• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العولمة ليست نقيضاً للهوية

د. عبدالعزيز بن عثمان التويجري

العولمة ليست نقيضاً للهوية

◄إنّ العولمة لا يمكن أن تكون بحالٍ نقيضاً للهوية، ولن تكون بديلة عنها. والعولمةُ بهذا المفهوم، وفي هذه الحدود، وفي إطار التنوّع الثقافي وازدهار هويات الشعوب، وفي ظل الحوار الراقي الهادف بين الأديان والحضارات، هي الخيار الإنساني المتاح والمفتوح أمام مستقبل البشرية. وهو الأمر الذي سيؤدي، بالتتابع وبتراكم التجربة، إلى تعميق الاحترام المتبادل بين الجميع.

إنّ التسامح أمرٌ لا غنى عنه للعلاقات السليمة في أي مجتمع. وعندما يتحول التسامح إلى احترام متبادل، وهي صفة أكثر إيجابية، فإنّ نوعية العلاقات ترتقي بشكل واضح. ومن ثمّ فإنّ الاحترام المتبادل يشكّل أساساً لإقامة مجتمعٍ إنسانيٍّ تعدّدي، وهو نوع المجتمعات الذي يمثّله الجوارُ العالميُّ ذاتُه، لا يتميّز بالاستقرار فحسب، بل باحترام تنوّعه الذي يُغنيه.

وإذا فقدت نظرية العَوْلمة هذا العنصر الإنساني، وعدمت هذا الأساس الأخلاقي، كانت إلى الإيديولوجية الشمولية، أقرب منها إلى النظام القانوني القابل للتطبيق لصالح البشر كافّة.

إنّ النظام القانوني الدولي لا يكون في خدمة الإنسانية، إلّا إذا قام على قواعد القانون الدولي، واستمدّ من روح الإنسانية وقيمها، مبرّرات وجوده وعناصر بقائه واستمراره. أي أنّ العولمة ذات النفع العام، لابدّ وأن تكون محكومة بقوة القانون الدولي الذي يكفل للدول سيادتها كاملةً غير منقوصة، وللإنسان حقوقه موفورةً غير مهضومة.

وهذا يقتضي العملَ بأحكام القانون الدولي، خاصة المادة الثالثة عشرة من ميثاق الأمم المتحدة التي تنصُّ على إنماء التعاون الدولي في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية، والإعانة على تحقيق حقوق الإنسان والحريات الإنسانية للناس كافة، والمادة الثالثة والسبعين التي تؤكد على كفالة تقدم شعوب العالم في شؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم، ومعاملتها بإنصاف وحمايتها من ضروب الإساءة. كلّ ذلك مع مراعاة الاحترام الواجب لثقافة هذه الشعوب.

 

التنوّع الثقافي في إطار التعاون الدولي:

إنّ حماية حقّ التنوّع الثقافي تقي بتنمية التعاون الدولي في ميادين التربية والعلوم والثقافة، في إطار العهود والمواثيق والاتفاقيات القائمة التي تحكم عمل المنظمات والمؤسسات الدولية والإقليمية، وفي الوقت نفسه، فإنّ ممارسة حقّ التنوّع الثقافي على مستوى العالم، لن تتم إلّا إذا انتعش الحوارُ بين الأديان والثقافات والحضارات ونما وتطوّر، وأدّى هذا الحوار إلى ترسيخ قيم التوافق والتعاون والتعايش بين أتباع الحضارات، وإلى تدعيم التعاون الدولي في إطار المنظمات الدولية والإقليمية القائمة والتي تشكّل في حدّ ذاتها المنظومة العالمية التي تجتمع حولها الشعوب والأُمم والدول والحكومات، والتي يتوافق عليها أتباع الأديان والثقافات والحضارات.

ولكن الحوار والتفاعل بين الثقافات والحضارات، لكي يكوّنا حواراً هادفاً مؤثراً، وتفاعلاً فاعلاً وبانياً، يجب أن يقوما على قاعدة الاحترام المتبادل، بالمعنى الأخلاقي الرفيع، وبالمدلول الحضاري السامي، كما يجب أن يقوم الحوار والتفاعل بين الثقافات والحضارات، على قواعد اجتمع البشرُ على صحتها وسلامتها، وانعقد إجماعُ الإنسانية على اعتبارها القانون الذي يحكم المجتمع الدولي، حتى يكون الحوار والتفاعل الحضاري في هذا الإطار، مستندين إلى الشرعية الدولية، وإلى قواعد القانون الدولي، التي تشكّل القواسم المشتركة بين جميع الشعوب والحكومات في عالمنا المعاصر، هي المرجيعة المتفق عليها، بينما المرجعيات الدينية والثقافية والحضارية جميعاً، هي محل اختلاف وخلاف، وموضع تنازع ونزاع، بل هي مصدرُ صراعٍ نراه نحن أبناء الثقافة والحضارة الإسلاميتين، ومن وحي هذه الثقافة وهذه الحضارة، تدافعاً بين الشعوب والأُمم، وبالتالي بين الثقافات والحضارات.

