◄لا نجد بين علماء العالم وحكمائه شرقاً وغرباً مَن يرى بديلاً عن (الزواج) كمؤسسة حياة تجمع الرجل والمرأة ليعيشا أيامهما بهناء واستقرار.
نعم، قد يُفكِّر البعض بأنّ هذه المؤسسة تحتاج إلى تطوير وملاءمة لظروف الإنسان الحديث، كما نرى عند عدد من الأميركان الذين اختاروا نمطاً من الزواج أُطلِقَ عليه (زواج السفر)، حيث يتزوّج الرجل والمرأة ولكنّهما لا يجتمعان في بيت واحد، وإنّما يلتقيان باستمرار مع تخلل لقائهما فترات من الفراق بسبب الانشغال في العمل أو اختلاف مكان السكن.. وهو نموذج مُشابه لزواج (المسيار) الذي شاع أخيراً في بعض الدول العربية الخليجية أو زواج (المتعة)، وإن كان فيه خلاف بين المذاهب الإسلامية..
وعلى أي حال، فإنّ الأهداف الإنسانية والحاجات الاجتماعية متأصِّلة في الإنسان وتبقى ثابتة، ولكنّ وسائل التعبير عنها قد تختلف من زمان لآخر ومن مكان لمكان.
وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ حاجة الإنسان إلى الزواج هي ليست منحصرة في الجنس، أو حاجته لإنجاب الأولاد وإشباع غريزة حبّ البقاء فيه، وإن كان الجنس دافعاً قوياً نحوه، وإنجاب الأولاد إحدى ثمراته...
لكنّ الزواج وتكوين الأسرة يمثِّل مشروعاً إنسانياً كبيراً، يؤمِّن للإنسان ما يحتاجه من حبٍّ وحنانٍ ودفءٍ واستقرارٍ نفسيّ، كما يوفِّر للإنسان الجوّ الاجتماعي الذي يحتاجه، والإنسان كما قيل اجتماعي بالطبع...
ولقد كان التعبير القرآني دقيقاً حين جعل علّة الزواج (السكون) و(الاستئناس)، وعبّر عن أدائه بـ(التمتّع)، ولذا فإنّ علماء (الجنس) خصوصاً السيكولوجيين منهم يؤكِّدون على أنّ ما يوفِّره الزواج للإنسان من سعادة وهناء واستقرار روحي وراحة جسدية، لا يمكن أن يوفِّره أي أمر آخر.. ولذا فهم يربطون بشكل مباشر بين نجاح الزواج وكفاءته وبين سعادة الإنسان وانطلاق الروح والفرح في نفسه، وهم يعلِّقون بشكل أعم سعادة المجتمع ونموّه ورشده على نجاح (الزواج) كمشروع حياة يؤمِّن للفرد الاستقرار ولأبنائه الأجواء الدافئة والمفعمة بالحبّ والرحمة، ينمون فيها بازدهار وينشأون فيها باعتدال وسويّة ورشاد.
وقد أكّدت الدراسات الاجتماعية والنفسية هذا الأمر، ففي دراسة لإحدى المؤسسات البريطانية عام 1995م، تبيّن أنّ الأفراد المتزوِّجين هم أحسن حالاً روحياً وجسمياً من غيرهم، كما أنّهم يتمتعون بوضع مالي أفضل.
وفي المقابل، فإنّ الموت في الأفراد (العزّاب) أو غير المتزوِّجين أكثر طلباً منه في الأفراد المتزوِّجين. وأوعزت الدراسة إلى أنّ سبب نصف حالات الانتحار في الشباب العزّاب يرجع إلى عدم الزواج وانخفاض الإقبال عليه في بريطانيا، إذ أنّهم أكثر استعداداً لذلك، فيما يكون الزواج عامل حماية وحصانة من الإقدام على الانتحار.
كما إنّ العزّاب أكثر تعرّضاً للأمراض والأعراض العقلية، فإنّ الإحصاءات تشير إلى أنّ أكثر نزلاء مستشفيات الأمراض العصبية هم من العزّاب.
