لئن كانت العولمة في أيامنا هذه واقعاً موضوعياً، وتلك حقيقة لا مراءَ فيها، فإنّ هذا الأمر يقتضي منّا أن نفكر على جبهتين مختلفتين: الأولى أن نحاول تفهم لماذا كانت القيم التي ترسيها العولمة هي قيم سلبية في مجملها لأنّها في النهاية هي قيم الاستهلاك والعدوان والاحتلال إلخ. وهذه القيم – الاقتصادية والسياسية – تشير إلى أنّ العولمة هي الصورة الأخيرة من التطور الحضاري للإنسانية، مجسدةً في أعلى مرحلة بلغها تطور الرأسمالية العالمية.
ولو أنّنا نظرنا في العلاقة التي كانت قائمة بين الأُمم القوية والأمم الضعيفة في الحقبة السابقة على ظهور الرأسمالية العالمية، لوجدنا أنّ هذه العلاقة مشابهة لما هو قائم اليوم من علاقة بين الإمبراطورية الأمريكية وبين الأُمم الضعيفة في عالمنا الراهن وهذا يعني أنّها قد كانت، وما زالت، علاقات محكومة بالقوة أو بإرادة القوة بصورة أدق، الأمر الذي جعل منظومة القيم في الماضي والحاضر، على ارتباط وثيق بإرادة القوة أو بالميل إلى هيمنة القوي على الضعيف. وعلى ذلك فإنّ قيم العولمة التي تبدو من وجهة نظرنا قيماً سلبية ليست هي كذلك إلا لأنّنا نحن معاصرون لها ونعاني من آثارها السلبية التي تتركها علينا في الميادين كافة، وبالمثل فإنّ الشعوب التي تعرّضت بلادها للغزو وثقافتها للانتهاك قد كانت تحمل المشاعر نفسها، بصرف النظر عن الطابع الإيديولوجي الذي كان الفاتح أو الغازي يحاول أن يغلِّف به فتحه لتلك البلدان أو يسوّغ به هيمنته على تلك الشعوب. ومن المؤكد أنّ كلّ فتحٍ وغزوٍ وهيمنة لابدّ أن يستتبع مقاومة من نوع ما. وبالطبع فإنّ المقاومة ليست بالأمر المستحدث في تاريخ الإنسانية، ذلك أنّ جميع الشعوب التي عانت من الاحتلال والانتهاك قد قاومت المحتلّين والغزاة. وهذا يعني أنّ جميع الشعوب قد أنتجت لأنفسها (ثقافة مقاومة)، واستحدثت من ثمّ من القيم ما يُعلي من شأن المقاومة والتمرد والتحرر ووضعته في وجه الغازي لتواجه به ادّعاءاته الإيديولوجية المختلفة التي تحاول أن تجعل من الفتح والغزو حدثاً إنسانياً وطبيعياً يعود على أصحاب البلاد المفتوحة بالخير والنفع بأكثر مما يعود على الفاتح والغازي نفسه. عندما نتحدث عن القيم الكونية، فإنّ كل ما نقصده من وراء ذلك إنّما يتمثل في السعي إلى تأسيس المقاومة على أسس راسخة من الشرعية والأخلاقية. على أنّ المقاومة ههنا ينبغي أن لا يفهم منها أبداً أنها تشكل دعوةً إلى الخروج من هذا العالم أو إلى تجاهله أو إلى الانكفاء السلبي بعيداً عن المشاركة الفعلية في الحياة الواقعية للكون الذي نحيا فيه. ذلك لأنّ مطلباً من هذا النوع هو مطلب مستحيل ومتناقض، فضلاً عن أنّه غير ممكن، ذلك لأنّنا لو شئنا أن نفعل ذلك، لما تيسر لنا أن نحيا خارج العصر الذي وجدنا فيه، ولذلك فإنّ خير وسيلة لمقاومة العولمة، أو أيّ تَجَلٍّ من تجليات الحياة التي نرفضها ونتمرد عليها، إنّما يكون بالمشاركة الأكثر عمقاً وفاعلية في حياة العالم. وهذه المقاومة إنما تتم باستحداث أنماط من القيم تكون أكثر عدالة وأخلاقية وإنسانية ومحاولة فرضها – جزئياً أو كلياً – على العالم الذي نرفضه أو نتمرد عليه. وبغير ذلك لا يكون للمقاومة من معنى جدي، اللهم إلا إذا كان ينظر إلى المقاومة نظرة طفولية تنتهي بصاحبها إلى الاعتقاد بأنّ ثمة قوىً خفية ستضطلع بتحمل عبء فعل المقاومة بدلاً منا بصورة حتمية لا شك فيها. وفيما يتصل بجذور القيم التي تصب في النهاية في إطار العدوان وفي إطار اعتداء الإنسان على أخيه الإنسان وميل الإنسان إلى التوسع في كلّ مكان على حساب أخيه الإنسان، فإنّ الإنسان، من الناحية الانطولوجية، يتكون من بعدين أساسيين لعلّهما أن يفسرا لنا لماذا كان الأمر على هذا النحو ولم يكن على غيره. العنصر الأوّل عن عنصر (العقل) وهو عنصر معرفي مهمته التعرف على العالم من حوله