• ٩ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ١ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ
البلاغ

محاسبة النفس وتشخيص عيوبها

د. الشيخ أحمد البهادلي

محاسبة النفس وتشخيص عيوبها

المحاسبة مفاعلة من الحساب بمعنى العد[1]. فالشريك يحاسب شريكه بعدّ ما له وما عليه من أرباح التجارة.

والنفس في الحياة الدنيا تفعل الخير وضده، فإذا أهمل المرء محاسبتها فلربما طغت فيها السيئات حتى استولت على آخر رصيد للخير فيها، ولم تعد قادرة على مجاهدة الزيغ والشطط.

1-  فعن أبي جعفر (ع) قال: "ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج من النكتة البيضاء نكتة سوداء، فإن تاب ذهب السواد، وإن تمادى في الذنوب، زاد ذلك السواد حتى يغطّي البياض، فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عزّ وجلّ: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين/ 14)[2].

2-  وعن أبي عبدالله (ص) قال:

"إذا أذنب الرجل، خرج من قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً"[3].

3-  وعنه (ص) أيضاً قال: كان أبي (ع) يقول:

"ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة، إنّ القلب ليواقع الخطيئة، فما تزال حتى تغلب عليه، فيصبح أعلاه أسفله"[4].

والنكتة لغة من الكنت وهو ضرب الأرض بقضيب فيؤثر فيها[5] والرين صدأ يعلو الشيء الجليل.

فالحديث الأوّل يفيد أنّ النفس بحسب أصلها الأولي فيها النكتة البيضاء، فيها الأثر المدرك للخير وحسن الفعل، وأنّ النكتة السوداء هي أثر طارئ من الذنب الذي تقترفه، وأنّ هذا النقش والصورة الحاصلين في النفس من الذنب هو الرين العارض عليها، كعروض الصدأ على المعدن، فإذا تراكم هذا الصدأ حجب النفس عن رؤية الخير وفعله، كما يحجب الصدأ ما طرأ عليه عن أن يبدو بهاؤه وحسنه وجماله.

وتؤكد هذه الأخبار على ضرورة المبادرة إلى تهذيب النفس من رين الذنب وأثره ونقشه، قبل أن يتراكم إلى الحد الذي لا يفيد معه تهذيب. كالمعدن الذي يتآكل بالصدأ، بحيث يؤدي العمل على إزالته عنه إلى إتلافه.

والوسيلة – بحسب هذه الأخبار وغيرها – إلى الحفاظ على النفس من أن تصل إلى هذه الحالة، هي المبادرة إلى إزالة الأثر قبل أن تصعب إزالته أو تتعذر، وذلك بالتوبة من الذنب، كي يبقى للنفس صفاؤها أو شيء من صفائها، عساها – يوماً ما – أن تستعيد ما  كانت عليه بحسب طبعها الأولي من صفاء تدرك به الحقّ كما هو.

وبناءً على هذا، فعلى من يريد تهذيب نفسه أن يشخّص عيوبها بالتعرف على هذه العيوب أوّلاً، عن طريق التعرف على الصفات الذميمة ووالأفعال القبيحة من خلال ما ورد عن المعصومين (عليهم السلام). ومن ثمّ يجعل تعاليمهم (عليهم السلام) مرآة لنفسه، ليرى فيها عيوبها، ويحاسبها عليها كل يوم، ليجلو أثرها عنها قبل تراكمه.

وفي الأخبار التالية مزيد من الحث على هذه المحاسبة:

 

أ‌-       الحث على المحاسبة:

1-  عن النبي في وصيته لأبي ذر (رض) قال:

"يا أبا ذر حاسب نفسك قبل أن تحاسب، فإنّه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن. وتجهز للعرض الأكبر، يوم تعرض لا تخفى على الله خافية. (إلى أن قال): يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه. فيعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حلال أو من حرام؟ يا أبا ذر من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار"[6].