أ) الحداثة "الغربية" تهدِّد الأسرة:
ربّما قدّمت لنا (الحداثة) وما بعدها في الغرب نموذجاً راقياً في الإعمار المدني والتقدّم العلمي وقوانين حقوق الإنسان وفي التجربة الديمقراطية السياسية... وفي ذلك الكثير ممّا نحتاجه لتقدّم مجتمعاتنا في العالم الثالث، في تلك الأصعدة وغيرها...
ولكن تجربة الغرب في عالم (الأسرة) أدّت إلى تهديد الأساس الذي يُبنى عليه الكيان الإنساني ويتقوّم به، وهي بالتالي تهدِّد أمن وسلامة وسعادة المجتمع بأسره.
ويوماً بعد آخر، تتوالى التقارير والدراسات التي تؤكِّد أنّ (مؤسسة الزواج في أوروبا تنهار)، وأنّ انهيار هذه المؤسسة يهدِّد شعوب عدّة دول بالانقراض.
فهذا تقرير نشره البرلمان الأوروبي (24/11/1999)، يؤكِّد أنّ مؤسسة الزواج في أوروبا تتّجه نحو مزيد من التراجع، لم تشهده أوروبا من قبل، حيث يشير التقرير إلى أنّ عدد حالات الزواج تراجعت في كلّ دول أوروبا الـ46، عدا فرنسا وألمانيا وايسلندا والبرتغال، حيث سجّلت زيادات طفيفة ـ ربّما يعود إلى ارتفاع نسبة المهاجرين في بعض هذه الدول ـ، وأنّ نصف النساء أجرينَ عقوداً رسمية مقابل نسبة كانت تصل إلى 90% سابقاً.. وكذلك تزداد نسبة الولادات خارج إطار الزوجية، حيث تصل إلى نسبة الثلثين في ايسلندا، و50% في الدانمارك، و40% في فرنسا.. كما إنّ نسبة الخصوبة أيضاً قليلة، حيث تبلغ 2ر1 طفل للمرأة في كلّ أوروبا.
وبسبب هذه الأوضاع، فقد أثارت مؤشرات النموّ السكّاني في ألمانيا عام 1999م، إلى المزيد من دواعي القلق من مغبّة انقراض الأُمّة الألمانية في غضون عقود من الزمن، حيث زاد عدد الوفيات عن الولادات بمقدار 76000 حالة وفاة، مما ينذر ـ حسب قول الخبراء ـ بأنّ هذا المعدل كفيل بأن تخسر ألمانيا ما يعادل سدس سكّانها حتى العام 2030م.
ولا تأتي هذه الأرقام منفردة ومعزولة عن عشرات التقارير الأخرى، التي تبيِّن آثار هذا الانهيار وتفشِّي البدائل المنحرفة والمزيّفة عن الزواج. ويُتمِّم منظومة تحطيم الأسرة وتهديدها، انتشار الفساد الأخلاقي بواسطة شبكات الفساد والانحراف الخلقي، بصوره المختلفة، منها:
ـ تفشِّي تجارة الرقيق الأبيض ـ الدعارة ـ التي عادت تشكِّل أحد أركان (الاقتصاد الأميركي)، إذ بدأ كثير من (المجرمين الدوليين يتركون الآن تجارة الأسلحة والمخدّرات إلى تجارة الرقيق الأبيض، فهناك حوالي مليون امرأة على مستوى العالم تُجبَر على العمل في سوق الدعارة)، بحسب قول هارولد كوه، أحد مسؤولي الخارجية الأميركية.
وتُجلَب سنوياً 50000 امرأة للعمل في الدعارة إلى أميركا وحدها، بحسب قول نفس المسؤول، والذي أوعزَ هذه الظاهرة إلى أنّ (القوانين ضعيفة).
وهذا الاستيراد إلى أميركا، يقابله تصدير آخر، حيث يتوافد آلاف الأميركان (السوّاح) على الدول الأخرى طلباً للجنس الرخيص والدعارة والزِّنا... تشهد لهم بذلك بلاد أوروبا الشرقية، كأوكرانيا وألبانيا.. وجنوب آسيا كتايلندا والفيليبين، والمكسيك وحتى بعض الدول (الإسلامية) كنيجيريا والمغرب..!!
وتلك هي تجارة الحضارة الغربية الحديثة على المستوى الاجتماعي، تستورد (الفواحش) وتصدِّر (الزّناة)، ويعترف سام براون باك، عضو الكونغرس الأميركي بأنّ (تجارة النساء والأطفال هي أوضح دليل على العبودية في عالمنا اليوم).
وبناءً على هذا، فإنّ مكافحة الإسلام للفساد أكبر دليل على تحريره للإنسان من أغلال هذه العبودية المذلّة.
ـ وبموازاة الرقيق من النساء، هناك الرقيق من الأطفال، ضحايا (المدنية المعاصرة).. وهو أيضاً من آثار (العدوان الأوروبي) على البلدان المستضعفة، إذ تتزايد أعداد السيّاح الأوروبيين وغيرهم ـ من المتأثِّرين بهم ـ من القاصدين بلداناً في جنوب شرق آسيا بحثاً عن المتعة الجنسية مع الأطفال، وتشير منظمة حماية الأطفال، أنّ عدداً أكبر من الأطفال ـ بسبب الفقر ـ وقعوا ضحايا البغاء، فتياناً وفتيات، مع السيّاح الأجانب.. والتحقت مؤخّراً فيتنام وكمبوديا ـ الشيوعيتان سابقاً ـ بتايلندا وسريلانكا والفيليبين في نادي بغاء الأطفال.
والتحق بالسيّاح الأوروبيين ـ في مزاولة هذه العملية الشريفة..!! ـ آسيويون من دول صناعية متقدِّمة ـ محسوبة على الغرب ـ مثل كوريا الجنوبية واليابان وتايوان.
وفي تشيكيا ـ كمثال على الدول الاشتراكية السابقة الملتحقة بالغرب حديثاً ـ طالبَ رؤساء بلديات 25 مدينة وبلدة سلطات الحكومة المركزية باتخاذ خطوات فعّالة ومؤثِّرة لمنع تفاقم مشكلة البغاء التي انتشرت في مدن محاذية لألمانيا والنمسا، يقصدها زبائن من هذين البلدين باحثون عن الجنس...
والانحراف الآخر هو (الشذوذ).. الذي ينتشر بصورة كبيرة في أوروبا وأميركا، ولم يتخلّف عن الركب حتى بعض الأوساط الدينية اليهودية وحتى المسيحية، التي بدأت تبيح هذا النوع من (الزواج). فقد صوّت الحاخامات المنتمون لأكبر تجمّع يهودي في الولايات المتحدة الأميركية لصالح الاعتراف بزواج الشذوذ جنسياً، ووافق المؤتمر المركزي للحاخامات الأميركيين التابع لحركة الاصلاح اليهودية على مباركة زواج الشواذ من الجنسين في طقوس دينية يهودية (مبروك وألف مبروك).
من خلال هذه المؤشرات والظواهر، تبرز حقيقة أنّ مستقبل الأسرة، الإنسان، الرجل والمرأة في الغرب ينذر بالخطر، وإنّ هذا الخطر سيزحف إلى البلدان الأخرى إن لم يكن قد غزاها.
ب) مستقبل الأسرة في العالم الثالث:
تتّجه معظم دول العالم الثالث إلى (التحديث) في مدنيّتها وحياتها الاجتماعية، والاتجاه السائد من تحديثها هو تطوير التصنيع وتنشيط حركة البناء والتجارة، فيما لا زالت حركة التحديث في الزراعة متخلِّفة، وكذلك في الجوانب الفكرية والسياسية.
إلّا أنّ هذه البلاد استوردت الكثير من العادات والتقاليد الغربية في الملبَس والمأكل ونمط العلاقات الاجتماعية قبل أن تستورد من الغرب المكائن والآلات والتكنولوجيا المتطوّرة، واتّجه أنصاف المثقّفين إلى التأنّق والتخلّق بالتقليد الأعمى لبعض السلوكيات دون أن يأخذوا بأسباب التقدّم ويستفيدوا من تجارب الغرب الإيجابية ويعتبروا بإخفاقاته وأخطائه.
