أحمد الملّا
◄إنّ البناء المنهجي للفكر، إنما هو الاستفادة من المصادر الفكرية، والتعامل الصحيح معها.. ولكي يبني الإنسان صرح فكره لابدّ من هدم الواسب الفكرية العالقة في ذهنه، لأنّ البناء المنهجي يعتمد على عملية الهدم والبناء.. هدم الأفكار الرجعية المتخلفة، وبناء الأفكار الرسالية، على أساس السابقيات الفكرية التي يملكها كل إنسان "ولنعلم أنّ السابقيات الفكرية التي تملكها النفس البشرية، مثل العلم باستحالة التناقض والصدفة، وقبح الظلم والشر، وإمكان الخلق والابداع، وحسن العدل والخير.. إنّ هذه السابقيات ليست ذاتها العقل، بل إنها حقائق يكشفها نور العقل للنفس كما يكشف ضوء الشمس ألوان الحقول".
فالعقل أداة الإنسان الأولى لبناء فكره وباستثارة تلك السابقيات العلمية وباتباع المراحل التالية يستطيع الإنسان بناء فكره:
- أوّلاً: تحصيل الفكر..
المرحلة الأ,لى لبناء الفكر هي تحصيل المواد الأولية للفكر بشكل مستمر وهي مجموعة المعلومات التي يحصل عليها الإنسان من خلال المطالعة ومجالس العلم والتدبر وتحليل مواقف الرسل والأئمة ودراسة التاريخ والتجارب وملامسة الواقع اليومي.
1- المطالعة:
لابدّ من عملية التثقيف الذاتي المستمر وذلك من خلال المطالعة المركزة، إذ لا تنمو المعلومات الفكرية عند الإنسان إلا من خلال المطالعة المستمرة.. فالثقافة لا تمنح بل تكتسب.. ولابدّ من التعب والجهد لكي يبني الإنسان صرح فكره، والمطالعة من أهم الوسائل التي تساعد على التحصيل الفكري، وقالوا قديماً "وخير جليس في الزمان كتاب".
والخطأ الذي يقع فيه الناس هو انهم ينصرفون لدراسة بعض المجالات مثل النحو أو الشعر أو الفقه ويقضون في ذلك سنوات طويلة من عمرهم دون الانفتاح على العلوم والمعارف الأخرى وبالنتيجة لا يعرفون ما يدور حولهم من أمور مهمة يجب التطلع إليها، ولكي تكون المطالعة منهجية وسليمة لابدّ من مراعاة الأمور التالية:
أ- النوعية:
المطالعة السليمة هي التي تعتمد على النوعية، وليس الكمية فقط فترى شخصاً مثلاً يقرأ "100" كتاب في حقل معيّن ولكنه لا يفهم من الحياة شيئاً لأنّه لا يقرأ كتباً عن واقع الحياة وابعادها، ونرى البعض لا يعرف في المسائل الدينية شيئاً يذكر، ولكنه يبحث عن كتب علمية بحتة تخزن في دماغه من دون أن يفرزها على الواقع لتغييره، والمطلوب هو: المطالعة التي تعتمد على إنتقاء الكتب الرسالية الجيدة التي تعطيه رؤية سليمة في الحياة، وسلوكاً إسلامياً من خلاله يعرف كيف يتعامل مع الواقع والناس وكيف يعمل لكسب رضى الله سبحانه وتعالى.
ب- تنظيم الوقت:
المطالعة ليست شيئاً ثانوياً في حياة الإنسان إنما يجب أن ينظر إليها بأ،ها عمل لابدّ من مزاولته كل يوم، لذلك لابدّ من تخصيص الوقت الكافي لذلك مع تنظيمه، لأنّ للمطالعة أوقات معينة يجب أن تطالع فيها لا أن تكون فوضوياً في أي وقت تشاء تطالع، انّ الشاب الرسالي هو الذي يحاول ان يوفر أفضل الأوقات حتى يطالع، فالمطالعة مثلاً بعد تناول الغداء غير جيِّدة، لأنّ الإنسان في هذا الوقت تكون معدته ممتلئة وهو بحاجة إلى استرخاء وإذا قرأ فأنّه لا يستوعب جيِّداً، فالمطالعة السليمة هي التي تكون مبرمجة حسب توقيت يومي معيّن وتستمر على هذا الترتيب يومياً، وتنظيم المطالعة زمنياً يساعد الإسان على التحصيل الفكري بقدر أكبر والمداومة عليه.. وبعد ذلك تعتبر المطالعة جزءاً لا يتجزأ من حياته، لذلك حدد مطالعاتك بشكل يومي إما بالوقت فمثلاً (ساعتين كل يوم) أو بعدد الصفحات (30 صفحة كل يوم) مثلاً وليكن هذا المعدل تصاعدياً فقد جاء في الحديث:
"من تساوى يوماه فهو مغبون".
