• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أبعاد النفاق السياسي

أسرة البلاغ

أبعاد النفاق السياسي

◄ المؤسسات الضرارية:

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة/ 107).

ويتحدث القرآن عن أخطر ظاهرة اجتماعية في المجتمع الإنساني، وهي ظاهرة النفاق السياسي والعقيدي والتآمر وتشكيل الطابور الخامس ـ طابور الجواسيس والمتآمرين على عقيدة الأمة وقيادتها الرشيدة وكيانها السياسي.. الذين يخططون للايقاع بها والقضاء عليها بالتعاون مع أعدائها.

ويحاولون التستر على أعمالهم هذه من خلال واجهات ومؤسسات خداعة.. تبدو في ظاهرها لمن لا يعلم، بحقيقتها، تبدو مؤسسات أو أعمال أو جمعيات أو منظمات إنسانية أو دينية أو خيرية أو أمنية أو فكرية أو كيانات سياسية هدفها خدمة المجتمع.

إنّ أولئك المنافقين والمتسترين على حقيقتهم، يتخذون من الدين والنفع العام ستاراً لهم، كالمساجد والأعمال ذات الصبغة الدينية، والإنسانية.

ويسجل القرآن ظاهرة نفاقية متآمرة.. في بداية الهجرة النبوية إلى المدينة، وتأسيس الدولة الإسلامية فيها، وظهور الإسلام ككيان سياسي وعقيدي، وحدوث الانقلاب والتغيير الاجتماعي الواسع، وانتشار الفكر والثقافة الإسلامية التي قضت على ظاهرة الفرقة والخلاف ووحَّدت العرب آنذاك في كيان سياسي وعقيدي متين.. شعرت قوى الردة والظلام المتمثلة في اليهود والمنافقين بقوة الدعوة الإسلامية، ودخول الناس أفواجاً في دين الله، وتعاظم قوة الإسلام العسكرية والسياسية والاجتماعية.. لقد أفلست هذه القوى الظلامية في داخل البلاد، فلجأت إلى التعاون والتنسيق والتآمر على الإسلام والنبي (ص) وكيان الأمة الفتية، والاستعانة بالقوى الخارجية، فتحركت قياداتهم للاتصال والتنسيق مع دولة الروم المعادية في بلاد الشام.. للإطاحة بالدعوة والرسالة والقيادة النبوية.. وكان لابد من واجهة مناسبة للمرحلة والثقافة المقبولة في المجتمع يتسترون بها، ويتخذونها مقراً للتآمر ومخادعة الرأي العام الإسلامي في المدينة المنورة فبنوا لهم مسجداً.

فكشف الوحي الإلهي للرسول (ص) هذه المؤامرة، وأخبره بأنّ هذا المسجد الذي ادعو انه للعبادة والتقوى وتعلم العلم وأحكام الشريعة ومساعدة المحتاجين وتسهيل الوصول إليه وجمع الناس فيه.. انّ هو إلا مؤسسة ضرارية هدفها الإضرار بالمؤمنين ومحاربتهم، وليس مسجداً للعبادة والإصلاح، فلا تستجب لطلبهم، ولا تُصلِّ في هذا المسجد، فانه مؤامرة تضم المتآمرين وأعداء الإسلام.

جاء هذا البيان الإلهي في عدد من الآيات لنقرأها ولنتأمل وننعم النظر فيها لتكون دلالاتها وأسباب نزولها مادة للوعي السياسي والاجتماعي والعقيدي كما أراد لها القرآن ذلك.

قال الله تعالى واصفاً هذا الحدث الضراري الخطير بقوله الخالد: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 107ـ110)

قال الطبرسي في سبب نزول هذه الآيات (107،108،109،110) من سورة التوبة: إنّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قُباء، وبعثوا إلى رسول الله (ص) أن يأتيهم، فأتاهم فصلّى فيه، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غُنم بن عوف فقالوا : نبني مسجداً نصلّي فيه ولا نحضر جماعة محمد (ص).. وكانوا اثنى عشر رجلاً، وقيل خمسة عشر رجلاً، منهم ثعلبة بن حاطب، ومعتّب بن قشير، ونبتل بن الحارث، فبنوا مسجداً إلى جنب قباء.

