• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الالتزام الأدبي والفني بين الثابت والمتحوّل

حسين علّاوي

الالتزام الأدبي والفني بين الثابت والمتحوّل

   إنّ الجدل النظري بين (العقيدة) والفن، قد يستنفد طاقتنا في سبيل الانتصار لجانب على الآخر.. لكننا نؤمن بأنّ الانتصار لجانب منهما على الآخر، لا يخدم طرفاً منهما.. لا القصيدة، ولا الفن!. إن فكرة الإلتزام تمثل أشدّ محاور الجدل حيوية وتأثيراً. فالجدل بين (العقيدة) والفن، والصورة المبسّطة له تمثل في بعض الأحيان تفكيراً أو موقفاً محدّداً.. في حين أنّ (العقيدة) – وهي عندنا الدين الإسلامي الحنيف – أفقها مطلق، وليس محدداً كما هو في باقي (الايديولوجيات السياسية المعاصرة).

فالفن والأدب في الإسلام لا يخضع للقيود في حالة تبنيها لفكرة أو موقف.. ولو اننا أمعنّا النظر في حقيقة الفن والأدب من حيث هما تعبير إنساني لوجدناهما منذ بدايتهما الأولى شديدي الارتباط بالعقيدة، ورجعة في التاريخ إلى الوراء تؤكّد لنا هذه الحقيقة ففي كتابه (الفن والإنسان) يقول الدكتور عزّ الدين اسماعيل: "انّ الفن نشأ في أحضان العقيدة الدينية.. وظلّ آماداً طويلة شديد الارتباط بها، بل انّ المتدبّر لتأريخ الفن حتى، العصور الحديثة يستطيع أن يدرك هذه العلاقة الوثيقة بين الفن والعقيدة، فليس هناك فنان معروف لم يصدر في أعماله الفنية عن عقيدة". والعقيدة هي التعبير كما نسميه اليوم "بالايديولوجية". وكلمة العقيدة لها جذورها التي ارتبطت في أذهاننا عبر التاريخ بالعقيدة الدينية.. وقد ظلّ الشاعر والفنان مرتبطاً بذلك على مدى عصور طويلة، حتى إذا كنّا في العصور الحديثة ولم يعد للشريعة الدينية وجهها الجماعي القديم.. راح الإنسان يبحث عن عقيدة أخرى.. وبقي هكذا ينتقل من عقيدة إلى عقيدة.. ومن ثم لم تخل أعماله الفنية في أي وقت من أن تكون خاضعة أو متأثرة بعقيدة.. وهذا الاعتقاد لم يأتِ اعتباطاً وانما كان له امتداداً للأديان التي جعلت الإنسان يحكم على الأرض بتفويض إلهي.. لكن ابتعاد الناس عن الدين وخاصة بعد أن تحوّلت المجتمعات الغربية إلى مجتمعات صناعية آلية.. أحدث شكلاً غريباً شوه العقيدة التي كانت متلائمة أشد التلائم مع الأدب والفن.. وبعد أن تمّ عزل العقيدة الدينية ظهرت عقيدة تؤمن بالفن في ذاته.. وتتخذ منه العقيدة البديل.. وفي اطار هذا البديل الطارىء ظهرت مدرسة "الفن للفن" تلك المدرسة التي أرادت أن تجعل الفن كياناً قائماً بذاته.. تتحرّك البشرية نحوه.. ولكنه لا يتحرك نحوها.. أي لا ينزل إليها ولا يستمد منها مبررات وجوده. ولكن سرعان ما تبين أنّ الفن في ذاته لا يمكن أن يكون عقيدة.. لأنّه قبل كل شيء نتاجٌ بشريٌ شديد المساس بالحياة. انّه يحتاج – كما كان دائماً – إلى العقيدة التي تسنده وتكون بالنسبة إليه بمثابة نقطة الانطلاق، ولهذا فهي بديل عنها، وإن ظل فلول من الناس يؤمنون به. وما زل هؤلاء يجادلون كل من يربط الفن بعقيدة من العقائد.. وقد فاتهم أنّهم هم أنفسهم قد جعلوا من الفن نفسه عقيدة. فقد أعادت ظروف الحياة اللإنسانية.. والقلقة، وبعد أن قامت الكثير من الثورات والانتفاضات، الفنان والأديب بالرجوع إلى العقيدة الأصلية التي تتمثل في الإيمان بالمجتمع ودور الإنسان فيه، فضرورة معالجة حيرته الداخلية والخارجية، بقدر مشترك من العدالة، وأمام هذه التحولات الكبرى وجد الفنان نفسه يتحرك نحو مجموعة من القيم الإنسانية التي تتمثل في الدين (المنبع والعقيدة). ثمّ وجد نفسه يتفاعل من جديد.. بوصفه انساناً يعيش في جماعة، وتربطه بها مصالح وأهداف مشتركة. ثمّ نمضي مع قضية الفن والعقيدة قليلاً فنصطدم بوجه آخر من وجهها. ذلك أن عملية الإبداع الفني عملية فردية، وانّ العمل الفني – يحمل وجهة نظر الإنسان بعينه، هو المسؤول أوّلاً وأخيراً عنها؛ فلم تجتمع مجموعة من الشعراء مثلاً لكي يكتبوا جميعاً قصيدة إلا إذا كانوا هازلين. أمّا