ج- التركيز:
والمطالعة عندما تكون بلا تركيز فهي كمن يسمع من الأذن اليمنى ليخرج ما يسمعه من الأذن اليسرى، فلا استفادة ولا تحصيل لأنّه يطالع من دون تركيز، والتركيز في بؤرة واحدة يساعد على معرفة ما في الكتاب من أفكار، أما إذا كان الفكر مشتتاً فإنّه لا يركز وبالتالي لا يستفيد، والتركيز يعني ان توجه نفسك كلياً إلى بؤرة واحدة معينة.. فمثلاً إذا كنت تقرأ كتاباً معيناً وجاء شخص وقال لك: بأنّه بعد خمس دقائق سوف تنفجر قنبلة قرب بيتك.. فإن ذنك ونفسك ينصرفان في ذلك الوقت إلى ذلك الخبر الجديد ولذلك فإنّ النفس حين ذلك لا تكون موجهة إلى بؤرة المطالعة وبالتالي فإنها تفقد عنصر التركيز، لذلك فمن شروط المطالعة السليمة هو التركيز في الفكر، لأن ذلك هو الذي يجعل من الفكر خلاقاً مربياً، ولكي تقرأ بتركيز يجب مراعاة العوامل المادية والنفسية والعضوية التي تساعد على المطالعة المركزة كما هو مبين في بناء التفكير.
د- التلخيص:
في الحديث الشريف "قيدوا العلم بالكتابة".
لكي يستفيد الإنسان من مطالعاته عليه تلخيص ما قرأ حتى يترسخ ذلك في ذهنه، ويتم ذلك بتلخيص الأفكار الجيدة التي يطرحها الكتاب لكي يذكرها دائماً، وإذا احتاج لبحث موضوع ما فإنه يستطيع مراجعة التلخيص، لكي يعطيه الأفكار المكتوبة، وبما انّ الإنسان صرف جهداً في مطالعته كتاب ما فعليه أيضاً أن يلخص الكتاب حتى لا يذهب جهده هباءً، وعملية التلخيص تساعد في المستقبل لأنها ترسخ الأفكار أكثر وأكثر في عقل الإنسان، وكما يقول المثل: "ما كتب قرّ، وما حفظ فرّ" تلك خطوات في مجال المطالعة السليمة.
2- زاحم مجالس العلم:
وثقافة الإنسان وليدة لما يراه ويسمعه، فبواسطة السمع يستطيع الإنسان بناء فكره والتحصيل على أكبر قدر ممكن من الأفكار، ومجال ذلك (الأرطة الإسلامية) التي تحتوي على مواضيع قيمة ومركزة ومهمة، ولا تكتفي بالاستماع فقط وإنما بتلخيص الأفكار المطروحة، والسمع طاقة يحاسب عليها الله يوم القيامة.
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36).
فيجب ان نستفيد من طاقة السمع من خلال استغلالها في الطريق الإيماني الصحيح، فالأشرطة متوفرة.. وتستطيع أن تقتنيها في أي وقت تشاء.
وكذلك حضور المجالس التي يتم فيها طرح الفكر والرؤى الإسلامية فقد عرف عن المسلمين في السابق تسابقهم لحضور مجالس العلم.
3- التدبر:
التدبر في القرآن هي عملية بناء لتفكير الإنسان وفكره في نفس الوقت، لأنّ التدبر هو معرفة خلفيات الآية وذلك بحاجة إلى تفكير ومعرفة الخلفيات زيادة في رصيد فكرك.
- ثانياً: استيعاب الفكرة..
