◄يشكل الزمن عنصراً أساسياً في البناء الحضاري، فعملية البناء الحضاري بحاجة إلى زمن، بالإضافة إلى الإنسان والأرض والفكر.. هذه هي أهم مقومات البناء الحضاري.
إنّ أي بناء لأيّة حضارة يتوقف على كمية الإنتاج، والإنتاج بدوره يتوقف على مدى استفادة الإنسان من الزمن، فبقدر ما يعمل الإنسان ينتج، وبقدر ما يعمل المجتمع ينتج، ويتوقف بناء أيّة حضارة على الإنتاج الجماعي.
"إنّ الأُمم الصناعية المتقدمة في أوروبا وأمريكا وروسيا واليابان وألمانيا وسويسرا وغيرها قدسوا الوقت وربطوه بحركة الحياة الدنيوية المادية أو الصناعية ربطاً دقيقاً محكماً لا تهاون فيه ولا تسامح، ولم يكتفوا بذلك بل ربطوه بكمية الإنتاج ونوعيته وتطويره، وبالاستثمار والربح والخسارة، باعتبار المؤسسات الصناعية والإنتاجية ليست ملاجئ للعابثين والمرضى والبطالة المقنعة، حتى المؤسسات الفنية والفكرية والصحفية والإعلامية تطبق نفس القواعد والأساليب، وأي إهدار لقيمة الزمن يعني التخلف والخسارة والإفلاس وذلك كلّه ينعكس على المجتمع ككلِّ، وليس على تلك المؤسسات وحدها.
إنّ معرفة قيمة الزمن وأهمية استثماره، والحرص عليه كنعمة وكقيمة، من الأسس الهامة لأية نهضة صناعية واجتماعية.
إنّ تبذير الوقت فيما لا ينفع أبشع من تبذير المال فيما لا طائل ورائه"[1].
ومن المؤسف حقاً.. أن نرى الكثير يفرطون في أوقاتهم، ويتعاملون مع الوقت كسلعة زهيدة، إنّ هؤلاء لم يدركوا بعد قيمة الزمن ومدى أهميته في تطور الحياة سواء على الصعيد الفردي أو الصعيد الجماعي أو الصعيد الحضاري.
وتثبت الإحصائيات أنّ الموظف في دول العالم الثالث ينتج كلّ يوم 15 دقيقة فقط، بينما في الدول المتقدمة ينتج 6 ساعات يومياً.
إنّ تبديد الوقت، بل ومحاولة إهداره بالقوّة، لهي من أهم عوامل التخلف الحضاري، وقد اعتبر القرآن النهار للعمل، والليل للراحة، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) (النبأ/ 10-11).. وكما يقول أحد الكتاب:
"الشروق أمل..
الضحى جد وعمل..
الغروب شجن..
والليل راحة ودعة..
هذه هي مواقيت الحياة منذ الأزل..
فإن اختلطت المواقيت اضطربت الحياة..
والحصيف من تأقلم على المواقيت.. والغبي من تمرّد عليها..
الأُمم المتقدمة طوعت أنشطتها للمواقيت..
والأُمم المتخلفة خلطت بينها..
أصبح الضحى للكسل..
والغروب للهو.. والليل للسهر والضياع..
واختلطت المواقيت.. وضاع الإنتاج..
ولا حضارة إلّا بالعودة إلى المواقيت التي صنعها الله وأحسن صنعها.."[2].
إنّ من الضروري جدّاً.. أن يدرك الإنسان أهمية الزمن، وأن يستثمر وقته كي يتمكن من زيادة إنتاجه وفاعليته، وأن يشارك مجتمعه في البناء الحضاري.
وقد اعتبر الإسلام أنّ استغلال الوقت في العمل الصالح هو سبيل الفلاح والنجاح وإلّا فالخسران والفشل لكلِّ من يهدر أوقاته في العمل الطالح، قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر).