تناول الحديث جانباً من جوانب محاسبة النفس وهو جانب المكاسب المالية، ذلك الجانب الذي ترتبط به كثير من العبادات وتترتب عليه آثار وضعية ذات أهمية. فالصلاة مثلاً والصيام وطواف الحج واجبات مشروطة بالطهارة، والطهارة بأنواعها مشروطة بإباحة الطهور وأوانيه ومكان استعماله. فلو كان في أحد هذه الأمور حقّ مغصوب بطلت الطهارة، سواء أكان الحقّ عاماً أو خاصاً. وكذا اشتراط إباحة ملابس المصلي ومكانه وما يحمله أثناء صلاته، فإن لم تتحقق الإباحة في هذه الأمور بطلت الصلاة، ناهيك عن كون الشخص – مع ما سبق – هو دوماً على غير طهارة حتى من الحدث الأكبر فهو في ظلمة دائمة، يأثم بدخوله مسجداً أو ضريحاً، ويأثم بمسّه لكتابة القرآن أو اسماً من أسماء الله (تعالى) أو من صفاته، أو من أسماء الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام) على قول بعض الفقهاء[7].

ومع هذا فهو متلبس بالمعصية مادام المال الحرام في حيازته، وهو آثم في تصرفه به، أمّا أثر الأكل والشرب بل وحتى المهر للزواج من المال الحرام، فهو أثر وضعي ينعكس على السلوك وعلى النسل.

ومن أهم أسباب الوقوع في المكسب الحرام هو جعل المكتسب بأحكامه الشرعية، فنجد الكثير – ممّن يكتسب ببيع وإجارة ومزارعة ومضاربة، أو يؤجر نفسه موظّفاً أو عاملاً أو غير هذه الأنواع من أنواع التجارة والارتزاق، دون أن يتعرف على الأحكام الشرعية في نوع هذا الاكتساب – يقع في أكل المال بالباطل من حيث لا يشعر. ومن هنا ورد في الحديث: "الفقه ثمّ المتجر... التاجر فاجر، والفاجر في النار، إلّا من أخذ الحقّ وأعطى الحقّ". وورد أيضاً: "من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له ممّا يحرم، ومن لم يتفقه في دينه ثمّ اتجر تورّط الشبهات"[8].

أما الجهل بما عليه من حقوق الله تعالى – من خمس أو زكاة أو غيرهما ممّا يجعل ما لديه من المال الذي لم يُخرج حقوقه مالاً مختلطاً بالحرام لا يجوز التصرف به – فهو أيضاً لا يقل أثراً عن الجهل بأحكام المكاسب.

علماً بأنّ الجهل في مثل هذه الأمور لا يعذر صاحبه،

1-   لما روي عن جعفر ابن محمد (ع)، وقد سئل عن قوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (الأنعام/ 149). فقال: "إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه، وتلك الحجة البالغة"[9].

2-  عن أمير المؤمنين (ع) قال:

"من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن خاف أمن، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهِم علم"[10].

والعلاقة بين هذه المقاطع الجليلة وثيقة، فمن خاف الله (تعالى) بل خاف سوء عمله وخسارة نفسه، حاسب نفسه قبل أن يحاسَب وراقبها قبل أن يستولي عليها رين ذنوبها، مستحضراً عبر الماضين ومعتبراً بما جاء عن الصالحين. وإذا تمّت له المحاسبة والخوف والاعتبار كان منتبهاً من نومة الغافلين مبصراً هداه، ومن أبصر هداه فقد فهم ما يهمّه من أمور الدنيا والآخرة وما لا يهمه. وصح إطلاق اسم العالم عليه، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28). وفي الكتاب المجيد من الحث على الاعتبار – بقصص الماضين وما حلّ بهم من ذلّ وهوان، بل من خسران مبين بعد عز وكرامة ونعمة، بسبب معاصيهم وغفلتهم عن تدارك أمورهم، - آيات كثيرة[11].

3-  عن عليّ بن الحسين (ع) قال:

"ابن آدم إنّك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك، وما كان الخوف لك شعاراً والحزن لك دثاراً، ابن آدم أنت ميّت ومبعوث وموقوف بين يدي الله فأعدّ جواباً"[12].