بعد أن يقوم الإنسان بالمرحلة الأولى في عملية البناء المنهجي للفكر وهي تحصيل المواد الأولية للفكر، عليه أن يستوعب فلا يفيد التحصيل من دون استيعاب الفكرة وهضمها وفهمها فهماً عميقاً واستيعاب الفكرة يكون بطريقين:
1- محاكاة الفكرة:
أي انك عندما تتعامل مع الأفكار لابدّ أن تكون الفكرة هي جليسك، إنّ الإنسان عندما يكون مع جليس آخر فأنّه يخوض معه الحوار ويتبادل الحديث ويتناقل الأفكار ويتباحث فيها، والكتاب (الفكرة) إنما هو جليس للإنسان يجب ألا يلوذ بالصمت تجاهه وإنما عليه أن يقوم بالأخذ والعطاء مع الكتاب وأفكاره وكاتبه وهذه العملية تسمى بالمحاكاة، فأنت تطرح الأسئلة وتناقش وترفض والرد لا تسمعه ولكنك تقرأه ما بين السطور فقد ترفض فكرة معينة للكاتب وترجع للسطور وترى دفاعه عن الفكرة لتقرر بعد ذلك قبولها أو رفضها مرة أخرى، وقد تطرح سؤالاً عن الفكرة ولا تجد الإجابة عنه بين السطور مع أنّه شيء أساسي فتعرف انّ هذا الكتاب يقف عاجزاً عن الإجابة على هذا السؤال وهكذا تكون المحاكاة التي تشعر الإنسان أن جليسه الكتاب ليس جماداً، وإنما هو أفكار والأفكار تتكلم ولكن بصمت، وذلك يعني محاكاة الفكرة، والفرد الذي يقتنع بفكرة ما، يستطيع أن يقوم بمهمة الاقناع، للطرف المقابل.. لماذا؟.. لأنّه مقتنع بالفكرة عارف لجميع جوانبها، وعارف لسبب قناعته بها، لذلك يسهل عليه أن يقنع الطرف الآخر، أما الإنسان غير المقتنع بفكرة ما فلا يستطيع ان ينقلها للطرف المقابل "فاقد الشيء لا يعطيه" لذلك محاكاة الفكرة تعتبر الخطوة الأولى في استيعاب الإنسان لها.
2- مناقشة الفكرة مع الآخرين:
والخطوة الثانية في مجال استيعاب الفكرة هي مناقشة الفكرة، فعندما تحصل على فكرة معينة وتريد ان تستوعبها حاول أن تطرحها على مائدة النقاش ومناقشة الفكرة مع الآخرين تساعد على ترسيخها في دماغك وتثبيتها في نفسك، ودائماً نرى بأنّ النقاش الهادئ السليم يوصل الإنسان إلى استيعاب الفكرة استيعاباً كاملاً، لأن عدة آراء واجتهادات تطرح في ساحة المناقشة وعند ذلك تقيم الفكرة وتتوضح أكثر وأكثر للإنسان، ربما يحدث لك هذا في بعض الأوقات فتعترضك فكرة معينة ولكنك لا تستوعبها ولا تستطيع أن تهضمها وتفهمها فهماً عميقاً، ولكن بعد أن تطرحها على مائدة النقاش ترى أنها تصل إلى دماغك بسرعة.. لماذا؟ لأنّه من خلال المناقشة تتوضح الفكرة وتصبح سهلة الهضم، ولذلك نرى انّ التدبر الجماعي للقرآن الكريم يجعل من الإنسان مستوعباً للفكرة التي تطرح، لأنها تخضع لعدة عقول وعدة تقييمات، وفي الحديث الشريف:
"خير الناس من جمع عقول الناس إلى عقله".
عندما لا تستطيع أن تستوعب فكرة ما سارع إلى طرحها على أخيك المؤمن وعلى اخوانك الباقين لكي تناقشها، وكذلك في الحديث الشريف تأكيد على الاستشارة:
"هلك من ليس له حكيم يرشده".
هلك من ليس له حكيم يرشده إلى صحة الفكرة واستيعابها، لأن عدم استيعاب الفكرة يترتب عليه أمور أخرى غير جيِّدة، كمن لا يستوعب فكرة "التقية" فيتصور انّ التقية هي الجلوس في البيت وعدم العمل، متى يحصل هذا؟ عندما لا يناقشها مع الآخرين.. بل يتوقع مع ذاته، وذلك خطأ كبير، من أجل هذا فلابدّ من استيعاب الفكرة استيعاباً كاملاً عن طريق محاكاتها ومناقشتها مع الآخرين.
- ثالثاً: التفاعل مع الفكرة..
بعد أن يستوعب الإنسان الفكرة يسهل عليه تطبيقها على أرض الواقع، وذلك يتم أيضاً من خلال التفاعل مع الفكرة، أي ان يحول الفكرة إلى منهج نظري وعملي، والأفكار يجب أن ينسقها ويرتبها لكي تتحول إلى منهج سليم وبالتالي تطبيقها، ولكن شرط الاستيعاب يجب أن يتوفر لكي يتفاعل معها أي ان يطبقها، لأنّ الذي لا يستوعب فكرة معينة لا يؤمن بها بكل جوارحه ولذلك لا يبذل كل الجهد ولا يصمد في تطبيقها وسوف يكون كمن يقول عنه الله تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 3).