فلما فرغوا منه أتوا رسول الله (ص) وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا : يا رسول الله (ص) !.. إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه، وتدعو بالبركة، فقال (ص): إني على جناح السفر، ولو قدمْنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم، فلما انصرف رسول الله (ص) من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد (ضرارا) أي مضارة بأهل مسجد قباء، أو مسجد الرسول (ص) ليقلّ الجمع فيه.

فوجّه رسول الله (ص) عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدخشم، وكان مالك من بني عمرو بن عوف فقال لهما : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه، وروي أنه بعث عمار بن ياسر ووحشياً فحرقاه، وأمر بأن يتخذ كناسة تُلقى فيه الجيف.

حوى هذا النص القرآني الوارد في الآيات (107،108،109،110) من سورة التوبة بياناً وكشفاً وتخطيطاً لمخططات المنافقين وأعمالهم التي يتظاهرون بها في كلِّ زمان ومكان.. لذا يكشف أهداف هذا المسجد.. انّه مسجد ضراري، ينطوي على أهداف ضرارية عديدة.. من الأهداف الهدامة للذين اتخذوه: نشر الكفر والضلال والانحراف وأحداث الردة الفكرية والسلوكية.. إيجاد الفرقة والخلاف بين المسلمين وشق الصف بتأسيس مسجد ضراري، مقابل مسجد التقوى والإيمان الذي يقوم فيه الرسول (ص) والمخلصون من المؤمنين الصادقين.. فعل المنافقون ذلك ليكونوا جماعة مضادة مضارة.. ويشكّل هذا الهدف غاية أساسية في المخططات الضرارية النفاقية، فانّ أخطر ما يهدد المتآمرين على الأمة والعقيدة وقيادتها المخلصة وكيانها السياسي، هو وحدة الأمة وتماسكها، لذلك يعملون على تفريقها وتمزيق وحدتها.. وهذا الإيحاء التوعوي والثقافي يوضح لنا انّ أي جماعة، وفي أي زمان ومكان تقوم بنشر الفرقة والخلاف، وتثير التنازع في صفوف الأمة، إن هي إلا جماعة ضرارية.. هدفها الإضرار بالأمة ومصالحها وعقيدتها.

ومن أهداف هذه المؤسسة الضرارية التآمر عل الأمة وعقيدتها بالتعاون مع أعدائها في خارج حدودها والتنسيق معهم، بعد أن يئسوا من قدرتهم على مواجهة التحول والانقلاب الفكري والاجتماعي الشامل.. فراحوا يستنجدون بأعداء الأمة والعقيدة من خارج الحدود.. وهي دولة الروم آنذاك وملكها قيصر ويدعونهم لاجتياح البلاد والدولة والكيان السياسي، ويعدونهم بأنّهم القوة المساندة لهم، والرصد الجاسوس الذي يزودهم بالأخبار والمعلومات، ويعمل كحاضنة لهم.. وذلك ما نقرأه في النص القرآني الذي تحدث عن أهداف هؤلاء المنافقين، قال سبحانه: (وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله).. فكانوا هم ومسجدهم الرصد لأبي عامر الراهب زعيم المؤامرة المستقر في دولة الروم في الشام.. والذي كانوا ينسقون معه لغزو جيش الروم المدينة المنورة، والقضاء على الدعوة ودولة الرسول (ص) الإسلامية..

ويكشف القرآن الشعارات والادعاءات الكاذبة التي يتستر بها أولئك المنافقون.. انهم يظهرون للرسول (ص) وللأمة المسلمة، ويحلفون بالله، ويؤكدون دعواهم بالإيمان.. انّ هدفهم من اتخاذ هذا المسجد هو (الحسنى).. انّهم يدعون انما يريدون عمل الإحسان والخير والمنفعة.. والله يشهد انّهم لكاذبون.. والشاهد هو من اطلع على الحقيقة وشهد بها وكشفها.. والله هو الشاهد المطلع على الحقيقة وعلى ما يخططون ويبيتون.