أناط الحديث الشريف خير الإنسان واستمرار هذا الخير بأمور:

منها: كون واعظه من نفسه، ففي حديث سابق: "من لم يكن له واعظ من قلبه... استمسك عدوّه من عنقه". وعن أبي عبدالله (ص) قال: "من لم يجعل له من نفسه واعظاً، فإنّ مواعظ الناس لا تغني عنه شيئاً"[13].

وثاني الأمور: كون المحاسبة همّاً من همومه، يهتم بها ولا يستقر حتى يحقّقها، وحينئذ سيكون على دراسة مستمرة بما وصلت إليه نفسه، ليبادر للمزيد إن كان خيراً، وإلى التطهير والتهذيب بالتوبة إن كان عكس ذلك.

وثالثها: أن يكون شعاره الخوف من الله تعالى، والشعار هو ما يلي البدن من الثياب، والخوف الباطني دليل العبودية من الله تعالى، وهي أرقى درجات الإيمان، ولها مظهر هو الحزن عقب أيّة مخالفة لحكم المولى – جلّ جلاله –. فإن كان شعار العبد هو الخوف حقاً فلابدّ أن يكون أثره هو الحزن الظاهر فوق الشعار، وهو كالدثار من الثياب. ومن كان خائفاً باطناً، حزيناً من المخالفة ظاهراً، كان ذاكراً معتبراً دائماً، محاسباً لنفسه تائباً ومستغفراً من ذنوبه ليعدّ الجواب، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.

4-  عن أبي عبدالله (ع) قال:

"ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلِّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه"[14].

5-  وعنه (ع) قال:

"من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط. ومن كان آخر يوميه شهرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه إلى النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له"[15].

ومعلوم أنّ معرفة الإنسان نفسه، من حيث كونه مغبوناً أو مغبوطاً أو ملعوناً، لا تحصل بدون المحاسبة اليومية، ليستغفر ويستزيد من الخير ويسلم من البعد عن الله تعالى. فإن عجز – بسوء اختياره – عن الاستزادة وصار أمره إلى النقصان فليتمن الموت ليواجه ربه بذنوب أقل. فإن مقياس حب الحياة الدنيا وبغضها عند المؤمن هو ما يؤول إليه أمره يوم القيامة، لأنّ الدنيا مزرعة الآخرة، ولذا قال أمير المؤمنين (ع):

"لا خير في العيش إلّا لرجلين، رجل يزداد في كلِّ يوم خيراً، ورجل يتدارك منيّته بالتوبة"[16].

ونخلص من مجموع ما تقدم إلى أنّ محاسبة النفس هي من الأعمال الواجبة، وهي من أركان الدين، لأنّ الحديث المروي عن رسول الله (ص) يقول:

"لا يكون العبد مؤمناً حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه والسيد عبده"[17].

وإذا كانت المحاسبة شرطاً من شروط الإيمان، والإيمان – كما ورد تعريفه عن رسول الله (ص) – هو:

(عقد بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان)[18]. فمن هذا وذاك ينتج أنّ المحاسبة هي من أركان الدين الإسلامي وشرط من شروط الإيمان.

 

ب‌-  تشخيص العيوب:

توطئة:

التشخيص تعيين الشيء من بين مشابهاته، والعيوب جمع عيب وهو الوصمة اسم من الوصم بمعنى الصدع وجمعه وصوم، بمعنى العار أيضاً[19].

فيكون تشخيص عيوب النفس على المعنى الأوّل للعيب (وهو الوصم)، تعيين صدوع النفس ونقوشها الحاصلة ممّا ارتكبت من ذنوب.

وعلى المعنى الثاني للعيب (وهو العار)، تعيين ما هو العار في نظر الشريعة المقدسة. وذلك لأنّ العار يختلف مصداقاً باختلاف الأعراف والاعتبارات والثقافات، فمن العار مثلاً عند بعض أن يترك الشخص إعانة أخيه في خصومة ظالمة، أو يترك قتل أخته المنحرفة، ولكن هذا الفعل في نظر الشارع المقدس هو العار وهو العيب النفسي، ولكن كثيراً ما يتفق أهل العرف مع الشرع في مصداقية العيب، كما في الأمور التي أجمع عليها العقلاء، كرفض رد الأمانة، ومثل الأفعال المنافية للأخلاق بالاتفاق.