السنون الحاسمة:
مرحلة الشباب هي السنون الحاسمة في عمر الإنسان، والتي تبدأ من العشرين إلى الأربعين، هذه الفترة والتي تقدر بعشرين عاماً، هي أعوام الحسم في عمر الإنسان حيث تعتبر هذه المرحلة من أهم المراحل في حياة الإنسان، حيث القوة والنشاط والفاعلية والحركية والإرادة.. و.. و.. تتوافر في هذه المرحلة الحاسمة من حياة الإنسان.
ففي مرحلة الشباب يرسم الإنسان مستقبله، وطريقة حياته، ومستوى إنتاجه، ومدى نجاحه أو فشله، لأنّ هذه المرحلة تمتاز عن غيرها بعدة مميزات... أهمها:
1- التكامل الجسمي
2- النمو العقلي
3- تحمل مسؤوليات الحياة
4- وجوب التكاليف الشرعية
ولذا من المهم جدّاً أن يستفيد الإنسان من هذه المرحلة بصورة جدية، لأنّه بعد مرحلة الشباب تأتي مرحلة الكهولة ثمّ تأتي مرحلة الشيخوخة، حيث الضعف والوهن يبلغ بالإنسان مداه، كما قال تعالى:
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (الروم/ 54)، وقد حثّ الرسول محمّد (ص) الشباب على أهمية اغتنام هذه المرحلة، فقد روي عنه (ص): "اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك" إنّها توصيات رائعة جدّاً من نبينا (ص)، فمرحلة الشباب هي مرحلة القوة، مرحلة الإنتاج، مرحلة العطاء، مرحلة الإرادة.. وبالتالي لابدّ من الجدية في التعامل مع هذه المرحلة، بيد أنّ التفريط في هذه المرحلة، هو تفريط في أهم ثروة يملكها الإنسان..
وكما قال الإمام عليّ (ع):
إذا عاش الفتى سبعين عاماً *** فنصف العمر تمحقه الليالي
ونصف النصف في سهو ولهو *** ولا يدري يميناً عن شمال
ونصف الربع آمال وحرص *** وشغل بالمكاسب والعيال
وباقي العمر آمال وشيب *** تدل على زوال وانتقال
فحب المرء طول العمر جهل *** وقسمته على هذا المثال
ويقول المتنبي معتبراً أنّ آلة العيش الصحة والشباب:
ولذيذ الحياة أنْفَسُ في النفس *** وأشهى من أن يُملَّ وأحلى
وإذا الشيخ قال أفٍ فما ملَّ *** حياةً وإنّما الضعفَ ملَّا
آلةُ العيشِ صحة وشباب *** فإذا ولّيَا عن المرء ولّى[3]
وقال الفرزدق:
ويقول كيف يميل مثلك للظبا *** وعليك من عظم الشيب عذار
والشيب ينقص في الشباب كأنّه *** ليل يصيح بعارضيه نهار[4]
إيّاك والتفريط في شبابك، فإنّك لابدّ وأن تكون شيخاً في يوم من الأيام، ستكون حينها ضعيفاً، عاجزاً عن تحقيق طموحاتك، لا حول لك ولا قوة، إنّك بحاجة إلى لحظة من التأمل والتفكير والتدبّر في شبابك قبل فوات الأوان!
إيّاكم وكثرة النوم:
يشكل النوم واحداً من الحاجات ذات الأصل الحيوي لدى الكائن الآدمي، بحيث تجسد حاجة أولية لابدّ من إشباعها، ولا يمكن ممارسة التأجيل حيالها، ومن البين أنّ بعض الدوافع الحيوية مثل الجنس وغيره من الممكن ممارسة التأجيل حياله دون أن يترتب على ذلك تلف جسمي أو عقلي، بخلاف النوم، فيما يتطلب حدّاً أدنى من الإشباع، تتوقف حياة الكائن الآدمي عليه، جسمياً ونفسياً وعقلياً، فانعدام النوم ليومين مثلاً يسبب هُلاساً، واستمراره لأربعة أيام يسبب فقدان الذاكرة، واستمراره لأسبوع يشلّ الشخصية عن فاعلياتها جميعاً.
بيد أنّ إرواء هذه الحاجة يظلّ في التصور الإسلامي محكوماً بقدر الحاجة، وأما الزائد عن الحاجة فيتحول إلى نتيجة مضادة تماماً، بمعنى أنّ النوم يظل مجرّد وسيلة للعمل العبادي، يتحدد بقدر الحاجة إليه، فإذا زاد عنها تحول إلى ممارسة سلبية، ومن هنا تجيء التوصيات الإسلامية محذرة من النوم الزائد عن الحاجة، من نحو: "إنّ الله عزّ وجلّ يبغض العبد النوّام الفارغ" ونحو: "كثرة النوم مذهبة للدين والدنيا" بصفة أنّ الزائد عن الحاجة يختزل من فرص الحياة والآخرة من حيث توفر الإشباع.
وأيّاً كان، فإنّ ممارسة النوم تظل – في التصور الإسلامي – محكومة بقدر الحاجة أي بقدر ما يحقق التوازن الحيوي والنفسي للشخصية[5].
ومن المؤسف أن تجد شخصاً يهدر أكثر من نصف عمره في النوم! فتراه ينام في اليوم أكثر من 12 ساعة، غير مبالٍ بهذا التبذير الضارّ في حياته، وما أجمل ما قاله الإمام عليّ (ع): "ما أنقض النوم لعزائم اليوم!"[6].
وكما أنّ قلة النوم تسبب أمراضاً للإنسان، فكذلك كثرته أيضاً، إنّ الإنسان بحاجة إلى النوم بقدر ما يشعر بالراحة منه "ورب سائل يسأل: ما عدد ساعات النوم المثالية لإنسان صحيح الجسم، موفور العافية؟ وللجواب على هذا التساؤل نقول: إنّه لا يوجد عدد مثالي لهذه الساعات، وأنّ الناس يختلفون في هذا الأمر اختلافاً بيّناً، فنجد أشخاصاً يكتفون بثلاث ساعات أو أربع خلال يومهم كلّه، ويحتفظون مع ذلك بكامل نشاطهم وحيويتهم في الوقت الذي نجد فيه آخرين ينامون أضعاف هذه المدة"[7] ويجيب بعض علماء النفس على هذا التساؤل بقولهم: "يكون النوم طويلاً عند حديثي الولادة، يكاد يشمل كلّ وقت الطفل في غير أوقات الرضاعة، ثمّ ينقص إلى حوالي 7-8 ساعات يومياً في الراشد، ويقل بعض الشيء في بعض السنين، ولكن هناك فروقاً فردية، كما أنّ للتعود أثراً على مدة النوم، وهناك من ينامون حوالي 4 ساعات فقط وتكون فيها الكفاية"[8].
إنّ من يطمح للنجاح، والوصول إلى القمة، لابدّ وأن يقلل من ساعات نومه، كي ينتج في أوقات اليقظة إلى أقصى طاقته، وقد أكّدت الدراسات. أنّ عظماء التاريخ وكبار الزعماء، وأشهر الناجحين، كانوا لا يزيدون على أربع ساعات من النوم يومياً، فإذا كنت راغباً في الانضمام إلى سجل الناجحين في الحياة، فنم بقدر ما تحتاج، واعمل بقدر ما تستطيع!
الهوامش:
[1]- الإسلام وحركة الحياة، ص157.
[2]- طبيبك الخاص، ص5، عدد 238.
[3]- ديوان المتنبي، ض407.
[4]- المستطرف في كل فن مستظرف، ج2، ص69.
[5]- دراسات في علم النفس الإسلامي، ج2، ص265.
[6]- نهج البلاغة، ج4، رقم الحكمة 440.
[7]- مجلة العربي/ العدد 279، ص159.
[8]- علم النفس الفسيولوجي، ص271.
المصدر: كتاب الشخصية الناجحة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق