• ٢١ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التأريخ الإسلامي.. حقائق لا تنسى

الشيخ محمد باقر الناصري

التأريخ الإسلامي.. حقائق لا تنسى

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (النور/ 34). (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى) (طه/ 128). (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (غافر/ 82). ونحن نتأمل ما تقدم من آيات الله البينات والعشرات من الآيات الكريمة نحس اهتمام المولى سبحانه بالتدبر وقراءه تاريخ الأمم السالفه. وكذلك الأحاديث القدسيه، والنصوص النبوية المستفيضه واهتمات المعصومين (عليهم السلام)، وقاده الأمة ومفكريها الرساليين بالآيات والأحاديث التي تذكر وتذكّر بالتاريخ البشري عبر مسيرة البشرية، ومن منظور رسالي هادف ندرك أهمية التاريخ وضروره اللصوق به، وأطالة التفكر في صفحاته. فالتاريخ في حقيقته عبر بليغة، ودروس عملية حية، تدعم إيماننا بالحق والمثل العليا وتشدنا إليها، وتجسد الباطل بدوله ورجاله وظروفه ونتائجه المدمره المهينه، لتنفرنا منه. ولا شك أنّ البحث في التاريخ أمر خطير، وعمل شاق كمن يريد أن يلج بحراً هائجاً متلاطم الأمواج، فيقصده ليسبح فيه، وتتجسم الخطورة لمن لا يرضى من البحر بزبده، بل يمد ببصره وبصيرته إلى قاعه العميق، لأنّه يعلم أنّ السلامة في الوصول إلى مزيد من العمق، ولأن اللآلى وكريم الأحجار وهدايا البحر الثمينه تكمن في القعر العميق. نعم إذا كان البحث بهذه المثابه والتوجه فهو محفوف بالمخاطر وحقاً لمن يريد أن يستخلص من التاريخ العظات والعبر والمواقف المبدئيه أن يتحمل في سبيل ذلك الصعاب حيث لا يتسنى لباحث لديه طموح لإحقاق الحق وإزهاق الباطل أن يفتح سفر التاريخ لمثل هذا الهدف السامي إلا إذا كان واسع الاطلاع، بعيد النظر، شديد الحب للحق موطنا نفسه على اتباعه، مبتعداً – جهد الإمكان – عن التعصب المقيت، ورعا في تقييم الحوادث والأحداث، خبيراً بطرق الاستنباط عارفاً بأمراض التاريخ وأسبابها مؤثراً مصلحة الإسلام والمثل العليا على ما سواها خاصة في عصرنا بأبعاده وظروفه. ولا يخفى على القارئ الفطن ما تعنيه هذه الشروط، لعلاقه التاريخ بمختلف النواحي الفكرية والإنسانية وللارتباط الوثيق بينه وبين الدين والعقيدة والعلم والأدب وغيرها من قواعد ومهمات حياة البشرية. فعلى أساسه تقول الأجيال كلمتها في كل شيء، وعلى ضوئه تحكم على كل شيء خاصة بعد شيوع الاتجاهات المتطرفه في التعامل مع التاريخ، فهنالك على الأقل نظرتان للتاريخ مفرظتان في التطرف والانحراف. فمن مقبل على التاريخ بنصوصيته سلفيه عمياء، مكب على أخذ ما فيه من فكر وعقيده وآداب، غثه وسمينه، ينهل منه ريه في كل جوانب الحياة ويعتبره من المسلمات دون حذر مما داخله من الدس والخرافات متجاهلاً للتحذيرات التي تطلقها العقول السليمة، والمؤكده بالوصايا النبوية الشريفة حيث أكد (ص) حتمية ظهور المفترين عليه محذراً منهم أشد تحذير وذلك ما أجمع عليه الفقهاء والمحدثون، وأعترف به جمع من الدساسين والزنادقه الملحدين، من أنهم وضعوا القصص واخترعوا الأحداث والحوادث وانتحلوا الأحاديث التي حللوا بها الحرام، وحرموا بها الحلال، طعنا في الدين ورغبه في أفساد الشريعة وحشوها بما ينفر منها. وأزالوا بها الحق عن نصابه، وزوروا الأحاديث، وافتعلوا الكرامات والمناقب، حباً في المال والمناصب، أو بغضاً للإسلام والمسلمين. وقد ساعد على تأثير هذا الاتجاه المنحرف وشيوعه، الانحراف العام عن الإسلام وخطه الرسالي الأصيل وقيام حكومات تدعي الإسلام وهى تفتك بقلب الإسلام إلى حد تظاهر الحكام والولاة الأدعياء بالفسق والمجون والمجاهرة بهتك حرمات الدين وكغطاء لهذا الانحراف وتلافياً لهذه الفجائع استعان الحكام الفسقه بكتاب وخطباء من وعاظ السلاطين ليصرفوا الناس عن النظر لجرائم انحراف الأنظمه والحكام عن الإسلام وأحكامه، ويلهوا الأمة بعالم من القصص التاريخية والأحاديث المكذوبه، ويغرقوا الأمة بسيل خرافاتهم وبدعهم، ويفتعلوا المبررات للانحراف والزيغ عن الإسلام وأحكامه حتى ولو لزم أن تمس كرامة الدين والرسالة والرسول.   - النظرة الثانية للتأريخ: هي نظرة من غلّبوا جانب التشاؤم للأسباب السالفة، بالإضافة إلى حقد الحاقدين ودسائس المبشرين الذين من أولى مهامهم زعزعة ثقة المسلمين بدينهم وتاريخهم ليعيش المسلم تائهاً مقطوع الجذور فيلجأ للتسكع على موائد الديانات المحرمة والأفكار الغربية والشرقية، فهيمنت هذه الأفكار والأهداف الخبيثه على بعض المسلمين وانتهت بهم للتنكر للتاريخ جملة وتفصيلاً، وتحاملوا عليه ووصموه ببعض ما فيه، وجعلوا ذلك حجة لإعراضهم عنه وإبتعادهم منه. وذلك ظلم قبيح وحكم جائر، وفصم لعرى الأجيال عن تاريخها وحرمان للمتأخرين من دروس الماضين، وطعن ومخالفة للقرآن الكريم الذي حفل بذكر حقائق التاريخ وقصصه، ودعا لتدارسه والانتفاع من عظاته وعبره (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبه الذين من قبلهم...). وبين هذين المذهبين المغرقين تطرفاً في التعامل مع التاريخ برز منهج وسيط ثالث، اتسم باهتمام علماء المسلمين ومفكريهم بالدراسات التاريخية وبذل الوسع في اماطة اللثام عن كثير من جوانبه التي بدت قائمه مشوهة بفعل الدخلاء عليه، أو الذين جندوا أنفسهم لهدم الدين وطمس معالم الحق. لهذا وغيره أصبح الواجب يستصرخ كل ذي فضل وغيره على الدين والمثل العليا، خاصة مفكري الأمة وحملة رسالة التغيير فيها. فالتاريخ جزء مهم من حياة البشرية المعذبة، وهي أحوج ما تكون إلى عطاء الإسلام الصافي النقي وتخليصه من الشوائب والمعايب. ولما كان بحثنا أصلاً يدعونا لتسجيل مراحل حياة الرسول محمد (ص) قبل أن يبعث، كان لزاما علينا دراسه وتسجيل هذه الفتره من التاريخ بما فيها الديانات التي كانت سائدة انذاك، لنخلص للحديث عن حياة محمد (ص) الدينية ومجتمعه الذى عاش فيه من يوم مولده الشريف إلى مبعثه المبارك مع التأكيد على أننا سوف نقتصر في حديثنا على ما يتعلق بالإسلام والمسلمين دون الالتزام بتسجيل كافه الحوادث والأحداث في الفترة الإسلامية من التاريخ، فانّ ذلك باب واسع لا نريد الدخول فيه كما هو شأن كتاب السير والتواريخ الذين أفرط الكثير منهم في هذا المجال فنسى الهدف السامي وأغرق القارئ بسيل من الحوادث والأحداث التي كان الأعراض عنها أجدر واثقلوا المادة التأريخية الإسلامية بركام من القصص المطوله والأحداث التي جنت على الأصل وسببت عزوف القارئ المعاصر عن الجميع، وبذلك خسر الهدف السامي الذي استهدفه القرآن الكريم حين دعا للنظر والتبصر بأحداث التاريخ وأخذ العبره والدروس منها. فإنّ الظرف العسير، ومرحلة المخاض التي تمّر بها البشرية لولادة النور وهزيمة الظلام تستدعي فيما تستدعي من علماء الأمة ورساليها المجاهدين التسلح والتزود من معين ثروة التاريخ الرسالي، وخاصة التاريخ الإسلامي الذي شمله الظلم والاضطهاد بأبشع صورة وتعرض لعملية مسخ وتشويه متعمدين، بل وإستبدال مقصود بصور شوهاء تعكس سلبيات بعض أدعياء الإسلام لتحملها ثقلاً وإدانة على الإسلام وشرعته السمحاء ونظامه العتيد. من هنا كان لزاماً على الأمة وحملة رسالتها التنبه لهذا الجانب، والعمل على وضع إطروحة سليمة للدراسات التاريخية عامة، والإسلامية منها خاصة، والخروج بنتائج جريئة ومبدئية تضع النقاط على الحروف، وتفك قيود هذا المخزون العظيم من رصيد الأمة العلمي والعملي، وتضع يدها على مواطن الداء في جسم التاريخ الذي لا يشك أحد في وجود ظواهر مرضية فيه، وتعمل مبضعها الأمين في بتر ما يستحق البتر، وتثبيت ما أقصى من الحقائق والأرقام التي شوهته يد الخبث والعداء لله وللرسوله، وخاصة الأيادي الأثمة للتبشير بالاستمعار والأقلام الماجوره التي كانت ولا تزال تمهد للغزو الفكري والعسكري، والله المستعان على ما يصفون.   - مذاهب وديانات العرب قبل الإسلام: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج/ 73). وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى) (النجم/ 19-25). بالرجوع لأوثق المصادر المتوفرة واشهرها بما فيها التفاسير القرآنية لبعض الآيات التاريخية، نستخلص أنّ العرب ومن كان معهم في الجزيرة العربية كانوا يذهبون في العقائد والعبادات مذاهب شتى، وكثيراً ما نجد اشارات لتلك المذاهب في الكتاب العزيز نصاً أو تفسيراً، وكذلك في السنّة النبوية الشريفة، وأقوال وخطب أهل البيت (ع). ويمكن أن نصل إلى نتيجة بأنّ المهم من ديانات العرب قبل الإسلام هي كالتالي: 1- منهم من انكر الخالق جملة وتفصيلاً، ويسمون بالدهريين وإليهم يشير القرآن الكريم (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ...) (الجاثية/24). وملخص مذهب الدهريين هو انكار خالق الكون، وانكار النبوات، وما يتعلق بها من الحشر والحساب والجنة والنار... وانّ الدهر هو مصدر وجودهم، وبموتهم ينتهي كل شيء ولا نريد أن ندخل في تفاصيل هذا المذهب الفاسد الذي تأباه العقول السليمة وتكّذبه البراهين الواضحة، ولا يخفى وجود بعض الشبه بينه وبين ملاحدة العصور المتأخرة حتى اليوم، وهو يمثل قصر النظر، والعجز الفكري والهروب من الحقيقة. 2- ومنهم من اعترفوا بوجود خالق مبدع لهذا الكون، ولكنهم انكروا البعث والنشور والحساب، وما يتعلق به، وهم في ضلالهم يشبهون من سبقهم في التحلل معتمدين في ذلك على فهمهم الساذج في استبعاد البعث والحشر والقيامة. (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا...) (يس/ 78-79). ولأولئك الجهال الضالين أشباه ونظائر في ضلال المتأخرين وازدرائهم بالبعث والنشور والدار الآخرة. 3- ومنهم من قالوا بوجود الخالق، وبالدار الآخرة، ولكنهم انكروا الرسل وضرورة إرسالهم من الله سبحانه كما تشير لذلك الآيات الكريمة (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا) (الإسراء/ 94). (.. أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا...) (التغابن/ 6). ولعل هذا النوع من أكثر العبادات شيوعاً في الجزيرة العربية وكان غالبية هؤلاء يعتقدون بالأصنام، يعبدونها على أنّها وسائل وشفعاء عند الله تقربهم إليه زلفى. ويذهب ابن هشام إلى أنّ عباده الأصنام لم تك موجوده في مكة والجزيرة العربية بل جلبت إليها من الشام حيث كان هناك العماليق من أولاد سام بن نوح، وكانوا معروفين بكفرهم وعبادتهم للأصنام، ويسرد لرحلة الأصنام من الشام إلى مكة قصة خلاصتها انّ أول من أدخل عبادة الأصنام إلى مكة هو: عمرو بن لحى، خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق – ويقال عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح – رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم عمرو بن لحى: ما هي الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا... فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنماً فأسير فيه إلى أرض العرب فيعبدوه، فاعطوه صنماً يقال له (هبل) فقدم به مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه... وهناك من يرى أنّ أصل عبادة الأصنام في مكة والجزيرة العربية يرجع إلى تعظيم أهل مكة لبقعة مكة لأنها بقعة توحيد الله تعالى على لسان كافة الأنبياء إلى إسماعيل (ع). حيث يذكر محمد بن إسحاق بما يرويه عنه ابن هشام قوله: ويزعمون أنّ أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل، وأنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد الأحمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم، فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى خرج ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة، وأعجبهم حتى خلف الخلوف – القرون والأجيال المتعاقبة – ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل (ع) غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات، وكدليل على ما يذهب إليه ابن إسحاق يذكر ابن هشام في السيرة جملة أدلة منها الكثير من هؤلاء الضالين يتمسكون بأحكام وعادات هي بقايا من دين إبراهيم (ع)، كتعظيم البيت والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدي البدن والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم وإبتداعهم في هذه العبادات ما ليس فيه بشرعة إبراهيم. ويستطرد ابن إسحاق في ذكر الأدلة لهذا الرأي فيقول: فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك) ثم يستشهد بالآية الكريمة حيث يخاطب المولى سبحانه رسوله الكريم (ص) (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف/ 106). وقد كانت لقوم نوح أصنام قد عكفوا عليها، قص الله تعالى خبرها (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا...) (نوح/ 23-24). ونتيجة استمرار هذا القسم من الناس على ضلالهم في التقرب بالأصنام وغيرها وعكوفهم عليها، أدّى بهم إلى تناسي خالقهم العظيم وأصبحوا عاكفين على عبادة الأصنام نفسها والركوع أمام الأصنام يسجدون لها ويطلبون حوائجهم منها، حتى اشتهر لكل قبيلة صنم، وقد تشترك قبائل كثيرة بصنم واحد. وأشهر هذه الأصنام: 1- ود: كان صنماً لقبيلة كلب وهو بدومة الجندل. 2- سواع: لقبيلة هذيل. 3- يغوث: لقبيلة مذحج، أو لقبائل من اليمن. 4- يعوق: لقبيلة همدان. 5- نسر: لقبيلة ذي الكلاع بأرض حمير. 6- اللات: لقبائل ثقيف بالطائف. 7- العزى: لقريش وجميع بني كنانة، وقوم من بني سليم. 8- مناة: للأوس، والخزرج، وغسان. 9-هبل: وكانت تعظمه العرب وتعدّه من أعظم أصنامها ولشدة تعلقهم بهبل وضعوه على ظهر الكعبة، ولعله أول صنم وضع على ظهر الكعبة، ويروى أنه كان من عقيق أحمر على صورة إنسان، وكان أول من نصبه خزيمه بن مدركه بن الياس بن مضر، لهذا كان يقال له هبل خزيمه، وكانت قريش تضرب عنده القداح وقد كثر الاستنجاد به على لسان مشركي قريش في حروبهم ومحنهم خاصة في حروبهم ضد الإسلام كيوم بدر وأُحد فطالما سمعنا من أبي سفيان وأبي لهب (أعل هبل أعل هبل). 10-                    سعد: وهو صنم بني ملكان من قبائل كنانة، وفيه يقول شاعرهم أتينا إلى سعد ليجمع شملنا**** فشتتنا سعد فلا نحن من سعد وهل سعد إلا صخره بثنوقة**** من الأرض لا يدعو لغى ولا رشد 11-        أسافا ونائله: وقد جعلتها قريش على موضع زمزم، ينحرون عندهما ويذكر لا ساف ونائله قصة لا ندري مدى صحتها، وخلاصتها انّ أسافا ونائله رجلاً وأمرأة من جرهم فوقع أساف على نائله في الكعبة فمسخهما الله حجرين، وروى في ذلك عن عائشة قولها: مازلنا نسمع أن أسافا ونائله كانا رجلاً وأمرأة من جرهم أحدثا في الكعبة – أي فَجَرا – فمسخهما تعالى حجرين، و الله العالم. ثم توسعت عبادة الأصنام في مكة والجزيرة العربية إلى حد أن اتخذ أهل كل دار في دارهم صنماً يعبدونه فإذا أراد الرجل منهم سفراً تمسح به حين يركب فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله، فلما بعث الله رسوله المصطفى محمد (ص) بالتوحيد قالت قريش كما حكى عنها الله في كتابه العزيز: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (ص/ 5). ويذهب كثير من كتاب السيّر بما فيهم ابن إسحاق وابن هشام وابن الكلبي إلى أنّ العرب إضافة إلى شركها بعبادة الأصنام اتخذت بيوتاً تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنه وحجاب وتهدي لها كما تهدي الكعبة، وتطوف بها كطوافها بالكعبة وتنحر عندها، ولكنها كانت تعرف فضل الكعبة عليها لأنها كانت قد عرفت إنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده. وبالملاحظة ندرك مدى التقارب بين أهم الأقوال السالفه بخصوص تاريخ عبادة الأصنام ومبدأ وجودها في مكة والجزيرة العربية، كما أنّ الكثير من الآيات القرآنية تشير إلى ما سبق ذكره وتخبط العرب بعبادة الأصنام، وتعدد هذه الأصنام. هذه صورة موجزة لأشهر المذاهب والعبادات التي كانت سائده في مكة والجزيرة العربية قبل بزوغ نور الإسلام بمبعث المنقذ العظيم محمد بن عبد الله (ص). وهذا لا يعني أنّ الجزيرة العربيه بكاملها لم يكن فيها من يحمل عقيده التوحيد، فقد كان هناك جمع من أهل مكة وخارجها في أيام الجاهلية اشتهروا بإيمانهم بالله تعالى وباليوم الآخر وكانوا ينتظرون أن يبعث الله رسولاً للعباد، بما توارثوه وسمعوه من الديّانين والرهبان والقسسه، وقد أشتهر من هؤلاء الموحدين أناس كعبد المطلب جد رسول الله (ص) فطالما كان يقول (والله ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته...) كما يروي في التأكيد على إيمان عبد المطلب وتمسكه بتوحيد الله سبحانه قوله شعراً يجسد إيمانه بالله الواحد الأحد وذلك يوم قدوم أبرهه في قصة أصحاب الفيل حين جاء أبرهه قاصداً هدم الكعبة وإزاله معالم عبادة الله وتوحيده فقام عبد المطلب وهو آخذ بباب الكعبة ويدعو الله بقوله اللهم انّ العبد يمنع رحله فامنع رحالك لا يغلبّن صليبهم ومحالهم غدواً محالك أن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك. ويؤكد إيمان عبد المطلب بالله وحده ما نعتقده أنّ النبي (ص) كان ينتقل بأصلاب طاهرة وأرحام مطهرة بعيداً عن الرجس وعبادة الأوثان، لم تنجّسه الجاهلية بأنجاسها. وممن أشتهر أيضاً بصلاح العقيدة قبل الإسلام زيد بن عمرو بن نفيل، فقد اشتهر عنه أنّه وقف فلم يدخل في يهوديه ولا نصرانيه، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان، والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل المؤودة وقال: أعبد رب إبراهيم. وصارح قومه بعيب وبطلان ما هم عليه من العبادة الضالة والعادات القبيحة. كما روى عن اسماء بنت أبي بكر أنّها قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخاً كبيراً مسنداً ظهره إلى الكعبة وهو يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على راحته. وروى لزيد هذا شعر كثير مما يثبت إيمانه بالله وحده حيث يقول في بعضها: رضيت بك اللهم ربّا فلن أرى- أدين إلهاً غيرك الله ثانياً. وممن أشتهر بالإيمان بالله، قّس بن ساعدة المشهور بمعارفه وتنبؤآته، واعترافه بالله واليوم الآخر حيث جاء في بعض كلام قّس قوله: (كلا ورب الكعبة ليعود ما باد، لئن ذهب ليعودنّ يوماً...) وكذلك المشهور من قصة ورقه بن نوفل، وكان معروفاً بتتبع أهل التوراة والأنجيل، والسماع منهم، وأنّه لما أخبرته خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله (ص) وهي ابنة ورقه حيث يروى إنها رضوان الله عليها أخبرت ورقه بن نوفل بما بعث به رسول الله (ص) وإخبار الرسول لها ببدء البعثة ولقاء جبرائيل معه... وأنّ ورقه هذا بشر خديجة ببشارة صدق محمد (ص) ونبوته كما يروى أنّ ورقة بن نوفل تعرض يوماً لنبي (ص) وهو يطوف بالكعبة فقال له: يا ابن أخي اخبرني بما رأيت وسمعت، فاخبره رسول الله (ص) فقال له ورقة: والذي نفسي بيده انك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذّبّنه، ولتخرجنّه، ولتقاتلنّه لئن أنا أدركت ذلك اليوم لا نصرن الله نصراً يعلمه ثم أدنى رأسه منه فقبل يا راسه، ثم انصرف رسول الله (ص) إلى منزله. وإنما أوردنا هذه الأمثلة ممن أشتهر بعدم عبادة الأصنام وفي السير وكتب التأريخ الكثير من هذه النماذج للتدليل على أنّ عبادة الأصنام لم تك هي العبادة المتفردة في مكة والجزيرة العربية، وأنّ هناك بقية من عبادة الله وتوحيده. كما أنّ هناك شواهد تدل على وجود بعض معتنقى الديانتين اليهودية والنصرانية، وإن كانت في مكة قليله ونادره إلا أنها تكثر في أجزاء عديدة من الجزيرة العربية كالطائف واليمن ويثرب وسواها من المناطق، ولكن الهيمنة والغلبة كانت لقريش وعبادتها للأصنام.   المصدر: مجلة الأضواء/ العدد الأول

ارسال التعليق

Top