ومن اختلاف الشرع عن العرف ولو في بعض المصاديق، ومن إيماننا بأنّ الشارع هو المتفرّد بمعرفة حقيقة النفس ومعرفة أحوالها وما يصلحها وما يفسدها من هذا وذاك يتعين على من يريد تهذيب نفسه وتشخيص عيوبها على ما ورد عن الشارع المقدس في تحديد العيوب النفسية، وإلّا فقد يجاهد نفسه ويتعبها من أجل أن يضاعف عيوبها من حيث لا يعلم!!

ومسألة معرفة العيوب النفسية لا تنحصر في باب أو فصل من أبواب وفصول العلوم الإسلامية، ولا أبالغ إذا قلت: إنّ جميع العلوم الإسلامية تشترك – بشكل مباشر أو غير مباشر – في تهذيب النفس من العيوب، لتجعلها راضية مرضية. ومن هنا  كان فضل العلم والعالم عظيماً جدّاً.

وبعد هذه التوطئة نورد من الأخبار ما ورد في الحث على تشخيص العيب تمهيداً للإقلاع عنه، سواء أكان العيب صفة نفسية أم كان فعلاً خارجياً يصرّ عليه فاعله. أما ما هي العيوب فإنّ الحديث عنها طويل وطويل جدّاً. وإليك عدداً من هذه الأحاديث:

1-  عن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله (ص):

"ثلاث خصال من كنّ فيه أو واحدة، كان في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظلّه:

رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم.

ورجل لم يقدّم رجلاً ولم يؤخر رجلاً حتى يعلم أنّ ذلك لله رضاً.

ورجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك عن نفسه، فإنّه لا ينفي منها عيباً إلا بدا له عيب، وكفى بالمرء شغلاً بنفسه عن الناس"[20].

أ‌-       فالخصلة الأولى: قاعدة عظيمة في التكافؤ الاجتماعي في الحقوق والواجبات، فليس للمرء – وفق هذه القاعدة أن يتخلّى عن إعطاء الناس من نفسه مثل ما يريد أن يحصل عليه منهم، فهو يريد من الآخرين أموراً كاحترامهم إيّاه، ومساعدتهم له وتعاطفهم معه، ومواساتهم في أفراحه وأتراحه، وما إلى ذلك من قائمة التوقعات والمتطلبات، فعليه وفق هذه القاعدة أن يعطي للناس مثل ما يطلبه منهم، وفي هذه الحالة تتحقق وحدة اجتماعية يصبح الأفراد فيها  كالأعضاء في الجسد الواحد.

(إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)[21].

ب‌-  والخصلة الثانية: تبتني على التسليم التام لله – سبحانه وتعالى – دون أن يكون للنفس أو للآخرين – عداه سبحانه – سلطان في كلِّ حركة وسكون. لا يفعل إلّا لرضا الله تعالى ولا يدع إلّا لرضاه سبحانه، لأنّه السيد والمرء عبده، وهل يمتثل العبد غير سيده؟ وهو سيد عادل وغني وحكيم لا يأمر ما يأمر أو ينهى عمّا ينهى ظلماً لعبده أو لحاجة له أو عبثاً دون هدف لصالح العبد وغاية إسعاده.

وهذه الخصلة تتطلب المعرفة التامة – بما أوتي الإنسان من الإمكانات – بهذا السيد العظيم وبأوامره ونواهيه، وما يحقّق رضاه وما لا يحقّقه. ومن هنا كانت العبودية التامة هي أعلى درجات الإيمان، إلا أنها عبودية لله تعالى، بها يخرج العبد من ذلّ المعصية إلى عزّ الطاعة. وبها يحصل العلم والتقى والإيمان وسحق النفس الأمّارة.

ت‌-  الخصلة الثالثة: أن يراجع نفسه حينما تريد أن تعيب الآخرين، هل فيها هذا العيب؟ فإن كان فيها صب اهتمامه على تهذيب نفسه من عيبها قبل أن يهتم بعيب الغير، لأنّه مسؤول عن عيوب نفسه قبل أن يُسأل عن عيوب غيره، أما إذا تصدى لعيوبهم لا لأجل إصلاحها فهذا هو عيب آخر يحتاج إلى تهذيب نفسه منه.

