن سيد الشهداء الحسين (ع) قوله: "أوصيكم بتقوى الله، فإنّ الله قد ضمن لمن اتقاه أن يحوله عما يكره إلى ما يحب، ويرزقه من حيث لا يحتسب، إنّ الله لا يخدع عن جنته، ولا ينال ما عنده إلّا بطاعته".   المصدر: مجلة المنطلق/ العدد 35 لسنة 1987م

ارسال التعليق

Top