• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الظلم في حوار قرآني

أ. د. أسعد السحمراني

الظلم في حوار قرآني

◄الظلم داء دوي، ويعدُّ من أخطر ما يصيب الاجتماع البشري لأنّه يفتك بالناس فيستبيح كراماتهم وحرماتهم، ويسلب حقوقهم، ويمنع العدل والإنصاف، كما أنّه يتيح للفئة الباغية السبيل كي تهلك الحرث والنسل.

لقد جاءت النصوص في الإسلام تبيِّن مخاطر الظلم وعواقبه الوخيمة على الناس جميعاً، لذلك توعَّد الله تعالى الظالمين بسوء العاقبة، وأنّ الكلَّ يتخلّى عن الظالم، ولا أنصار له. وفي الآية الكريمة قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (آل عمران/ 192).

الله سبحانه أعدل العادلين، وعنده العدل المطلق، وواجب كلّ شخص مؤمن أن يطيع الحقّ سبحانه، وأن يمتنع عن الظلم الذي نهى عنه سبحانه، وفي الحديث القدسي: "يا عبادي، إنِّ حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّماً، فلا تظالموا".

الظلم محرَّم، ومنه يكون الذُّل والخضوع والخنوع، وفي ظلِّه يفقد الإنسان الثقة بنفسه وبسواه من أبناء جنسه ومجتمعه، والظلم محرم بكلِّ أشكاله، وإلى أي جهة في حياة الشعوب اتجه. فالظلم محرم من الإنسان لنفسه، وهو محرم من الإنسان لأرحامه بدءاً من أقربهم نسباً، والظلم محرم في الحكم والسياسة والاقتصاد، كما أنّه محرم قولاً وفعلاً، وهو محرم بالكلمة أم بوضع قيود الأسر في أيدي الناس، كما أنّه محرم لكلِّ ما تحت يد الإنسان من حيوان وطائر وثروة، ولكلِّ ما هو مسخَّر للإنسان المستخلَف في الأرض. إنّ واجب الإنسان إنما هو المقاومة والممانعة تمهيداً لمعالجة الموقف، وإنهاء حالات الظلم وسيطرة الظالمين.

قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ).

(قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ).

(قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ).

(قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء/ 97).

هذا الحوار القرآني جاء بعد قوله تعالى: (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء/ 95-96).

"قيل: فضَّل الله المجاهدين على القاعدين من أُولي الضرر بدرجةٍ واحدة، وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجاتٍ... وقيل: إنّ معنى درجة: علواً؛ أي: أعلى ذكرهم، ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ، فهذا معنى درجة. ودرجات يعني: في الجنّة. قال ابن محيريز: سبعين درجة، بين كلِّ درجتين حُضْر (عدو) الفَرَس الجواد سبعين سنة... والدرجات منازل بعضها أعلى من بعض".

والجهاد لا يكون بدون استعداد للبذل والتضحية والفداء، وهذا الجهاد يكون بالمال والنفس، ويكون في مختلف الميادين ووجوه الحياة في المجتمع، ولا عذر للإنسان المؤمن إن تخاذل أو ضعف أو سلَّم بالأمر الواقع، والدليل هذا الحوار القرآني بمن توفّاه الله تعالى عندما قبض نفسه ملاك الموت: عزرائيل.

والإنسان الذي سلَّم بالأمر الواقع وضعف يسميه الله تعالى: ظالم نفسه. والظلم واحد، وعواقبه واحدة، سواء اتجه هذا الظلم من الإنسان إلى ذاته، أو وقع ظلمه على غيره من الكائنات عموماً، وليس على البشر فقط.

لقد جاء في أسباب نزول هذه الآية عند القرطبي الآتي: "المراد بها جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا، وأظهروا للنبيّ (ص) الإيمان به، فلما هاجر النبيّ (ص) أقاموا مع قومهم، وفُتن جماعة منهم فافتتنوا، فلما كان أمر بدرٍ خرج منهم قوم مع الكفّار".

إنّ الظلم محرَّم، ومن ظلم نفسه متذرعاً أنّه كان مغلوباً على أمره لا يُقبل عذره، بل واجبه الخروج من حيث يكون إرغامه على فعل ما يخالف إيمانه، وأرض الله تعالى واسعة. "قال مالك بن أنس (رض): الآية تعطي أنّ كلّ مسلم ينبغي أن يخرج من البلاد التي تُغَيَّر فيها السنن، ويُعمل فيها بغير الحقِّ".