ثم يستمر بيان القرآن ومخاطبته للرسول (ص) : (لاتقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)

إنّ القرآن بعد أن كشف للرسول (ص) هذه المؤامرة يطلب منه أن لا يستجيب لدعوتهم فقد دعوه ليصلي في هذا المسجد ليمنحه الشرعية والاعتبار.. وليستغلوا هذا الحضور النبوي كتأييد لهم يتسترون به..

ويدعوه إلى أن يقوم في مسجد التقوى مسجد قُبا، فهو أحق بالتأييد وترسيخ وجوده ومشروعيته لأنه بني على الصدق والتقوى والإخلاص.. وفيه أُناس يحبون أن يتطهروا من الذنوب والآثام، والله يحبهم لإخلاصهم وطهارة ضمائرهم وصدقهم وسلامة أهدافهم، فهم الذين يريدون الحسنى، وليس أولئك المتسترين.. وهذا التوجيه القرآني يوحي لنا ولقيادات المجتمع عبر الأجيال عدم التعاون أو إسناد المتسترين والضِرارين، والوقوف مع المخلصين وتأييد مشاريعهم ومؤسساتهم، وأن لا نساوي بين المؤمنين المخلصين، وبين المنحرفين والمنافقين والمرتبطين بأعداء الإسلام.

 

العبرة من الحادثة:

وفي هذه الحادثة التأريخية نجد العبرة والموعظة والدرس البليغ لأجيال الأمة المسلمة ولقيادتها.. لعل من أهمها:

1.   النفاق والمؤسسات الضرارية بشتى صورها: العقيدية والاجتماعية والسياسية.. إلخ خطر على وحدة المجتمع الإسلامي وأمنه وسلامته وعلى هويته العقيدية وكيانه السياسي.

2.   إنّ المنافقين يتسترون بواجهات وشعارات كاذبة لمخادعة المجتمع والقيادات المخلصة فيجب كشفهم والحذر منهم.

3.   إنّ الحسد والتنافس على المواقع القيادية والظهور الاجتماعي يدفع البعض لانتهاج أسوأ الأساليب وأكثرها خطورة.. ومنهجهم في ذلك: (الغاية تبرر الواسطة) وذلك ما فعله فريق من بني غُنم بن عوف مع فريق المؤمنين، وبالدافع ذاته اتخذ أبو عامر الراهب الموقف المعادي من رسول الله (ص) ظناً منه انّ النبوة منافسة قيادية، إذ كان أبو عامر الراهب يعمل على أن يكون القائد الديني في المدينة قبل مجيئ الرسول (ص) فلما جاء الرسول (ص) إلى المدينة وانتصر المسلمون في معركة بدر هرب إلى الطائف.. وعندما انتصر المسلمون في معركة الطائف هرب إلى بلاد الشام.. وراح يعمل ويخطط للتآمر على الإسلام ودولته مع دولة الروم..

4.     إنّ القيادات الإسلامية المخلصة يجب أن تتخذ موقفاً حازماً من هؤلاء المنافقين، ولا تمنحهم فرصة التأييد والنمو في المجتمع.. ويجب عليها أن تقف إلى جنب المنافس المخلص والنزيه في دعوته.. كما فعل الرسول (ص) بأمر من الله سبحانه.. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب/ 21)

5.   يجب إلغاء وإسقاط هذه الكيانات والمؤسسات الضرارية وعدم السماح بوجودها، كما فعل الرسول (ص) في مسجد الضرار.. فقد هدمه وحرّقه وحوله إلى مكان لجمع القاذورات.

6.   إنّ هؤلاء المنافقين يلتجأون إلى أعداء الأمة في خارج البلاد، ويتحولون إلى حواضن وعملاء ومراصد لهم.. ويتعاونون معهم للإجهاز على كيان الأمة الفكري والسياسي.. إلخ لذا فانّ مراقبة نشاطهم وتحركهم للحيلولة دون تنفيذ مخططهم من واجبات الأمة والدولة.

7.   وفي الحادثة نقرأ الفارق بين الفاسق أبي عامر الراهب، وبين ابنه حنظلة، غسيل الملائكة الذي استشهد في معركة أُحد، وكان جنباً فغسلته الملائكة.. وفي ذلك عبرة وموعظة وصورة معبّرة عن التحول الفكري والروحي الكبير الذي أحدثه الإسلام في الأسرة الواحدة.

 

ارسال التعليق

Top