• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حقوق المرأة في الإسلام.. بين النص والممارسة

د. دلال عباس

حقوق المرأة في الإسلام.. بين النص والممارسة

- البدء من النصّ الثابت المقدس:
أرى أنّ الكلام على حقوق المرأة في الإسلام، كالكلام على حقوق الإنسان، أو أي موضوع كلاميٍّ آخر، يجب أن يبدأ من النص المقدس أولاً (القرآن والسنة الصحيحة)، والتعرّف من ثم إلى المسيرة التي قطعها فهم هذا النص المقدس على مدى العصور، وربطـُ هذا الفهم بالظروف التاريخية والجغرافية والثقافية والاجتماعية التي صدر عنها، للتمييز بين النص الثابت المقدس، وبين فهمه المتحول والمتغير، هذا النص المقدس يظل نقياً خالصاً من الشوائب، أما فهم هذا النص، أي المعرفة الدينية المتمثلة بالفقه وعلم الكلام والفلسفة، فبشرية ٌ يسري عليها ما يسري على غيرها من معارف البشر وعلومهم، وتدخلُ فيها أمورٌ غيرُ معرفية وذاتية تؤثر فيها وتؤدي إلى محدوديتها. وهي، كأي معرفة بشرية أخرى، مرآة تطور وجود الإنسان ونموّه، لا تؤثر فيها قوى الإنسان العاقلة وحدها وإنما تؤثر فيها كذلك الشهوة والغضب والميول والغرائز والأفكار المسبقة والأهواء والتجارب، وخصالُ الإنسان الشريفة وصفاته الوضيعة. فعلى سبيل المثال، كثر وضّاعوا الحديث لغايات متعددة فشوهوا بذلك المعرفة الدينية، بحيث أنّ أي محدّث أو فقيه يراجع الكتب الدينية يواجهه خليطـٌ مضطربٌ من الأفكار، والوسائل التي يمتلكها لتنقيتها بشرية ٌ، وقدراته (بوصفه بشرياً غير معصوم) محدودة، ولا يستطيع أن يصل إلى القول الفصل في تمييز الحسن من الرديء، والصحيح من السقم، إلا بعرضه على النص الثابت المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إنّ فقه فلان وعلم كلام فلان هو إدراكه للدين، وهذا الإدراك للدين ليس ثابتاً كالدين نفسه، كما هو الأمر بالنسبة إلى علم الفيزياء تماماً، فالطبيعة التي خلقها الله ثابتة، أما العلوم الطبيعية والفيزياء والرياضيات فهي من صنع الإنسان واكتشافه وعليها صبغة الإنسان ولون المجتمع الإنساني والروح الإنسانية، ولها هويّة ُ متحركة ٌ ومتغيرة ٌ ومتجددة ٌ باستمرار.
أنّ القول عن كلام فلان، من المفسرين أو من الفقهاء: إنّه غير صحيح وغير مترابط، معناه أنّنا نقارن في الواقع فهمه للإسلام بفهم آخر للإسلام، فما رآه مرتضى مطهّري، مثلاً، في ما يتعلـّق بالمرأة وحقوقها بوصفها إنساناً، وقدّم الأدلة عليه من النص الثابت نفسه، ينافي جملة وتفصيلاً فهم هادي السبزواري له(1).. لقد اهتم  مطهري بقضية المرأة في الإسلام، وكان بحثه، في هذا السياق، من المباحث الكلامية الجديدة، لأنّ موضوع المرأة لم يُطرح على الإطلاق في الكتابات الفقهية بوصفه موضوعاً مستقلاً بعنوان «المرأة» أو «حقوق المرأة» أو «منزلة المرأة في المجتمع».
لقد كان من الطبيعي أن يدخل الذين بحثوا حقوق المرأة في الإسلام، من المعاصرين، إلى رحاب الشريعة من معابر جديدة، غير تلك التي سلكها القدماء، وهذا يستوجب البحث والتنقيب، ويتطلب وسائل جديدة ومنظاراً جديداً للتوصل، بعد البحث والتنقيب، إلى نتائج جديدة.