لأن من يقول فكرة يجب ان يطبقها لتأخذ مجراها في الحياة، لكي تكون منهجاً لسعادة الآخرين، انّ المسلمين في السابق كانوا يأتون إلى الرسول (ص) بعد سفر طويل ويستمعون منه إلى بعض الآيات أو الأحاديث ويعودون إلى قومهم عبر السفر الشاق ويبلغونهم ما حملوه معهم من توجيه، والتجار المسلمين كانوا يحملون معهم أيضاً توجيهات الرسالة ويبلغون خلال عملية تجارتهم، من أجل ذلك فان المراحل الثلاث مهمة للبناء المنهجي (تحصيل الفكر، استيعاب الفكرة، التفاعل مع الفكرة).
- رابعاً: ابتعد عن حب الفكرة..
وفي مجال تعاملنا مع الأفكار يجب أن نحذر من الوقوع في خطأ حب الفكرة، الذي ينطلق من هوى النفس، فقد تحب فكرة لأنها لبست حلة قشيبة من الأسلوب الجذاب، فعن طريق التداعي في النفس – لأنّها إذا استهوت شيئاً استهوت كل ما يرتبط به ويتقارن معه – تحب الفكرة بسبب أسلوبها، والأعجب من هذا، ان تحب فكرة لأنها تنسجم مع نفسية الفرد أو نفسية الأُمّة التي ينتمي إليها الفرد، فقد بيّن التحليل النفسي لبعض الفلاسفة ان هناك علاقة وثيقة بين "نفسية" الفيلسوف و"نوعية" فلسفته، فمثلاً: في موضوع "وحدة الوجود" قالت طائفة من الفلاسفة: ان كل شيء في الكون هو واحد، بينما قالت طائفة أخرى انّ الأشياء هي متعددة وليست وحدة واحدة، وعند التحليل النفسي، كان ذلك الفيلسوف الذي يعتد بذاته ويفرط في الإيمان، به، أنّه كان يرى العالم كأنّه مظهر من مظاهر ذاته الواحدة، وبالتالي كان يتصور أنّ الأشياء جميعاً شيء واحد لا أكثر (وحدة الوجود) مثلاً نيتشه الذي قال: (كل شيء هو أنا، بينما كان الفيلسوف الذي لا يعاني في الشعور بذاته يعتقد بوجود الأشياء منفصلة عن ذاته، وبالتالي يؤمن بأن لكل شيء وجوداً خاصاً به وينفي بذلك وحدة الوجود).
لذلك يجب ان لا تحب فكرة لمجرد أنها كانت تلائم نفسيتك أو نفسية امتك بل تعامل معها بوحي من العقل والحكمة وليس بوحي من الهوى النفسي.
- خامساً: حدد منطلقاتك الفكرية..
ولكي تبني فكرك وتخوض المعركة الحضارية الشاملة فانك بحاجة ماسة إلى تحديد المنطلقات الفكرية، ومن لا يحدد منطلقاته الفكرية فإنّه لا يقف على قاعدة فكرية معينة، إنما يعيش في جو فكري متخبط وتختلف عنده الركائز، وبالتالي فغن خريطة متكاملة لا تتكون عنده بسبب تعدد المنطلقات، ونقصد بتحديد المنطلقات الفكرية هو ان تنطلق من قاعدة فكرية واحدة، وليس من عدة قواعد، لأنّ التعدد في المنطلق يجعلك تتيه في صحراء الحياة أما أن تحدد لك منطلقاً فكرياً واحداً وتنطلق منه للدخول في الصراع فهو ان تعين النقطة المركزية التي تتمحور حولها، فتتمحور حول نقطة "التوحيد" وهو المنطلق الفكري الواضح، لا أن تتمحور حول نقطة "المصلحة الذاتية" أو أية نقطة أخرى، وهناك أصوات ترتفع بين حين وآخر تطالب بان نحل مشاكلنا السياسية والاجتماعية والنفسية والفكرية بان ننطلق من عدة منطلقات فكرية، ان نأخذ من الماركسية شيئاً، ومن الرأسمالية شيئاً آخر لنبني الحضارة، هذا المفهوم خاطئ من الأساس لأنّ الفكر الإسلامي يرفض ان يمتزج مع أفكار أرضية أخرى، لأنّه فكر كامل متكامل، هذا الفكر الذي استطاع ان يبني للإنسان في صدر الإسلام الأوّل حضارة شامخة اكتسحت الكرة الأرضية، لذلك فإنّه لا يمكن ان تتعدد المنطلقات الفكرية.. خذ مثلاً: عندما تريد ان تبني عمارة وفق خريطة معينة وبنيت الطابق الأول من العمارة على أساس الخريطة تلك واردت أن تبني الطابق الثاني على أساس خريطة أخرى فهل يمكن ذلك؟.. بالطبع كلا كذلك الحضارة لا تقوم على أساس خريطتين فكريتين متناقتين، والبناء المنهجي للفكر إنما يعتمد على تحديد المنطلقات الفكرية والا فانه لا يعتبر بناءً منهجياً.