والسبب الرئيس في ذلك، أنّ التأثير لم يكن في جوٍّ صحّي ووضع متكافئ، على الأقل من الناحية النفسية والفكرية، بل نتج عن تأثّر الضعيف بالقوي، واتّباع الفقير للغني، واستضعاف المريض أمام المتعافي، فكانت عملية التأثّر بالنسق النازل، من أعلى لأسفل، فالعالم الثالث كان يئنّ من الجهل والفقر والمرض، ذلك المثلّث المشؤوم، الذي يؤهِّله للاستضعاف ويجعل عنده القابلية للاستعمار والاستعباد.
ولم تكن عملية التفاعل انتقائية أو اختيارية وبوعي وقصد، لكي يأخذ الإنسان أو المجتمع ما يفيده وينفعه، بل غالباً ما كانت سطحية وقشرية تأخذ بالظواهر دون الجواهر، فهي تتّجه إلى تحسين صورة الواقع، ولا تنفذ إلى أعماق التجربة الغربية لتأخذ منها أساليب العمل ونظم الإدارة ونقاط الانطلاق ومنافذ الإبداع التي تفتح أمام العلم الآفاق، وتأخذ بالمجتمع نحو التقدّم والازدهار المدني...
كما إنّ عملية نقل العلم والنُّظم والتكنولوجيا كانت محدودة وقاصرة، لأنّ المستعمر القوي لم يكن يشأ لهذه البلاد (المتخلِّفة) أن تأخذ بأسباب القوّة وأن تسير بخطى النهضة، وإنّما كان التغيير والتطوير في مجالات الاستهلاك لغرض توسعة أسواق السلع الغربية، وفي تقديم بعض الخدمات الصحّية والاجتماعية المحدودة والتي تجعل من هذه الشعوب راضية ومَدينة للغرب المنقذ دوماً.
وغالباً ما تتّجه ميزانيات هذه الدول (النامية) إلى التسلّح وتقوية البُنى العسكرية حفاظاً على أنظمتها التي لا تستند إلى رأي الشعب وحمايته، ولأنّها دوماً في صراعات مع هذا الجار أو ذاك بسبب بؤر توتّر زرعها المستعمرون هدية متفجّرة منهم إلى شعوب المنطقة، لترجع بهم إلى الوراء في حرب واحدة ما تقدّموا ـ إن كانوا قد تقدّموا ـ في عشرات السنين، ولتبقى يدهم السفلى باستمرار، يستعينون بـ(الأجنبي) لحلِّ خلافاتهم المحلية، ويبقى وجود (السيِّد الأبيض القوي) مصدر أمن وأمان لشعوب المنطقة.!!
ولذا، فإنّنا نجد الموضة الفرنسية في المأكل والملبَس تصل بلادنا قبل أن تصلها مبادئ الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان وتجربة الديمقراطية فيها، بعشرات السنين. كما إنّ الكثير من الأوضاع الاجتماعية المتفسِّخة انتقلت أو نُقِلت إلى بلادنا قبل أن تنتقل التكنولوجيا أو التنظيم المدني، أو الازدهار المعيشي والرفاه الاقتصادي.
ومن هذه الأوضاع، ما يخصّ الأسرة: الرجل والمرأة، على السواء، لذا فإنّ آثار (الحداثة) في هذا الميدان أصابت مجتمعاتنا، وعملت على تهديد واقع الأسرة وحملت معها الفساد: الخمر والبغاء والأجواء المنحرفة، وهي تهدِّد سلامة الإنسان في بعض المجتمعات، إن لم تكن قد قضت فعلاً على قطاعات كبيرة منها بالموت روحياً، أو جسدياً.
وتلك بعض أخبار هذا (الزحف المقدّس):
ـ في المغرب، خط التماس العربي والإسلامي مع الغرب، تصل نسبة الإصابة بمرض الإيدز بين النساء إلى 25% من مجموعهنّ 1994م.
ـ وفي جنوب أفريقيا، البلد الأفريقي الأكثر حداثة، والذي بُني بإشراف الرجل الأبيض، يُسجِّل أحد أعلى نسب الإصابة بالإيدز في العالم.
ـ وفي الصين، تقول منظمة اليونيسيف أنّه يمكن أن تسجّل فيها عشرة ملايين إصابة خلال السنوات العشرة القادمة ـ عندما يكون الانفتاح قد آتى ثماره ـ.
ـ وتشير إحصائيات منظمة الصحّة العالمية إلى أنّه حتى نهاية العام الماضي، وصل عدد المصابين بفيروس مرض الإيدز في دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط إلى ما يزيد عن 336000 شخص، منهم 42000 امرأة، وتوفِّي بنفس السبب 13000 شخص تاركين وراءهم حوالي 15000 طفل يتيم... (مبروك للفضائيات العربية).
ـ وفي حديث لوزيرة التنمية الاجتماعية والوحدة الوطنية الماليزية حول أوضاع الأسرة في القرن الحادي والعشرين، تقول: إنّ المشاكل الاجتماعية والعائلية في ازدياد مضطرد في الأعوام الأخيرة، وأنّ عمل الوالدين، وعدم اهتمامهم بأولادهم وبالتالي عدم استفادتهم من التعاليم الأخلاقية والدينية هو السبب الرئيس وراء فرار الفتيان من منازلهم وتعرّضهم لأنواع المشاكل الاجتماعية.
كما إنّ نموّ السياحة وعرض الأفلام المبتذلة الغربية، وعلى الخصوص الأميركية، هي من الأسباب الأخرى لخلق الاضطراب الاجتماعي في هذا البلد.
ـ وفي الأردن: أظهرت إحصاءات ترصد شؤون الزواج، أنّ ظاهرة العنوسة آخِذَة في التفاقم في المجتمع الأردني.. وارتفع متوسِّط العمر عند الزواج الأوّل من 20 عاماً للذكور عام 1961م إلى 8,28 عاماً عام 1998م، ومن 6,17 عاماً للأناث إلى 25 عاماً... وقد أرجعت أسباب ذلك إلى المغالاة في طلب المهور، وتنامي مستويات البطالة بين الشباب، وتصاعد إيجارات المساكن وارتفاع الأثاث.
إنّ هذه الأوضاع المأساوية، تتطلّب من جميع المهتمِّين بالإنسان، في بلادنا، دولاً وشعوباً، منظمات إنسانية واجتماعية أو أحزاباً سياسية، معاهد علمية أو جامعات وغيرها إلى أن تخصِّص متّسعاً من اهتماماتها ووقتها وبحوثها لدراسة أوضاع المجتمع وسُبل تطويره ومعالجة الظواهر المرضية الخطرة، وتعيين خطط للوقاية من أوبئة (الغرب) قبل حدوث (الفاجعة) وفوات الأوان.
وقد آنَ الأوان لدولنا وشعوبنا أن تمتلك الإرادة والوعي اللازمين لانتخاب طريق الحياة والتخطيط لمستقبلها وتعيين برامج التنمية المناسبة لعقيدتها ومبادئها وأخلاقها، والتي تضمن لها التقدّم المدني والعلمي، في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على شخصيتها الإنسانية والوطنية.
ولم يعد الزمن يتحرّك ببطء، ولا التغيير ينتظرنا حتى نصحو، ولا المخاطر والأمراض المتسارعة تمهلنا حتى نستيقظ من رقدتنا ونستفيق من سباتنا، فإنّ العالم اليوم كما يقولون قرية، تنتقل فيه أمواج الفكر والثقافة ونوبات الموضة والسلوك بلحظات..
ولا يمكن أيضاً لمجتمع أن يغلق نوافذه ويحكم أبوابه، ليمنع حركة الحداثة من ولوج حصونه، إلّا أن يخنق المجتمع ذاك نفسه ويموت، وإنّما يتطلّب الأمر وضع الخطط اللازمة لتنمية المجتمع وتحديثه باختيار وطواعية وانتخاب واعٍ ومدروس، فليس كلّ ما في الغرب عورة وسوءاً، ففيه الكثير ممّا نحتاجه، وعندهم بعض ما يساهم في نهضتنا، ولكن ليس كذلك كلّ ما عندهم من جديد مفيداً وصحيحاً، بل أنّ هناك الشيء الكثير الذي يألمون منه ويرفضونه هم قبل أن نقبله أو نرفضه.
ج) برامج لمستقبل الأسرة:
لابدّ أن يكون برنامج الحفاظ على الأسرة في مقدّمة برامج الدول والمؤسسات الشعبية ضمن تخطيط متكامل يلاحظ فيه ما يلي:
1 ـ الحفاظ على كيان الأسرة في أيّة خطّة تنموية شاملة أو برامج اقتصادية واجتماعية أو ثقافية، ويلاحظ موضوع تأمين السكن أو مساعدات الزواج والأولاد، والتحاق الزوجة بزوجها أو العكس في مكان الإقامة والعمل. إنّ مشكلة السكن أو تردِّي الوضع الاقتصادي، كان طبقاً لبعض التقارير من أكثر العوامل المعيقة للزواج، لذا كان من الواجب وضع الخطط لتيسيرها وتهيئة وحدات سكنية صغيرة ومناسبة.
2 ـ الحفاظ على شخصية المرأة المتميِّزة بالاحترام والرعاية والتقدير، وإلغاء أيّة تشريعات تسيء إلى المرأة، أو تعرِّضها لظروف عمل أو دراسة أو سكن لا تناسبها، وضمان حقوق المرأة زوجةً وأُمّاً، وإقرار مبدأ الكفالة الاقتصادية والاجتماعية لها من قِبَل الزوج، أو الأبناء، والمجتمع والدولة. إنّ التفريط بأنوثة المرأة فاجعة كبيرة على الحياة النفسية للمجتمع، لأنّها ستفقد بذلك سحرها وجمالها، وستجعل الرجال أقلّ ميلاً لتشكيل الأسرة، لتوفّر الجسد الرخيص وفقدان روعة الروح وتألّقه.
3 ـ محاربة كافة أشكال الفساد من بغاء ودعارة، أو انحرافات جنسية وخلقية، كأكثر الوسائل التي تهدم الأسرة، وتعيق نموّ المجتمع وتكامله، وتضرّ بسلامة الأفراد: رجالاً ونساءً، إذ هي الوسائل الأكثر فاعلية في نقل الأمراض، إضافة إلى سقوط الذِّمم والأخلاق.
وممّا يؤسَف له أن تتواجد بيوت الدعارة علانية في العديد من الدول العربية والإسلامية، دون أي رادع من ضمير أو وجدان، أو صدٍّ من تشريع وقانون، مع الموقف الشديد للإسلام من هذه الرذيلة التي تحطِّم المجتمع، وتُنزِل بالمرأة والرجل إلى مستوى البهيمية، وعلى الرغم من الحظر الدولي للدعارة.
4 ـ ومن العوامل الرئيسة التي تفتك بحياة الأسرة وتنخرها من الداخل، هي الاستفادة من الكحول والمخدّرات، فإنّ هذه تفقد مدمنها والمستفيد منها عقله ووعيه وتضعف إرادته، وبالتالي يعرِّض أهله لسوء المعاملة وربّما الإدمان أيضاً، ويواجه أطفال المدمنين ـ على الخمر ـ جوّاً من القلق والاضطراب ووضعاً نفسياً مريضاً مصحوباً باليأس والخيبة. وقد لوحظ أنّ كثيراً من نساء المدمنين ربّما يلجأنَ للانتحار تخلّصاً من الوضع الذي يواجهنه، وأنّ نصف أولادهم يبتلون بالإدمان في المستقبل، ويتطلّب ذلك خططاً لمواجهة تفشِّي تناول الخمر والعمل على حظر ذلك وتوعية الناس خصوصاً الشباب بمخاطره.
5 ـ ومن العوامل الرئيسة في إعاقة الزواج، العادات والتقاليد والسنن الاجتماعية في الزواج، ومنها ارتفاع قيمة المهر، وإجراء مراسم الزواج بشكل مُكلِّف للزوج، وعدم تناسب شرائط وأوضاع الزواج مع الظروف والحياة والعمل الجديدة. إنّ أوضاع الزواج في معظم مجتمعاتنا لا تطابق الدِّين ولا تلائم العصر والزمان، فالدِّين أكّد على انخفاض المهر وتسهيل عملية الزواج، ووفّر شرائطه، والزمان المعاصر يتم فيه تسجيل الزواج بدقائق، وربّما بدون مراسم وتشريفات.