وهذا الموضوع ليس مستقلاً عن مسائل الشريعة الأخرى أو غريباً عنها، فهو مرتبطـٌ بموضوعات كثيرة، أولها كيفية خلق الإنسان «كما وردت في النص المقدس»، وليس كما وردت في التفاسير التي استعارت قصة الخلق من التوراة المحرفة، ومرتبط بالعلوم الطبيعية، وعلم التشريح والأمراض والأعصاب لردّ الكلام غير العلمي الذي كان مناسباً للمرحلة السابقة على تقدم العلوم الطبيّة؛ ومرتبط بالعلوم الإنسانية، كعلم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم اللغة وعلم التربية، ومرتبطـٌ أيضاً بنظرة الإسلام إلى الإنسان «بالمطلق»، واعترافه بحقوقه الطبيعية.
لذلك من الواجب، للعثور على حلول للمشكلات، الحفر بعمق وجدية في حقل الشريعة وفي حقول المعارف البشرية جميعها. وقضية المرأة من القضايا والتحديات العديدة التي يواجهها علم الكلام الإسلامي الجديد، ومنها التطور والتكامل والحرية وأساليب الحكم والسياسة والتقانة والعولمة، و...
من هذا المنطلق يجب أن يكون الكلام الجديد متناسباً مع العلوم الأخرى التي ولد معها، لا يكفي أن تقدم صورة جديدة للدين، وتوضع مع الصورة القديمة في الإطار نفسه، وإنما يجب رسم لوحة جديدة تأخذ في الاعتبار حقوق الإنسان، كما أوردتها الشريعة وفهماً لهذه الحقوق مستنداً إلى العلوم الجديدة التي تخدم هذا الفهم.
- جذور القضية
- أسباب المشكلات التي عانت منها المرأة المسلمة:
بالعودة إلى جذر القضية المطروحة، ومن منطلق أنّ الإسلام جاء ثورة شاملة، غطـّت كل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ولم يفضل إنساناً على آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، وساوى بين الرجال والنساء إنسانياً، لنا أن نتساءل عن أسباب المشاكل المنسوبة إلى الإسلام التي عانت منها المرأة المسلمة ولا تزال تعاني حتى اليوم.
للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نصحّح خطأين منهجيين:
أولهما: عدم التمييز بين الدين الكامل، السماوي، المقدس، وبين المعرفة الدينية، والتي هي ـ من الرأس وحتى أخمص القدمين ـ أرضية ٌ وإنسانية ٌ وقاصرة ٌ، لأنّها بشرية وتحتاج إلى تعديل أو تكميل.
وثانيهما: هو فصل الدين عن تاريخيته، وتعميم الكلام على الحقوق التي أعطاها الإسلام للمرأة، علماً أنّ المرأة المسلمة لم تنعم عملياً بهذه الحقوق مجتمعة إلا في عهد النبي والخلفاء الراشدين، فقد كانت تجربة المدينة تمثل أنموذج العمل التاريخي، الذي كان يجب أن يُحتذى في ما بعد، وكانت تجربة فريدة في كل ما يتعلق بحقوق الإنسان، ثم تغيّرت النظرة كما تغيرت الممارسة كلياً بعد الانقلاب الأموي، وفي أثناء الفتوحات، ومن الواجب أن نعرف أنّ الإسلام الذي دخل إلى البلدان المفتوحة، لم يكن هو الإسلام النقي الذي طـُبّق في الحجاز، فقد داخلته عوامل كثيرة، ترتبط بكيفية الفتح، وبكيفية تعامل الفاتحين مع سكان البلاد المفتوحة، إضافة إلى المعوّق اللغوي بين هؤلاء وبين فهم الدين، لذلك نجد أن هذه الشعوب قد حافظت على كثير من العادات السابقة على الإسلام، من دون أن يجرؤ الفقهاء، في ذلك الحين، على تحريمها، تحرجاً، وظلت بعض هذه العادات سائدة حتى الآن، ولم تتجرأ المؤسسة الفقهية الحديثة على تحريمها، ونضرب مثلاً على ذلك «موقف الأزهر من عادة ختان الفتيات»، هذه العادة غير الإسلامية التي أصبحت اليوم من القضايا الإشكالية التي تطرحها منظمات حقوق الإنسان العالمية، بعد أن أثبت الطب الحديث ضررها الصحي والنفسي.