- سادساً: سيطر على الفكرة..
بعد أن يقطع الإنسان شوطاً في التحصيل الفكري يرى نفسه فجأة في بحر من الأفكار.. قد غاص وذاب فيها، وبدلاً من أن تكون الأفكار هي القوالب التي من خلالها يصوغ شخصيته المميزة تراه يعيش بلا شخصية مميزة، لماذا؟.. لأنّه ذاب في كيان الأفكار وفقد السيطرة عليها، وبالتالي فإنّه يعيش وسط أمواج فكرية متلاطمة وربما يغرق في تلك الأمواج، انّ الإنسان يستقبل أمواج الأفكار وهي تتدفق ولكنه يجب أن يكون عنده السد المنيع الذي يمكنه من أن يصوغ هذه الأفكار في قوالب تساهم في بناء شخصيته أما أن تنهال عليه أمواج الأفكار فيعجز عن تصنيفها وتحديد كيفية الاستفادة منها فإنّه سوف يذوب في هذه الأفكار، فكل فكرة تجره إلى اتجاه وتعطيه توجهاً ومنطلقاً وفي النهاية يكون الإنسان كالربان الذي يفقد بوصلته، انّه يستقبل الأفكار ويستوعبها كلاً على حدة ولكنه يعجز ان يسيطر عليها بأكملها.. وهنا يفقد الإنسان السيطرة على الأفكار وبالتالي يفقد شخصيته.
- سابعاً: الفكر وسيلة لا هدف..
إنّ الحصول على الأفكار هي من أجل الوصول إلى الأهداف السامية ولكن هناك من يخلط بين الأمرين، فيتصور انّ التحصيل الفكري هو الهدف بعينه، ان ذلك مفهوم خاطئ.. لماذا؟.. لأنّ التحصيل الفكري ليس هدفاً بحد ذاته إنما هو وسيلة لكي توصل إلى تحقيق أهداف أخرى، فمثلاً أن تجعل هذا الفكر في خدمة المجتمع والبشرية، وبه تسعد الناس وتخرجهم من الظلمات إلى النور، اما إذا تصور الإنسان بأن تحصيل الثقافة هو الهدف فإنّه يقف عند حدود التحصيل فقط ولا يتعدى ذلك، لماذا يتعدى ذلك ما دام هدفه ليس ذلك، وهذا من أفدح الأخطاء التي تقع في طريق البناء المنهجي للفكر، فكثير من الناس يتصورون بأن حدود واجباتهم قد إنتهى عند نقطة التحصيل لأنهم يرون ذلك هدفاً، إنما الهدف يجب أن يتعدى ذلك الأفق الضيق، انت تفكر من أجل أن تسعد مجتمعك أنت تبني فكرك من أجل أن تُسخر ذلك في خدمة الناس، لأن من يرى ان هدفه الوحيد هو التحصيل الفكري فقط فإنّه يعيش في حدود ذاته الضيقة الأنانية، وهدفك يجب أن يكون عندما تعلم ذلك للجماهير، ان توصل لهم الفكر الرسالي الذي انحرفوا عنه مدة طويلة، وان ترسخ فيهم دعائم الفكر السماوي، فليكن ذلك هدفك، وإذا لم تفعل ذلك فإن لك جزءاً عسيراً لأنك مسؤول عن عملك، انّ الزلزال الثقافي يجب أن يعم الأرض التي تقف عليها الأُمّة الإسلامية ليبتلع تلك الأفكار والرواسب السلبية التي كانت تشكل المخدر والافيون الذي منع الأُمة من الانطلاق والتحرر وليبتلع رموز الفكر الأرضي الذين ثبطوا الأُمّة.
المصدر: كتاب (سر النجاح في شخصيتك)
ارسال التعليق