العمل الفني الواحد فمؤلّفه دائماً فرد واحد. فكيف إذن نتصور هذه القدرة الفردية الخلاقة قد حلّت محلّها قوة إبداعية حقيقية ذات صيغة جماعية؟! يقول الدكتور غنيمي هلال في كتابه الموسوعي (النقد الأدبي الحديث): "سيظل العمل الفني كما كان دائماً عمل الفرد المبدع، ولكن هذه الخاصة الفردية لا تتعارض، كما لم تتعارض من قبل، مع أي مجتمع أو عقيدة". ونستطيع أن نقول أنّ الفنان هو الأداة التي يعبر المجتمع عن نفسه من خلالها. فالمجتمع حقاً لا يمكن أن يصنع العمل الفني المفرد. ولكن لولاه لما استطاع الفنان الفرد أن يصنع هذا العمل. والمجتمع أودع الفنان كل ثقته، والفنان نفسه – في مقابل هذا. قد استقرّ في نفسه الشعور بضرورة الاخلاص للمجتمع وقد بلغت ثقة المجتمع بالفنان إلى حد أنّه كان ينظر إليه على انّه نبي قومه.. وفي مقابل هذه الثقة المطلقة التي يتمتع بها الفنان من قومه نجده يعد نفسه خادمهم الأمين.. الذي لا يكذبهم قط.. ولا يخونهم قط.. وهو في الوقت الذي يمثل فيه جوهر العقيدة في أعلى مستوياتها يعد نفسه كذلك واحداً من عامة الناس.. يشعر بمشاعرهم ويوائم في عمله الفني بين العقيدة في اظهارها العام والواقع الذي يعيشه. وهنا لا يملك الشاعر إلا أن يعبر عن التزامه – بوصفه فرداً في الجماعة – لا يملك إلا أن يشارك الجماعة في تجاربها ومعاركها، وهو لن يستطيع أن يعبّر عن تجارب أخرى لم يعشها.. إلا إذا كان يتخذ من الفن أداة تزييف للواقع والفن معاً.. وإلا إذا كان منفصلاً بروحه وعقله عن الواقع الذي يعيشه ويعيشه مجتمعه. فنحن نتصوّر أنّ الفن الخالد هو ذلك الفن الذي استطاع الفنان فيه أن يخرج من إطار المرحلة الحضارية التي عاشها إلى إطار المعاناة الإنسانية العامة، التي لا تقيّد بمكان أو بزمان معيّن. والواقع أننا مخطئون في هذا التصوّر، فالفن الفرعوني مثلاً لم يكن إلا فناً فرعونياً. وكذلك الأمر بالنسبة للفن الصيني والإغريقي والمسيحي.. فكلها فنون تنتمي إلى أطر حضارية مختلفة، وتتبنى لذلك قيماً معنوياً وجمالية مختلفة. فإذا كنا اليوم نعجب بالفن الإغريقي فإننا نعجب به في إطاره الحضاري الخاص. وما لم نأخذ هذا في الاعتبار فإننا لن نستطيع أن نتذوقه وننفعل به – بل لن نستطيع قبل هذا أن نفهمه. يقول الدكتور عزّ الدين إسماعيل وفي نفس المصدر: (في عصرنا الحاضر لم يعد هناك معنى لفكرة، المحلية والعالمية حتى نرتفع بقيمة الفن الذي يخاطب الإنسان العالمي أو الإنسان المجرد عن الفن الذي يخاطب إنساناً بعينه، ذلك أنّ الإتصال بين كل أجزاء العالم في هذا العصر قد جعل لكل جزء منه أهمية بالنسبة إلى الكلي وبذلك صارت كل المحليات ذات طابع عالمي في الوقت نفسه. لن تستطيع اليوم أن تصرف نظرك عن شعر الزنوج لأنّك أبيض.. ولن تستطيع أن تهمل شعر المقاومة الفلسطينية لأنك تعيش في الرباط.. فإنّ هذا الشعر وذاك يحمل إليك معنى حيث ما كنت على وجه الأرض. وما دام يحمل إليك معنى فإنّه يحمل قيمة إنسانية). وأما من دعا إلى اخراج الشعر من دائرة الالتزام فهؤلاء حدّدوا النتاج الشعري بصميم الحيوانيّة الفردية التي غرق فيها.. وضاعت فيها معالمه.. وحين يتحدثون عن الشعر، أجمل الشعر، يتحدثون عنه وقد أصابته هذه العدوى وفاضت منه رائحة التعزّر، رائحة الجنس والغريزة الحيوانية المفترسة.. فنسى هؤلاء أنّ الأدب والفن هو انعكاس لكل جميل في داخل الإنسان.. فليس من فرق بين ما يعيشه ويحسه الإنسان حقاً وما يمكن لهذا الإنسان أن يكتبه أو يعبّر به شعراً. فليس له مثلاً أن يستغرق في الترف الفني.. أو يكثّف الرمز لتقليد مدارس أدبيّة بعيدة عن الواقع الذي يعيشه وعن الإبداع والتجديد الذي ينشده.. الالتزام هو عيش على صعيد الوجود الفردي والجمعي وكذلك على صعيد التعبير الأدبي.. الالتزام.. وجوب مشاركة الأديب والفنان أمته.. وفيما تعاني من آلام.. وما تبني من آمال..   المصدر: مجلة القصب/ العدد الأول لسنة 1995م

ارسال التعليق

Top