هذا بالإضافة إلى أنّ الدول التي حكمت باسم الإسلام، منذ بداية الانقلاب الأموي، وحتى سقوط آخر الخلفاء العثمانيين (مع بقاء نماذج مشوهة عنها في كثير من البلدان الإسلامية)، وانحرفت هم جوهر ما فرضه الإسلام من مساواة بين البشر على المستوى الإنساني، وانحرفت عن العدالة، عندما فضّلت بعض الناس على بعضهم الآخر على أسس ليس من بينها التقوى والعمل الصالح، و«أدلجت» الدين كما «أدلجت المذهب»(2). لخلع المشروعية على حكمها، أكثر مما لجأت إلى حماية الدين والسّهر على تطبيقه، كما ينصّ على ذلك «قـَسَم البيعة»، وإن كان الفقهاء العدول، من غير المرتبطين بالسلطة، قد اهتموا بشأن تطبيق الشريعة، فإنهم لم يجدوا دائماً الحكومة الإسلامية العادلة التي تكفل هذا التطبيق.
كما أنّ سوء استغلال الحكـّام والمجتمع لعبارة (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (النساء/ 36) ـ التي وردت في القرآن تعبيراً عن واقع معيّن ـ من دون الأخذ في الاعتبار أن الإسلام كان يهدف إلى إلغاء الرق نهائياً وبالتدرج...، وذلك بحثـّه على عتق الأرقـّاء، زاد من سوء الأوضاع التي عانت منها النساء: الحرائرُ والجواري على حد سواء، وبدلاً من أن ينتهي الرق نهائياً كما كان يهدف الدين الحنيف، جرت الأمور على نحو معاكس كلياً، وكان من الطبيعي أن يتدنى وضع المرأة في ظلّ نظام الحريم الذي تزايد باطراد في الدولتين الأمويتين في الشام وفي الأندلس وفي الدولة العباسية وما بعدها... حيث حكمت الناس والمجتمع قوانين غير مكتوبة تنظـّم حياة الناس رجالاً ونساءً، وكانت هذه القوانين تعمل لمصلحة الطبقة المسيطرة التي كان من الصعب أن تتخلى عن امتيازاتها، وقد تبارى الخلفاء (الملوك) وسراة القوم، وقلـّدهم العامة في أحيان كثيرة، في شراء الجواري واقتنائهن، إذ كان وجودهن في القصور تتمة لحياة البذخ والتـرف التي كان يحياها الأسياد، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، أنّ المعتمد بن عبـّاد كان يمتلك حين خـُلِع عن العرش ثمانمئة امرأة(3)، وأنّ المغول وجدوا في بلاط المستعصم آخر الخلفاء العباسيين سبعمئة امرأة(4)، ناهيك عن أعداد النساء في بلاطات العثمانيين وأعدائهم الصفويين(5).
إنّ مراجعة كتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصبهاني، أو كتاب «طوق الحمامة في الألفة والآلاف» لابن حزم الأندلسي، أو «رسالة القيان» للجاحظ، ترينا كيف تزايدت الإباحيّة والفجور بالتدرج في العصرين الأموي والعباسي وفي الأندلس، عدا أزمنة محدودة طبعاً. ولم يعد أحد يتحرج من الحديث عن العشق والجنس... لقد بلغت الإباحية أقصاها، فغدت فجوراً وانحلالاً... وسجل الفقهاء والعلماء والرجال العاديون أخبار علاقاتهم الجنسية، وحكايا جواريهم بوضوح وحرية، تفوق ما يبثـّه الإعلام الهابط اليوم من الفجور.