المؤمن الحقُّ لا يسكت عن ظلم، ولا يقبل بظلم، فلا هو يظلم نفسه بممارسة أفعال مخالفة للشرع فتجلب له سوء العاقبة، ويكون حاله كما كان حال آدم وحواء (عليهما السلام) عندما أسكنهما الله تعالى الجنّة، ووضع لهما ضوابط تمثلت في النهي عن الأكل من الشجرة، لكن النفس الأمّارة بالسوء تحركت فيها نوازع الهوى والشّهوة فدفعتهما إلى الأكل من الشجرة، وهذه معصية لكن نتائجها على صاحبها، وكانا بذلك ظالمين لنفسيهما. قال الله تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 35). والظالم لنفسه أو لسواه هو من يضع الشيء غير موضعه. والظلم على مراتب: أعلى مراتب الظلم الشرك بالله لأنّه يخرج صاحبه من احتمال المغفرة، وبعد ذلك تكون المعاصي من الكبائر إلى الصغائر، ومن يظلم في كلِّ الأحوال يكون قد ظلم نفسه أوّلاً وأخيراً.

وأكثر مراتب ظلم النفس يتمثَّل في ترك الإنسان أموره لسواه يتصرفون بها كيف يشاؤون، وبذلك يصبح فاقد الإرادة، وأشبه بدمية يحرِّكها من يلهو بها في الاتجاهات التي يريدها. لقد وجَّه المصلح عبدالرحمن الكواكبي نداء قال فيه: "يا قوم: أعيذكم بالله من فساد الرأي، وضياع الحزم، وفقد الثقة بالنفس وترك الإرادة للغير، فهل ترون أثراً للرشد في أن يوكل الإنسان عنه وكيلاً، ويطلق له التصرف في ماله وأهله، والتحكُّم في حياته وشرفه والتأثير على دينه وفكره، مع تسليف هذا الوكيل العفو عن كلِّ عبث وخيانة وإسراف وإتلاف؛ أم ترون أنّ هذا النوع من الجِنّة به يظلم الإنسان نفسه، هل خلق الله لكم عقلاً لتفهموا به كلّ شيء أم لتهملوه كأنّه لا شيء"؟

إنّ الله تعالى هو العدل والعادل ويأمر سبحانه بالعدل، والظلم صناعة بشرية أيّاً كان اتجاهه، إلى الذات أم إلى الآخرين، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس/ 44).

عند تحرِّي الأمور يجد المتابع أنّ الظلم للنفس يكون بسبب الجهل والخوف، والحاجة تكون عندها للعلم والشجاعة من أجل معالجة آفة الظلم، وفي هذا قال الكواكبي: "الحاصل أنّ العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون طبعاً لغير منافعهم، كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، وعند ذلك لابدّ للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال. وكم أجبرت الأمم، بترقيها، المستبد اللئيم على الترقِّي معها والانقلاب، رغم طبعه، إلى وكيل أمين يهاب الحساب، ورئيس عادل يخشى الانتقام".

الإسلام قام على الحرية، ولا تقبل شريعته الظلم والجور لأن ذلك يتنافى مع كرامة الإنسان المستخلَف في الأرض، وواجب المؤمن أن يقاوم الظلم بأعلى درجات المقاومة، وأن لا يهادن ظالماً فيكون بذلك مصيره النار وبئس المصير. قال الله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (هود/ 113).

ليس من الجائز أن يصاحب المؤمن المستبدين والعصاة، أو أن يخضع لهم، أو يناصرهم، أو أن يتوقف عن مقاومتهم ومجابهتهم، فمن آمن بالله تعالى حقّ الإيمان لا يخشى أحداً من البشر، ولا يأبه لثمن حين يتخذ موقف نصرة الحقّ والعدل في مواجهة الباطل والظلم والعدوان.

 

المصدر: كتاب الحوار في الإسلام (آدابه وقواعده)

تعليقات

  • 2022-10-09

    ياسمين مخرمش

    قصص رائعة

ارسال التعليق

Top