فإذا اشتغل بعيبه عن عيوب الآخرين طهرت نفسه من هذا العيب ونقيت ممّا كان له من أثر واستنارت بمقدار ما كان عليها منه من ظلمة، وحينئذ أدركت ما لم تكن تدركه من عيب فيها، فازداد نورها ليدرك فيها عيباً آخر.

وهكذا تتصاعد في الإدراك والتهذيب حتى تنشغل عن الناس بالارتقاء والتسامي إلى الولوج في العالم العلوي.

2-  وعنه (ع) قال: قال رسول الله (ص):

"طوبى لمن شغله خوف الله – عزّ وجلّ – عن خوف الناس، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب المؤمنين من إخوانه"[22].

فمن آمن بمضمون لا حول ولا قوة إلا بالله، ولأنّ الناس كل الناس لا يملكون ضراً ولا نفعاً إلا بإذنه، لم يخشى أحداً سواه، ولم يخف غيره، لم ينشغل بمتطلبات خوف من عداه، وأخلص نفسه وقواها للانشغال بمستلزمات الخوف منه وحده سبحانه، وانشغل بتنزيه نفسه من عيوبها لتقرب منه تعالى. ومن كا هذا دأبه وهذه غايته وهمّته، لم يلتفت للانهماك بعيوب الآخرين على حساب إهمال عيوب نفسه، لأنّ هذا عيب آخر مضاف إلى عيوبه السابقة، ولذا ورد:

3-  عن أبي ذر (رض) عن النبيّ (ص) قال:

".. كفى بالمرء عيباً أن يكون فيه ثلاث خصال: يعرف الناس ما يجهل من نفسه، ويستحيي لهم ممّا هو فيه، ويؤذي جليسه فيما لا يعنيه"[23].

وقال أمير المؤمنين (ع):

"كفى بالمرء جهلاً أن يجهل نفسه"[24]، والجهل مبدأ  كلّ عيب، ولذا:

4-  ورد عنه (ع):

"أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله"[25].

أما أن تعيب ما فيك أعظم منه، فهو غاية العيب في جسامته، وبمقتضى هذا ينبغي بل يجب أن يتجه الإنسان بكلّه إلى عيوب نفسه، وبهذه الحالة سينشغل عن عيوب الناس، وإلّا فهو أحمق كما روي:

5-  عن أمير المؤمنين (ع) قال:

"من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، ومن رضي رزق الله لم يحزن على ما فاته، ومن نظر في عيوب الناس ثمّ رضيها لنفسه فذلك الأحمق بعينه"[26].

6-  عن أبي عبدالله (ع) قال:

"إذا رأيتم العبد متفقداً لذنوب الناس ناسياً لذنوبه، فاعلموا أنّه قد مُكر به"[27].

والمكر هو الخديعة، وكفى بالمرء خديعة أن ينسى نفسه بنسيان عيوبها والانشغال عنها بتفقد ذنوب الناس، وبتفقده هذا أضاف لعيوبه عيب التفقد، ثمّ إن نسيانه لنفسه يكشف عن أنّه قد نسي ربّه، لأنّ الذاكر لربّه متّجه لامتثال أوامره ونواهيه، ومن أهمّها تفقّد عيوب نفسه والتوبة منها.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/ 18-19).

هذه الآية والأخبار وأمثالها نصّت على أنّ إهمال تفقد عيوب النفس والانشغال بتتبع عيوب الآخرين هو من أكبر العيوب، أمّا ما هي العيوب في منظار الشارع المقدس؟ فقد ألمحتُ في التوطئة بأنّ التعرف عليها يحتاج إلى تعلّم ما ورد في الشريعة لبيانها، وأنّ هذا التعلم بنفسه عبادة، بل هو أصل العبادات.