ولقد استمرت الحال في عصر المماليك والعثمانيين على هذا المنوال لدى الطبقات المسيطرة عدا أفراد قليلين منهم، وتفشّى الجهل بين الرجال والنساء، فأضيفت مصيبة ٌ جديدة ٌ إلى سابقاتها وانشغل العامة بالمستحبّات الدينية، وجهلوا الواجبات، هذا بالإضافة إلى الإيمان بالسحر والشعوذة والتنجيم والخرافات، والتعلـّق بأذيال المتصوفة الطرائقيين(6)، وتقديسهم على الرغم من انحرافهم عن الدين، وكثرت البدع والمذاهب الباطلة وجميعها لها اتباع بين العامة، وزاد نفوذ الفقهاء القشريين الذين تمسكوا بمجموعة من الأفكار الجامدة، فراحوا يفسّرون العدالة تفسيراً معوجاً بقيت آثاره حتى يومنا هذا.
وإنّ أغلب ما يعتقد أنّه سلفيّة دينية هو في الحقيقة سلفية اجتماعية تلونت بالصبغة الدينية، وانتقت من التراث الديني ما يتوافق معها. ولعلّ استجابة المرأة العادية في المجتمعات العربية لأشكال التحجيم والتهميش جميعها، هي نتيجة ٌ لما ترسّخ في وعيها منذ مئات السنين، يوم كانت «جارية» في «دار الحريم» أو حرة يخاف عليها ذووها من الانحراف، أو السًّبي (على يد الصليبيين أو المغول والفرنجة في الأندلس أو المسلمين المتحاربين في ما بينهم في جميع البلاد الإسلامية من دون استثناء).
إنّ التحديات التي تواجه الفقهاء اليوم، والتي تتمثل في العادات والتقاليد تتمتع بسلطة أقوى من سلطة الدين، كما أنّ رجال الدين التقليديين والإخباريين أكثر تأثيراً في عامة الناس من النخبة القادرة على الاجتهاد، العالمة بحق.
لقد حَرَمت التربية التقليدية الفتاة من الوعي الاجتماعي بطبيعة الدور الإنساني والوطني الذي يمكنها القيام به، وكأن هنالك قوى خفية تريد لهذه المجتمعات أن تظلّ متخلّفة، فلا قيمة لأمة أمهات الرجال فيها متخلفات ناقصات العقول والحظوظ (فالعقول تضمر وتنقص ما لم تتغذ بالعلم والثقافة باستمرار، وهذا الأمر ينطبق على الرجال وعلى النساء).
- أسس جديدة للفقه الإسلامي:
إنّ الحاجة ماسّة إلى وضع أسس جديدة للفقه الإسلامي، ومنها الفقه الخاص بالمرأة، يأخذ في الاعتبار معنى الحدود في التشريع والظروف المستجدة بحسب الزمان والمكان من دون الوقوف على ظاهر النص أو حرفيته (ما من ضرورة اليوم بعد إلغاء الرق في العالم أن يجري الكلام على ملك اليمين)، لإقامة التوازن بين المعنى والمبنى وتطبيقاً لمفهوم العدل في الإسلام.
المشكلة أساساً مشكلة أخلاقية، أي مشكلة تربوية، تتعلق بطبيعة التربية الدينية التي تركز على التقوى الفردية، أي علاقة الفرد بخالقه، من دون الأخذ في الاعتبار التقوى الاجتماعية، أو الحدّ الأدنى من الأخلاق العامة الملزمة للناس جميعهم، بيضاً كانوا أم سوداً، عرباً أم عجماً، رجالاً أم نساءً.
- مساواة الأفراد في الحقوق والواجبات:
إنّ مساواة الأفراد في الحقوق والواجبات، أمرٌ تقتضيه الفطرة في الوظائف والحقوق الاجتماعية، كل بحسب طبيعته وتركيبه الفيزيولوجي والعقلي والنفسي، فالعدل الاجتماعي يعني أن يُعطى كل ذي حق حقه.