وهكذا يصير الحوار المفضي إلى التفاعل الحضاري، فعلاً إنسانياً مؤثّراً في حركة التاريخ، وعنصراً مساعداً على استتباب الأمن والسلام على الأرض، وقوة دفع لاستقرار الحياة الإنسانية، ولازدهارها، ولرقيّها.

إنّنا من واقع حرصنا على التشبّث بالهوية الحضارية وحماية الشخصية الثقافية لشعوبنا، لا نريد حواراً وتفاعلاً بين الثقافات والحضارات، هما مجرد ترف فكري، ولا نريد حواراً وتفاعلاً بين الثقافات والحضارات، لا تكون لهما انعكاسات على الواقع المعاصر، ولا تصل آثارُهما إلى دوائر صنع القرار، ولا نريد حواراً وتفاعلاً بين الثقافات والحضارات، ينطلقان من الإحساس بالتفوق العنصري، وبالاستعلاء الحضاري، ويصدر عن روح الهيمنة الثقافية.

إنّه ينبغي أن يكون هدفنا الرئيس من السعي إلى إقامة الحوار الذي ينتج عنه التفاعل الحضاري بين أهل الثقافات والحضارات، ومن هذه المنطلقات تحديداً، هو إشاعة قيم التسامح بالمعنى الراقي للتسامح، كما يفهمه المؤمنون بالله، والمؤمنون بوحدة الأصل الإنساني، وبوحدة المصير الإنساني أيضاً، وإلى ترسيخ الهوية الثقافية الحضارية.

لقد أضحى الحقّ في التنوّع الثقافي اليوم قاعدةً من قواعد القانون الدولي، وذلك استناداً إلى ميثاق الأُمم المتحدة والعهود والاتفاقيات التي تحكم علاقات التعاون الثقافي بين المجموعة الدولية. وفي كفالة هذا الحقِّ من حقوق الإنسان، تأكيدٌ على الخصوصية الثقافية لكلِّ شعب من شعوب العالم، وإبرازٌ للهويات الوطنية ذات السمات الحضارية التي تشكّل في مجموعها، الهوية الإنسانية العامة القائمة على أساس وحدة الجنس البشري، ووحدة الصفات المشتركة التي أودعها الخالقُ البارئ الطبيعةَ الإنسانية.

جاء في المادة الأولى من إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي:

1-  لكل ثقافة كرامةٌ وقيمةٌ يجب احترامهما والمحافظة عليهما.

2-  من حقِّ كلّ شعب ومن واجبه أن ينمّي ثقافته.

3-  تشكل جميع الثقافات، بما فيها من تنوُّع خصبٍ، وما بينها من تباينٍ وتأثيرٍ متبادلٍ، جزءاً من التراث الذي يشترك في ملكيته البشر جميعاً.

وليس في تنوّع الهويات وتعدّد الخصوصيات ما يتعارض وقضاء المصالح المشتركة بين الشعوب والأُمم في إطار التعاون الإنساني القائم على قاعدتَيْ التعارف والتعايش. وإنما ينطوي هذا التنوّع على عناصر تغذي الميول الإنسانية الفطرية نحو امتلاك أسباب التقدم والرقيّ بحافزٍ من التنافس الطبيعي، وبوازعٍ من التدافع الحضاري.

ومادامت الهويةُ بهذا الرسوخ في طبائع الأُمم والشعوب، فلا سبيل إلى تجاوزها، أو محوها، أو إنصهارها في بوتقة هويةٍ واحدة مهيمنةٍ ذاتِ سيطرة ونفوذ، مهما تكن الذرائع، وبلغت ما بلغت الأسباب والدوافع، فليس في ذلك فقط خروج على طبيعة الأشياء، وتمرد على سنن الكون وفطرة الحياة، وإنّما في محاولة إلغاء هويات الشعوب بالقهر والقسر والإكراه، خرقٌ للقوانين المتعارف عليها عند البشر، ومسٌّ خطير بقواعد القانون الدولي، وتهديدٌ للأمن والسلم والاستقرار في العالم.

 

المصدر: كتاب الحوار من أجل التعايش

ارسال التعليق

Top