ومن باب لا يترك الميسور بالمعسور، وما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه، وبلحاظ أنّ الشريعة بكلِّ ما احتوته من نظام وتشريع محوره النفس الإنسانية من حيث تهذيبها والسمو بها إلى ما خُلقت لأجله من مقام يقربها من خالقها، وهو أمر لا يحيط به كتاب واحد وموضوع واحد، آثرت أن أذكر ههنا بعض كبائر الذنب، باعتبارها نفسية في منظور الشارع المقدس، ولورود ذكر هذا البعض بالاسم والتنصيص عليه في الأخبار المروية عن المعصومين (عليهم السلام).

الهوامش:


[1]- القاموس المحيط، ج1، ص54.

[2]- وسائل الشيعة، ج11، ص239، ورواه صاحب الميزان في ج20، ص236، عن أصول الكافي. وروي أيضاً عن الدر المنثور قول الرسول (ص): إنّ القلوب لترين كما يرين السيف، وجلاؤه الحديث.

[3]- المصدر نفسه، ج11، ص238-239 عن أصول الكافي، ص440. ورواه صاحب الميزان، ج20، ص336-337، عن روضة الواعظين.

[4]- المصدر السابق ع أصول الكافي، ص439.

[5]- القاموس المحيط، ج1، ص159.

[6]- الوسائل، ج11، ص379، عن المجالس والأخبار، ص338.

[7]- انظر اللمعة الدمشقية، ج1، ص350. ووسائل الشيعة، ج1، ص492، لمعرفة مستند الفقهاء من الأخبار.

[8]- وسائل الشيعة، ج12، ص282-283، عن فروع الكافي، ج1، ص371. ومن لا يحضره الفقيه، ج2، ص64. والتهذيب، ج2، ص120، والمقنعة، ص92.

[9]- البحار، ج1، ص178، كتاب العلم.

[10]- عن نهج البلاغة، القسم الثاني، ص191. الوسائل، ج11، ص379.

[11]- كما في الآية 111 من سورة يوسف. والآية 2 من سورة الحشر. وغيرهما.

[12]- عن السرائر، ص473. ومجالس ابن الشيخ، ص71. الوسائل، ج11، ص378.

[13]- مستدرك الوسائل، ج2، ص271. عن أمالي الشيخ المفيد.

[14]- عن أصول الكافي، ص511، الوسائل، ج11، ص377.

[15]- عن معاني الأخبار، ص97. والمجالس، ص396. وسائل الشيعة، ج11، ص376.

[16]- عن أصول الكافي، ص512، والمجالس، ص395-396. الوسائل، ج11، ص376.

[17]- عن محاسبة النفس، ص122. وسائل الشيعة، ج11، ص380.

[18]- تحف العقول، ص40. ومثله عن الرضا (ع) ورد في الوسائل، ج11، ص260. وعيون الأخبار، 268-269.

[19]- القاموس المحيط، ج1، ص109، وج2، ص306، وج4، ص186.

[20]- الوسائل، ج11، ص229، عن أصول الكافي، ص382.

[21]- مضمون حديث نبوي مشهور. ويوجد حديث في البحار، ج61، ص148، يرويه أبو بصير عن أبي عبدالله (ع) يقول: المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة.

[22]- الوسائل، ج11، ص229، عن الروضة، ص168. وكلمة طوبى لغة تأتي لعدة معان منها: الطيب، الحسنى، شجرة في الجنة، الخير، انظر القاموس المحيط، ج1، ص98. والمناسب من معانيها في هذا الاستعمال في هذا الحديث وأمثاله هو كل هذه المعاني عدا الأول منها.

[23]- الوسائل، ج11، ص230، عن معاني الأخبار، ص95. وبمعناه أحاديث كثيرة، انظرها في الوسائل، ج11، ص229، وأصول الكافي، ص514، ومجالس ابن الشيخ، ص27.

[24]- الميزان، ج6، ص173، عن الغرر والحكم للآمدي.

[25]- عن نهج البلاغة القسم الثاني، ص227، 228. الوسائل، ج11، ص231.

[26]- عن نهج البلاغة القسم الثاني، ص227، 228. الوسائل، ج11، ص231.

[27]- الوسائل، ج11، ص231. عن السرائر، ص468.

المصدر: كتاب تهذيب النفس

ارسال التعليق

Top