وأول حق أعطاه الإسلام للمرأة بشكل مباشر هو حق العمل السياسي، وقد بدأ الإسلام تحرير المرأة بإعطائها هذا الحق، وقد كانت المرأة المسلمة مع الرجل على حدِّ سواء، شاركت بمالها (خديجة)، وكافحت عقدياً سميّة أول شهداء الإسلام، واشتركت النساء في الهجرة إلى الحبشة ويثرب، وحضرن بيعة العقبة الأولى.
وإذا كانت المرأة لم تحكم فإنّ ذلك كان ضمن سياق تاريخي معين، لا ضمن تشريع إسلامي، وجميع الأحاديث التي يتذرع بها المعاندون مرتبطة بواقع تاريخي معين، أو أنها أحاديث موضوعة في زمن الانحراف التاريخي، أو الانهيارات السياسية وتفشي الأمية الذي استمر ألف عام.
لقد ضرب الله قصة مريم (عليها السلام) وقصة امرأة فرعون مثلاً للمؤمنين والمؤمنات، وجعلهما قدوة وأنموذجاً أمثل للرجال وللنساء، ويحدثنا التاريخ الإسلامي الأول عن نماذج لا تقل قيمة وفاعلية عن الرجال إنْ لم تتفوق على معظمهم.
يكفي ذكر السيدة خديجة والزهراء (عليهما السلام) ومواقفها السياسية البارزة ، و«أم سلمة» ودورها في حل المعضلة السياسية التي رافقت غزوة الحديبية، وموقفها من معركة الجمل، وموقف «زينب» (عليها السلام) وخطبتها في محضر يزيد، وموقف خولة بنت الأزور، ولا ننسى أنّ ثلث السُنـّة النبوية المصدر الثاني في التشريع عند معظم المذاهب الإسلامية منقول عن عائشة (رض)، وفي العصر الحديث فالنماذج كثيرة في فلسطين والعراق ولبنان وإيران ومصر و...؟
كما أنّ الله عزّ وجل ذكر في القرآن، في سورة النمل، حالة امرأة حاكمة هي بلقيس عاملها سليمان (عليه السلام) معاملة الندّ للند... وكان رأيها عاقلا ً متزناً، استشارت قومها، واتخذت قراراً يدل على شخصية عاقلة، تحسب للأمور حساباتها الدقيقة قبل أن تتخذ أي قرار، وهذا مثلٌ يبيّن أنّ المرأة الحكيمة يمكن أن تكون من ضمن النخبة التي تقرّر مصير المجتمع. وقد أثبتت حركة التاريخ في العصور المتأخرة، وجود نماذج أثبتن فاعليتهن السياسية والعلمية والثقافية والإدارية والاجتماعية حين توافرت لهنّ ظروف التوازن والإبداع.
- العلاقة الزوجية:
أمّا بالنسبة إلى العلاقة الزوجية فقد حدّد القرآن أنها يجب أن تكون مبنية على المودة والرحمة، ولذلك فإن كل زواج يخلو من المودة والرحمة ويُبنى على مطامع مادية أو معنوية ليس زواجاً إسلامياً (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)(7). (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(8) (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)(9)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(10).
إنّ المجتمع القرآني هو مجتمع الجنسين، يقوم كلٌ من المرأة والرجل بواجباته الخاصة، وهذا النظام يؤمن سلامة المجتمع ورفاهه، وهو في صالح أعضاء المجتمع جميعهم، وفي مجال تقسيم العمل، فإنّ المسؤولية الاقتصادية ملقاة على عاتق الرجل أكثر من المرأة. أما عن دور المرأة فقد قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ)(11).
لقد حمل القرآن مسؤولية إدارة هذه المؤسسة التي هي الأسرة للرجل وحمّل مسؤولية الإنفاق شريطة أن يكون عاقلا ً تقياً، لأنّ الله عزّوجل فضل الناس على بعضهم بالتقوى والتعقل:
(الرِّجَالُ)(12).