6 ـ تتطلّب الحياة الحديثة من ظروف لإكمال الدراسة الجامعية وتحصيل العمل المناسب وتوفير السكن سنوات عديدة قد تمتد حتى يتجاوز الشبّان: فتياناً وفتيات المرحلة المزدهرة والممتعة من العمر من دون زواج، إمّا بالكبت والحرمان، ولهذا آثاره السلبية، وإمّا بالعلاقات غير المشروعة، ولتلك مآسيها وآثامها، لذا ينبغي على أولياء الأمور: ساسة وعلماء وآباء وأُمّهات أن يعملوا على توفير فرص للزواج ضمن الدراسة أو العمل وبأجواء سهلة وبتكاليف بسيطة، لا تعيق عمل الفرد أو دراسته، ولا تعرِّضه للضغوط النفسية والمشاكل الصحّية والاجتماعية الناتجة عن تأخّر الزواج، ويحتاج ذلك إلى التعامل مع هذه الأمور بوعي وواقعية، فيمكن مثلاً إجراء العقد بين الزوجين وتأجيل المراسم أو الاقتران العملي لما بعد، حتى يستثمرا شبابهما بالعلاقات الشرعية والحبّ النظيف لحين توفّر فرصة العيش المشترك بعد، وتعمل الجامعات والمؤسسات الخيرية لتوفير السكن الجامعي البسيط للمتزوِّجين، وأن يتقبّل الأزواج الجدد العيش مع أهاليهم والتمتّع بحمايتهم ورعايتهم لحين توفّر سكن مستقل.
7 ـ العمل على تحصين الشباب، فتياناً وفتيات، بالثقافة الحياتية المطلوبة والوعي الديني الملتزِم، لغرض مواجهة موجات الفساد والإفساد العالمية بموقف رصين وإرادة صلبة تستند إلى الموقف الشرعي والمعرفة المتكاملة بما ينبغي عمله وما يجب تجنّبه، وإحاطة جيِّدة بالمخاطر الصحّية والاجتماعية لكلّ الآفات الاجتماعية، كالزِّنا والانحراف الجنسي والكحول والمخدّرات، والانسياق النفسي وراء المظاهر الزائفة التي تهزّ شخصية الإنسان وتعرِّضه للاضطراب وتعيق حركة رشده وتكامله.
8 ـ لا شك أنّ لوسائل الدعاية والإعلام بمختلف أنواعها دوراً كبيراً في تشكيل الرؤى والاتجاهات عند الإنسان، وفي تحريك ميوله وإثارة غرائزه، أو العكس، وبالتالي في نفس الوقت الذي يجب العمل على الاستفادة من التطوّر العالمي لوسائل الاتصال والأجهزة المعلوماتية، وتسخير هذه الفرصة الثمينة للإطلاع على نتاجات البشرية الثقافية... يجب العمل على تحديد تأثير هذه الوسائل على الشباب سلبياً بأقل ما يمكن، وعدم فسح المجال لقنوات التلفزة وبرامج الإنترنت المبتذلة، والتي تعمل على هدم أُسس المجتمع وتحطيم كلّ شيء مقابل لذّة وقتية لا تدوم.
إنّ الخطط التربوية في السابق ربّما كانت تقوم على أساس حجب المعلومات المضرّة عن الفرد الناشئ، وبسبب عالمية وسائل الاتصال اليوم وتداخل بعضها مع البعض، أصبح هذا الأمر غير ممكن، لذا يجب أن تتوجّه خطط الإرشاد والتوعية على أساس تنمية قدرة الانتخاب وإرادة الاختيار لدى الفرد رغم اطِّلاعه على السيِّئ من الأمور، تماماً كما هو الحال مع الأفراد الراشدين والذين يعيشون في مجتمعات غربية إباحية، ولكنّهم رغم ذلك، وبسبب التربية والوعي، يحافظون على أنفسهم ولا يخلّون بالتزاماتهم الدينية والأخلاقية، ومتابعتهم بالنصح والتوجيه اللازمين.►
المصدر: كتاب المرأة.. أزمة الهوية وتحديات المستقبل
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق