• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإحتكام إلى العقل

هارون يحيى

الإحتكام إلى العقل

 

◄"الإعتقاد بأن كوننا المدهش تطوّر بصدفة عمياء هو جنون، ولا أقصد بكلمة جنون معناها العامي، بل الأغلب هو المعنى التقني المستخدم في التحليل النفسي. وفي الحقيقة، فإنّ مثل ذلك الإعتقاد مصحوب بمظاهر التفكير الفصامي" (كارل شتيرن، جامعة مونتريال، عالم نفس)   كسب (مبدأ الأنتروبي) أي العشوائية قبولاً واسعاً في دنيا العلم. ذلك المبدأ يقتضي بأن يكون خليطاً من المادة المشوشة عشوائياً، وكان ذلك على النقيض في أنّ الكون أتى من تصميم دقيق متأنٍ كي يخدم الإنسان ويكون مأوىً له. منذ أن رأينا الدليل الموضح أنّ مبدأ الأنتروبية هو صحيح حقيقة، حيث يمتد مجال هذا الدليل من السرعة التي كان يتطوّر بها الكون منذ الإنفجار العظيم إلى التوازنات الفيزيائية للذرّات، أي من الشدّة النسبية للقوى الأربع الأساسية إلى كيمياء النجوم، ومن الأسرار الغامضة لأبعاد الفضاء إلى نموذج النظام الشمسي في نسقه وطريقة ترتيبه، ونحن أينما نظرنا وجدنا أنّ ترتيباً دقيقاً غير عادي كمن في تركيب الكون، كما رأينا التركيبية والتوسعية للكون الذي نعيش فيه وكيف ضبُطتا بما فيها جوه كي نحيا فيه، وشاهدنا كيف يردنا الضوء من الشمس والماء الذي نشربه والذرّات التي تصنع أجسامنا وكذلك الهواء الذي نستنشقه وندخله لرئتينا، وكل هذا يتلاءَمُ بدرجة مذهلة مع الحياة. بإختصار، عندما نرى أي شيء في الكون فمعنى ذلك أنّنا نواجه تصميماً غير عادي غرضه تعزيز حياة الإنسان ودعمها، وأنّ إنكار حقيقة هذا التصميم يكون تجاوزاً وإرتداداً عن حدود العقل، كما صرّح بذلك العالم النفسي (كارل شترين). إنّ مضامين هذا التصميم واضحة جدّاً، ومع ذلك يختفي هذا التصميم ويحتجب داخل كل جزء من أجزاء هذا الكون مهما كان دقيقاً، كما أنّ قدرته وحكمته لا نهائيتان، وكما وضّحت نظريّة الإنفجار العظيم أنّ هذا الخالق خلق الكون كلّه من العدم، وهذا الإستنتاج الذي توصل له العلم الحديث هو حقيقة نقلها لنا القرآن ووضَّحها: (إنّ ربُّكُم اللهُ الذين خلق السموات والأرضَ في ستّة أيامٍ ثمّ استوى على العَرش يُغشي الليل النهار يطلبُهُ حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخَّراتٍ بأمرهِ ألا له الخلقُ والأمرُ تبارك اللهُ ربُّ العالمين) (الأعراف/ 54). دون مفاجأة يتضح أنّ إكتشاف هذه الحقيقة من قِبل العلم أزعج تماماً بعض العلماء ومازال يفعل ذلك، وهؤلاء العلماء هم الذين يوازنون بين العلم والمادية، وهم أُناس اقتنعوا أنّ العلم والدين لا يمكن أن يسيرا معهاً، ومعنى أن تكون علمياً فهذا مرادف من وجهة نظرهم لأن تكون ملحداً، فهم تدرَّبوا على الإعتقاد أنّ الكون وكل الحياة فيها يمكن تفسيره كنتيجة أو محصلة لحوادث تقع بالصدفة، وأنّها مجرّدة كلِّياً عن أيّة نيّة أو قصد في التصميم أو التخطيط، وعندما يواجَه مثل هؤلاء بالحقيقة الواضحة للخلق فيكون إرتباكهم ورعبهم أمراً طبيعياً متوقعاً. ولكي نفهم ذعر الماديين، يجب أن نلقي نظرة مختصرة على مسألة أصل الحياة.   -         أصل الحياة: الذي تستطيع قوله في مسألة أصل الحياة هو أن نطرح السؤال التالي: كيف أتت أوّل الكائنات الحيّة وجدت على الأرض؟ لقد كان هذا السؤال أحد أكبر المعضلات الشائكة التي واجهت الماديين في القرن الأخير إلى غاية منتصف القرن العشرين.. لماذا يجب أن يكون الأمر هكذا؟ السبب هو أنّ الخلية الحيّة الواحدة والتي تعتبر أصغر وحدة للحياة على درجة من التعقيد لا يمكن مقارنته بأعظم الإنجازات البشرية وأكثرها تعقيداً، وقد أوضحت قوانين الإحتمال تلك الحالة وبيّنت أنّه حتى ولا البروتين يمكن أن يكون قد أتى إلى الوجود بالصدفة. وإذا كان يصح هذا بشأن البروتينات وهي القطع البنّاءة الأكثر للخلايا، فإنّ التشكيل الكامل للخلية بالصدفة هو أمر مستحيل تماماً ولا يمكن أن يخطر على بال. وطبعاً هذا برهان على الخلق. نعلم أنّ التشكل بالصدفة للتوازنات التي سادت الكون ليست ممكنة، وسوف نُبيِّن الآن أنّ الإستحالة تصح أيضاً بشأن التشكل بالصدفة حتى في أبسط أشكال الحياة، وهي البكتيريا. إنّ أوّل دراسة على هذا الموضوع قام بها (روبيرت شابيرو) أستاذ الكيمياء والخبير في موضع الدي.إن.أي (DNA) في جامعة نيويورك، و(شابيرو) وهو دارويني وتطوري في آن واحد وقد حسب الإحتمال لألفين من نماذج البروتينات والتي تأخذها تلك البروتينات لتشكل حتى بكتيريا بسيطة واحدة، وذلك بفرض أنّها أتت كلّها بالصدفة، ويجب أن نذكر هنا أنّ جسم الإنسان يحتوي على حوالي مئتي ألف نموذج منها. وطبقاً لحسابات (شابيرو)، كان الإحتمال هو (4000010 )102، أي العدد واحد متبوعاً بأربعين ألفاً من الأصفار، وطبعاً لا يوجد لهذا الإحتمال أو الرقم مكافئ في هذا الكون.   يوجد 2000 نموذج من البروتينات في بكتيريا واحدة بسيطة واحتمال أن تأتي كُلّها بالصدفة إلى الوجود هو 1/10 40000  وفي الإنسان يوجد 200000 نموذج للبروتينات وكلمة مستحيل هي كلمة قاصرة عن التعبير عن كون ذلك حدث بطريق الصدفة.   وبالتأكيد، يبدو واضحاً ماذا يعني رقم (شابيرو). فتفسير الداروينية والمادية للحياة أنّها تطوّرت بالصدفة باطل بالتأكيد ولا أساس له من الصحّة، وقد علق (شاندرا ويكرا مانسيغ) أستاذ الرياضيات التطبيقية والفلك في جامعة كاردف على نتائج (شابيرو)، وقال: "إحتمال التشكل التلقائي للحياة من مادة ميتة هو واحد إلى عدد (10 40000) وأصفار بعدها، فهذا الرقم كبير بشكل يكفي لدفن الداروينية وكل نظرية التطور، وبالتالي لم يكن هناك سائل بدائي لا على هذا الكوكب ولا على غيره، وإذا كانت بدايات الحياة ليست عشوائية فمعنى ذلك أنّها نتاج عقل ذكي هادف". ولقد علَّق الفلكي (فريد هويل) على هذه النقطة بطريقة مماثلة لشابيرو، فقال: "في الحقيقة كيف لنظرية علمية واضحة جداً تقول أنّ الحياة جمعها عقل ذكي، ومع ذلك فإنّ الشخص يتعجّب ويتساءل: لماذا لا يقبلها بشكل واسع بإعتبارها بديهية!! لكن أغلب الظن أنّ الأسباب نفسيّة أكثر منها علمية". يُعتبر كلا العالمين (ويكرا مانسيغ) و(هويل) من الرجال الذين قربوا من خلال أعمالهم الكثيرة العلم من النزعة المادية، ولكن عندما واجهتهم حقيقة خلق الحياة كان لديهما الشجاعة بقبول تلك الحقيقة، واليوم يوجد كثير من علماء الأحياء والكيمياء الحيوية ممّن تخلّوا عن القصة الخيالية، وهي أنّ الحياة انبثقت بالصُدفة. أمّا أولئك الذين مازلاوا موالين للداروينية ويجادلون بأنّ الحياة ما هي إلا نتيجة صدفة، فهم في الحقيقة في حالة رعب، وهذا بالضبط ما كان يقصده عالم الكيمياء الحيوية (ميشيل بيهي) عندما قال: "لقد كانت نتيجة التحقق من أنّ الحياة صُممت من قِبَل عقل ذكي هو صدمة لنا في القرن العشرين، حيث كنّا نظن أنّ الحياة ما هي إلا نتيجة قوانين طبيعية بسيطة". والصدمة التي شعر بها هؤلاء هي صدمة الوصول إلى العبارات فيها حقيقة وجود الله الذي خلقهم. لقد كان سقوط قضية أنصار المادية أمراً محتوماً ذلك بأنّهم كانوا يناضلون لينكروا حقيقة لم يكونوا يرونها بوضوح. وفي القرآن الكريم، وصف الله حيرة هؤلاء وإرتباك الذين يعتقدون بالمادي كما يلي: (والسَّماءُ ذاتِ الحُبُك * إنّكم لفي قولٍ مختلفٍ * يُؤفَكُ عنهُ مَن أُفِكَ * قُتِلَ الخَرَّاصونَ * الذين هُم في غَمرَةٍ ساهُون) (الذّاريات/ 7-11). وواجبنا نحن عند هذه النقطة أن ندعو هؤلاء الذين تأثّروا بالفلسفة المادية، وتخطّوا حدود العقل أن يعودوا إلى العقل والفطرة السليمة والحكم على الأشياء بصورة سلمية، كما يجب علينا أن ندعوهم ليَدَعوا جانباً كل حقد وإجحاف وليفكِّروا في التصميم غير العادي للكون والحياة، وأن يقبلوا هذا البرهان البسيط لحقيقة أنّ الله هو الخالق.. الخالق المبدع لكل شيء وليس غيره، بل الله خالق السماوات والأرض من لا شيء ويدعو البشر الذين خلقهم ليجرِّبوا عقولهم ويتفكّروا. (إنّ ربَّكُمُ اللهُ الذي خلق السمواتِ والأرضَ في ستّة أيّامٍ ثمّ استوى على العَرشِ يُدَبِّرُ الأمرَ ما من شفيعٍ إلا مِن بَعدِ إذنِهِ ذلكُمُ اللهُ ربُّكُم فاعبُدُوهُ أفلا تَذَكَّرونَ) (يونس/ 3). وفي آية أخرى يخاطب الله الناس بما يلي: (أفَمَن يَخلُقُ كَمَن لا يَخلُقُ أفَلا تَذَكَّرونَ) (النحل/ 17). لقد برهن العلم الحديث على حقيقة الخلق، وحان الوقت لكلّ عالم أن يرى هذه الحقيقة وأن يستنبط منها درساً، وإلى هؤلاء الذين يُنكرون أو يتجاهلون وجود الله يجب أن يعرفوا مدى عمق ضلالهم وبُعدهم عن الطريق الصحيح، لأنّهم يُنكرون الحقيقة ويتظاهرون بأنّهم يفعلون ذلك بإسم العلم. من ناحية أخرى، بهذه الحقيقة التي وضَّحها العلم درسٌ آخر يجب أن نُعلِّمه لهؤلاء الذين قالوا أنّهم صاروا يعتقدون بوجود الله، وصاروا يعترفون أنّ الله خلق هذا الكون، وهذا الدرس هو أنّه ربّما كان إعتقادهم سطحياً أو ظاهرياً، وأنّهم لا يفكِّرون بعمقٍ وشموليةٍ بالدليل على خلق الله للكون ويتجاهلون ما يترتّب على ذلك من نتائج وعواقب. وتقاعسوا عن تلبية المسؤوليات المترتبة على إيمانهم. ولقد وصف القرآن أمثال هؤلاء الناس كما يلي: (قُل لِمَنِ الأرضُ ومَن فيها إن كُنتُم تَعلَمونَ سَيَقولونَ للهِ قُل أفلا تَذَكَّرونَ قل مَن ربُّ السموات السَّبعِ وربُّ العرشِ العظيم سيقولون للهِ قُل أفلا تتَّقونَ قل مَن بيدِهِ ملكوتُ كلِّ شيءٍ وهو يُجِيرُ ولا يُجارُ عليه إن كنتم تعلمونَ سيقولونَ للهِ قل فأنّى تُسحَرون) (المؤمنون/ 84-89). لقد وصلنا إلى حقيقة وهي أنّ الله موجود وأنّ كل ما في الوجود هو من خلق الله، وأن يبقى المرء لا مبالياً تجاه تلك الحقيقة هو نوع من الضلال والغفلة.. هو الله الذي خلق الكون والعالم الذي نعيش فيه بإنسجام وتكامل بعد أن أوجدنا من العدم، والواجب الملقى على عاتق كل شخصٍ أن يحترم أعظم حقيقة هامة في حياته. فالأرض والسماء وكل شيء بينهما خُلقت بأمر الله الأسمى، وعلى البشرية معرفة الله حق المعرفة وعبادته كما يستحق بإعتباره سيِّداً مشرفاً أسمى، وهذه الحقيقة وضَّحها لنا الله في القرآن الكريم، فقال: (ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما فاعبُدهُ واصطَبِر لعبادتِهِ هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم/ 65).   المصدر: كتاب (خلق الكون)

تعليقات

  • يوسف الغراوي

    شكراً لكم لهذه المواضيع الجميلة

ارسال التعليق

Top