إنّ شرط قيمومة الرجل التقوى والتعقل والإنفاق، ولا تبطل ما للمرأة من الاستقلال في الإرادة الفردية بأن تري ما أحبّت وتفعل ما شاءت من غير أن يحق للرجل أن يعارضها في شيء من ذلك في غير المنكر(13). إضافة إلى أنّ كلمة «قوام» لا تعني التسلط الاستبدادي، بل تعني نهوض فرد لحماية فرد آخر ومساعدته: إنّ وضع مسؤولية الإنفاق بيد الزوج فيها صلاح العائلة، ومصلحة الأولاد تقتضي أن تتفرغ الأم لأبنائها الصغار أو الرضع، لتخفف عن الزوج الأعباء المالية، فيقع عليها ظلم مضاعف وتُستغل مرتين في البيت وخارجه، وتتشتت العائلة.
لكن سوء تطبيق مفهوم القوامة بشكل تعسّفي، هو سوء استغلال للسلطة أو للموقع، كما هو واقع الحال في جميع مجالات الحياة. قديماً وحديثاً... والأمر كله مرتبط بالتقوى التي هي وحدها ميزات التفاضل بين الناس.
إنّ موضوع الزواج يستدعي كلاماً على موضوع الطلاق، الذي صار بدوره وسيلة من وسائل التعسف والإجحاف اللاحقين بالمرأة وسلسلة المشاكل التي يخلقها الزوج الذي بيده الحل والربط، والضغوط المادية والمعنوية التي يمارسها الرجل ومحيطه والمجتمع ككل على المرأة المطلقة. وقد قال تعالى: (فإنْ)(14)، وقال: (الطَّلاقُ)(15)، (يَا أََيُّها)(16).
(وإنْ)(17).
أما السائد المخالف للدين صراحة، على الرغم من أنّ آيات الأحكام هذه محكمة ٌ وليست من المتشابه ولا تحتمل التأويل، فالذنب فيه يقع على عاتق من بيدهم الحل والربط طالما أنّ المجتمع ليس مجتمع أتقياء:
ـ الطلاق الشفوي عند بعض المذاهب الإسلامية الذي يُعدُ من اللغو ولا أساس له في النص القرآني.
ـ الطلاق الغيابي الذي يعترف به بعض الفقهاء على الرغم من مخالفته للنص.
ـ مفهوم بيت الطاعة، والنفقة الهزيلة، مفهوم التعدّدية العشوائي، والطلاق التعسفي.
ـ اضطهاد المرأة إلى درجة تصبح فيها مستعدة للتنازل عن المهر وعن أكثر منه.
لا بد أن نشير هنا إلى موضوع تعدد الزوجات وتطبيقه المخالف للنص جملة ً وتفصيلا ً على الرغم من وضوح النص لمن يعرف العربية ويعرف دور إلغاء الرابطة لجواب الشرط في قوله تعالى: «فإن خفتم)(18).النساء : 3.
وقد جاءت هذه الآية معطوفة على التي قبلها في قوله «وإن» والتي قبلها وردت بحق اليتامى في قوله تعالى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً)(19).
أتساءل: كيف فـُهم من هذه الآية السماح بالتعدد، من دون قيد أو شرط، وأمثلة التعدد المعروفة في مجتمعاتنا لا توحي بالثقة، ومن يستطع أن يقدم مثلاً على التعدد (لدى غير المعصومين) الذي استطاع من قام به أن يعدل في الحدود الدنيا بين نسائه وبين أولاده من أمهات مختلفات، فليدل بدلوه ويذكره لنا! علماً أنّ هنالك شواهد لا تحصى عن رجال أو فقهاء عدول من الناحية الفقهية ولكن التمييز كان بيناً بين أولادهم بحسب مكانة الأم لدى الزوج فكيف بغير العدول؟
الإسلام دين العدل، كما أمر الله عزّوجل في آيات لا تعد ولا تحصى.
(وَلَنْ تَسْتَطيعُوا)(20).
الكلام عربيٌ واضحٌ لا مجاز فيه ولا يحتمل التأويل! أما الذين تزوجوا أربع نساء أسوة بالنبي فكأنهم لم يقرأوا قوله عزّوجل: (مَا كَانَ)(21).
وقوله: (يَا نِسَاءَ)(22).
- الإرث:
إنّ قانون الإرث في الإسلام نسخ القوانين التي كانت سائدة في المجتمعات المختلفة قبله، وقد كان السائد في معظم الأمم أنّ النساء كنّ يُحرمن من الإرث وكذلك صغار الأبناء، وكانت الحصة الأساسية في الإرث عند العرب قبل الإسلام هي لأرشد الأبناء ومن يستطيع منهم أن يدافع عن الحرمات، ما فعله الإسلام أنه بنى الإرث على الرحم التي هي من الفطرة والخلقة الثابتة، وألغى إرث الأدعياء، ثم أخرج الوصية من تحت عنوان الإرث وأفرد لها عنواناً مستقلاً. والأحكام القرآنية تؤكد على ضرورة التلاحم بين أعضاء الأسرة الواسعة وتحث على تقويتها:
(لِلرِّجَالِ)(23).
وقال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي)(24).
إنّ آيات الإرث آيات حدودية حيث أعطى الله للأنثى نصف حصة الذكر حدّاً أدنى، وهذا الحد الأدنى في حالة عدم مشاركة المرأة في المسؤولية المالية للأسرة، أما في حالة المشاركة وعلى افتراض أنّ ابنه الموِّرث أرملة تربي أيتاماً، فأقرب للتقوى، وتطبيقاً لفريضة العدل، يمكن للأب التقي العادل، أو الفقيه التقي العادل، أن يساوي بينها وبين أخيها، لا يجوز له تعدّي الحدود الدنيا أو العليا، ولكن بإمكانه التحرك ضمن الحديّن الأدنى والأعلى بحسب نسبة المشاركة وما تفرضه الظروف الموضوعية.
- لباس المرأة والرجل وسلوكهما الاجتماعي:
جاء الكلام على لباس المرأة في آيتين حدوديتين في سورة النور والتي تبدأ بقوله تعالى: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا)(25).
يقول الله عزّوجل بالنسبة إلى الرجل: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ)(26).
أي أنّ المؤمنين والمؤمنات المهذبين يغضّون من أبصارهم ويحفظون فروجهم وذلك من الفرائض، والفريضة الثالثة المتعلقة بالمرأة دون الرجل هي أن لا تبدي من زينتها ما خفي منها، وهنا يقع وجه الخلاف بين الفقهاء حول الزينة الظاهرة والزينة المخفية، وهل الزينة الظاهرة ما ظهر من زينة المرأة بالخلق، والزينة المخفية الجيوب المستورة (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (النور: 31)، أم غير ذلك؟
- المرأة المسلمة والقضاء:
اختلف الفقهاء المسلمون ولا يزالون حول مسألة شرعية إسهام المرأة المسلمة في الحقل العام عبر شغلها بعض المناصب التي تعدّ حسّاسة كالوزارة أو الرئاسة أو القضاء.
الذين يرون عدم أهلية المرأة لهذه المواقع وبخاصة القضاء، يستندون إلى أهلية المرأة للشهادة التي جاءت في سياق قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)(28).
وواضح هنا أنّ الموضوع متعلق بالصدقات والتجارة والرهن. أي أنّ هذا الأمر مرتبط بالحق المالي.
كما أنّ المعارضين يستندون إلى الأعراف التي ترى المرأة مخلوقاً فاقد الأهلية، والتي دلت الوقائع على تهافتها... وهم يجعلون الذكورة شرطاً من جملة شروط هي الذكورة والعقل والبلوغ والإسلام، وأن يكون سميعاً بصيراً ناطقاً عالماً بالأحكام الشرعية، وهذه الشروط متفق عليها جميعاً ما عدا شروط الذكورة الذي اختلف فيه الأحناف مع الآخرين ولم يوجبوا أن يكون القاضي ذكراً(29)، في قضايا الأموال أو ما يُسمى اليوم بالقضاء المدني، واتفقوا مع الآخرين في ما إذا كان القضاء جنائياً.
وقد احتج الجمهور في ما ذهبوا إليه بقوله تعالى: (الرِّجَالُ) وقالو: إنّ ولاية القضاء تحتاج إلى رأي سديد ناضج والمرأة قد يفوتها شيء من الوقائع بسبب نسيانها فيكون حكمها جوراً، وهي لا تصلح للولاية العامة لقول النبي: (لن يفلح قومٌ ولـّوا أمرهم امرأة).
فأما حملهم الآية القرآنية: (الرِّجَالُ) على منع المرأة من تولي منصب القضاء، أو غيره من مناصب الولاية العامة، فهو في غير موضعه مطلقاً، لأنّ الآية تتحدث عن علاقة الرجل بالمرأة في المؤسسة الزوجية، كما ذكرنا سابقاً، أما احتجاجهم بحديث الرسول ففي غير محله أيضاً، لأنّ الحديث جاء على سبيل البشارة للمسلمين بأنّ دولة فارس ستزول، وليس فيه دليل على عدم جواز تولي المرأة القضاء أو المناصب العامة. أما القول إنّ القضاء ولاية تحتاج إلى رأي سديد ناضج يصعب أن يصدر عن المرأة، فمن قال لهم ذلك؟ ومن قال إنّ القضاة الذكور غير معرّضين للنسيان، وأنّهم يعتمدون على الذاكرة في حفظ الوقائع واسترجاعها قبل الحكم؟
ذلك كله يجعلنا نعيد القول الذي بدأنا به حديثنا، وهو أنّ الحاجة ماسة ٌ إلى وضع أسس جديدة للفقه الإسلامي، ومنه الفقه الخاص بالمرأة يأخذ في الاعتبار معنى الحدود في التشريع، والظروف الموضوعية المستجدة، تطبيقاً لمفهوم العدل في الإسلام تطبيقاً لقوله عزّ وجل: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

الهوامش:
(1) انظر: الأسفار الأربعة، ج7، الفصل 13 : 136، دار إحياء التراث العربي.
(2) أنموذج عن التمذهب والبعد عن الدين الأصيل في تطبيق الدولة العثمانية للمذهب السني والصفوية للمذهب الشيعي على حساب الدِّين. راجع: دلال عباس. بهاء الدين العاملي، فصل: الصراع بين الدولتين العثمانية والصفوية، دار الحوار، 1995م.
(3) البيان المغرب لابن عذاري المزركشي، ت ليقي بروفنسال. بيروت: دار الثقافة، 1967م، ج 2 : 232.
(4) الصياد، المغول في التاريخ، دار النهضة العربية، 1983م : 254.
(5) دلال عباس، «بهاء الدين العاملي»، مرجع سابق : 10 – 75.
(6) بهاء الدين العاملي، «التدين والنفاق بلسان القط والفار»، ترجمة وتحقيق دلال عباس، دار رياض الريس، بيروت، 1995م.
(7) البقرة : 187.
(8) الروم : 20.
(9) الأعراف : 189.
(10) النساء : 1.
(11) البقرة : 233.
(12) النساء : 34.
(13) الطباطبائي، الميزان، ج4 : 343.
(14) البقرة : 233.
(15) البقرة : 255.
(16) النساء : 19.
(17) النساء : 22.
(18) النساء : 3.
(19) النساء : 2.
(20) النساء : 130،129.
(21) الأحزاب : 38.
(22) الأحزاب : 32.
(23) النساء : 7.
(24) النساء : 11.
(25) النور : 1.
(26) النور : 30.
(27) النور : 31.
(28) البقرة: 282.
(29) د. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دمشق، دار الفكر، الجزء ج 6 : 744.

ارسال التعليق

Top