وإدراكه إدراكاً صحيحاً، وتحصيل معرفة مطابقة بالطبيعة والإنسان والمجتمع، ومن ثمّ فقد كان العقل في معظم التطورات التاريخية في الحضارات السابقة يقوم بهذه الوظيفة المعرفية التي يمكن أن توصف بصورة أو بأخرى بأنّها (محايدة)، لقد استخدمت الحضارات السابقة (العقل) ومازالت تستخدمه حتى اليوم بكونه أداة يستطيع أن يتعمق العالم والطبيعة والإنسان، وتنتهي مهمته عند تقديم الحقيقة أو جملة الأنساق المعرفية التي تمكن من ترجمة الحقيقة إلى فاعلية أو عمل. أما العنصر الثاني في البنية الانطولوجية للإنسان، فهو (الإرادة). و(الإرادة) بطبيعتها مضادة للعقل ومعارضة له. ونشير هنا لـ(الإرادة) بجملة العناصر التي تشكل الجانب الغامض في الإنسان، الجانب الذي ينحلّ في النهاية إلى صور مختلفة من الميول العدوانية والتوسعية التي يحاول الإنسان أن يمارسها في العالم على حساب غيره من البشر. وبهذا المعنى فالإرادة هي مرادف القوة أو هي ذلك الميل لممارسة ضروب من القوة غير محددة وغير معلومة وتكاد تكون لا متناهية تكشف عن نفسها عبر الحضارات المختلفة وعبر التجليات المتنوعة للنشاط الإنساني. إنّها باختصار إرادة القوة وليست القوة المجردة وحدها. وممّا يؤسف له أنّ العقل قد كان دوماً خادماً للإرادة أو هو يعمل في خدمة الإرادة. إنّه يحقق المعرفة ويحقق الفتوح العلمية والمعرفية غير أنّ الإرادة بطبيعتها شبه العدوانية وبما تنطوي عليه من غرائز نحو السيطرة والتسلط وفرض القوة، هي التي كانت دوماً وما زالت في الغالب الأعم توجه العقل وتسيطر عليه فتحوله إلى مجرد أداة، بينما تصوغ الإرادة نفسها في قيم وفي صور إيديولوجية مختلفة فتسوّغ العدوان وتغطيه – إن جاز التعبير – بصورٍ لا متناهية من الإيديولوجيات والإيديولوجيا بطبيعتها ليست أكثر من وعي زائف يحاول أن يخفي المقاصد الحقيقية التي يسعى إليها واضع الإيديولوجيا أو المنتفع والمستفيد من هذه الإيديولوجيا. ومن هنا فإنّ سيطرة (الإرادة) وغياب (الحرِّية) الحقيقية التي لا يكون العقل عقلاً حقاً إلا بها، وشرطهُ الاتحاد بين العقل والحرية، فنكون ههنا بإزاء المَلَكَة العقلية وهي تمارس فعلها ووظيفتها ودورها، ومن هنا فسيطرة الإرادة على العقل هي التي أوجدت كل ضروب العدوان وكل ضروب السيطرة والسلطان الذي يفرضه الإنسان على أخيه الإنسان. وما القيم العولمية اليوم التي هي في مجملها قيم سلبية إلا حصاد ونتاج طبيعي لهذه النزعة العدوانية المسطيرة على الحياة الإنسانية والتي تضع المصلحة فوق كل شيء وتنزل القوة المنزلة الأولى بين جميع القيم الإنسانية وتُعلي من شأن السيطرة التي يفرضها الإنسان على أخيه الإنسان. وهذه العلاقة المشوّهة بين العقل والإرادة هي ما أدّت إلى ولادة ما عُرف اليوم تارة باسم صدام الحضارات وأخرى بصراع الحضارات إلى غير ذلك من المسميات التي إنما تكشف في الحقيقة عن سلطان الإرادة الموجّه للعقل، وبدلاً من أن يحرّر العقل نفسه ويتحد بالحرية فننتقل بذلك إلى صورة جديدة من صور الوجود الإنساني. ذلكم هو السبب العميق – فيما نرى – من الناحية الفلسفية والأنطولوجية لهذا العنصر الذي يبتدى في حياة الإنسان بكونه عنصر العدوان والسلطان والسيطرة الذي يفرضه الإنسان على أخيه الإنسان. ويبدو أنّه ليس ثمة سبيل للانتقال من هذا الواقع الذي صاغته إرادة القوة بمفردها إلى واقع جديد يكون ثمرة للمقاومة الحقيقية التي لن يتأتى لها أن تكون مقاومة إنسانية إلا إذا تحقق الاتحاد بين العقل والحرية اتحاداً صميمياً. وهذا الأمر مشروط بالانخراط في تأملات فلسفية تسمح لنا بأن نقدِّم اقتراحات مختلفة ربّما نتمكن بفضلها من إنتاج مجموعة من القيم الإنسانية التي نهاجم العولمة بها بأن نحاول دمج هذه المجموعة من القيم في كيان العولمة ذاتها. ويبدو أنّ التفكير في إنتاج قيم كونيّة يستلزم أوّلاً وقبل كل شيء التمييز بين (الكونية) و(العولمة). ذلك لأنّ (الكونية) تشير عندنا إلى شيء مختلف عن العولمة، فالعولمة فعل مقصود ينتجه التحكم الاقتصادي والاستئثار بالقرار السياسي، في حين أنّ الكونية تشير إلى نزعة إنسانية يشترك الجميع في إنتاجها، ويتحاور الجميع بشأنها، ومن ثمّ تكون القيم التي نطلق عليها اسم (الكونية) ثمرة للحوار الحر بين بشر متساوين. وربّما توصف (الكونية) التي ندافع عنها ههنا بأنها مجرد نزعة طوباوية. لقد أفلح الأدباء والشعراء والفنانون في أن ينتجوا هذه النزعة وكانت دوماً ذات دور فعّال في معارضة الوقائع وفي التصدي لكل مظاهر العدوان في الحياة الاجتماعية والفردية للبشر، إذن لتكن نزعةً طوباوية أنّها مع ذلك ذات وظيفة تستطيع أن تلعب دوراً ما في مناهضة الصورة المتوحشة للعولمة بما قد تنتجه من قيم إيجابية قادرة على التصدي لأكثر الجوانب سلبية في البنية العولمية الراهنة. ويبدو أنّه لن يتحقق لنا شيء من ذلك إلا إذا شرعنا في جهد صادق يستهدف أن نعيد للعقل كرامته بأن نحرره من سلطان الإرادة الغاشمة، ولا تتحقّق الكرامة للعقل إلا إذا نجح في استعادة استقلاله، وهو ما لن يتحقّق إلا إذا هبطنا – إرادياً – المنحدر الذي صعدناه بصورة لا إرادية، لنعود إلى الينابيع الحقيقية للعقل والعقلانية. ذلك أنّنا ما لم نحرر العقل من سلطان الإرادة ومن سلطان الغرائز – سلطان غرائز القوة والعدوان – فإنّ العقل سيظل خادماً لهذه الغرائز، وهذا يستلزم منّا أن نحرّر العقل ونعيد له حريته وهيمنته وسلطانه على نفسه وعلى العالم من أجل أن نصوغ مجموعة من القيم التي يمكن لجميع البشر العقلاء أن يتفقوا حولها وعليها. إنّ تمتع العقل بكرامته وحريته من جديد، والعودة إلى الينابيع النقية لهذه العقلانية من شأنه أن يجعل فكرة الحوار ممكنة. وما لم يتحقق هذا التحرر للعقل وفكه عن سلطان الإرادة، وجعله سيّداً لنفسه بدلاً من أن يكون خادماً لسلطان الإرادة، فإننا سنكون في هذه الحالة كمن يسير في اتجاه العولمة بل نؤكد هذا الاتجاه. إنّ تحرير العقل واستعادته الثقة بنفسه والإيمان بأنّ قيمه إنّما هي قيم إنسانية، كونية وشاملة هو السبيل الأوحد لأن نشتق من حرية العقل هذه أو من هذا الاتحاد بين العقل والحرية مقدرةً جديدة على الحوار تسمح لنا بأن نعيد للقيم الإنسانية وللمذهب الإنساني بصفة عامة وللرؤية الإنسانية إلى العالم مكانتها المناسبة في حياتنا المعاصرة. ذلك أنّ النزعة الإنسانية نزعة ماثلة في كل الثقافات بحيث لا يمكن قصرها على الثقافة الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فالثقافات الشرقية القديمة من هندية وصينية ومصرية وفارسية وعربية إسلامية فيما بعد، فضلاً عن الثقافة اليونانية القديمة، قد انطوت كلّها على نزعات إنسانية. ومن الممكن للعقل الإنسانيّ المتحرّر أن يكون هو القاسم المشترك بين هذه النزعات الإنسانية، ومن ثمّ بوسعنا استناداً إلى هذا العقل المتحرر نفسه أن ننشئ منظومة من القيم التي يكون من شأنها مساعدتنا في إنشاء مشروع حضاري حواري يستند إلى الطبيعة الإنسانية الحقيقيّة بعد أن تكون هذه الطبيعة قد عادت إلى ذاتها من اغترابها. ذلك لأنّ الثقة بالإنسان هي حجر الزواية في هذا المشروع. وفي اللحظة التي نفقد فيها ثقتنا في الإنسان، فإننا نكون في الحقيقة نسير في الاتجاه المؤدي إلى عكس الهدف الذي رسمناه لأنفسنا بوصفه طموحاً كونيّاً يحدُّ من سلطان العولمة ومن شأن الضغوط التي تثقل كاهل الإنسان بها، ويرتقي بالإنسان في الوقت نفسه إلى مستوى الكائن العاقل والحر الذي يستطيع أن يضع قيمه التي سيسترشد بها في إنتاجه للعالم الأفضل الذي يمكن له أن يحيا فيه. · باحث ومفكرسوري المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 485 لسنة 2004ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق