• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الفن الرمزي.. علامات لها بصمة

د. عبدالرحمن بدوي

الفن الرمزي.. علامات لها بصمة
الرمز بوجه عام هو موجود خارجي معطى للعيان المباشر، لكنه لا يقصد به أن يفهم كما هو في وجوده الواقعي المباشر، بل ينبغي أن يفهم بمعنى أوسع وأعم. ولهذا ينبغي أن نفهم من "الرمز" أمرين: المعنى، ثمّ التعبير عن المعنى. والمعنى تصورٌ أو موضوع يستوي أن يكون موضوعه أيّ شيء كان؛ أما التعبير فهو وجود محسوس أو صورة من أي نوع كان. والرمز علامة. لكن الرابطة بين المعنى وبين التعبير عنه قد تكون أيّ شيء كان. فرسم الحروف في اللغة لا شأن له بمعاني الكلمات، بل يمكن أن يكون الرسم بأي شكل كان. وقد يكون هناك تطابق جزئي بين الشكل والمعنى: فالأسد – مثلاً – رمز للقوة، والثعلب رمزٌ للمكر، والدائرة رمز للسرمدية، والمثلث رمز للتثليث. والأسد والثعلب يملكان الصفات التي هما رمز لها ويعبران عنها لكن الدائرة في ذاتها لا تملك اللامحدود. والمثلث بوصفه كُلاً يملك العدد من الأضلاع ومن الزوايا الذي يفترضه الدين المسيحي في الله. وفي هذه الأضرب من الرمز ليس الرمز أيّ شيء كان، بل ثمّ ارتباط بين العلاقة وبين المعنى الذي تشير إليه. وفي مقابل ذلك نجد أيضاً عدم تطابق جزئي بين الشكل والمعنى: فالأسد ليس قوياً فقط، والثعلب ليس ماكراً فقط، والله له صفات أخرى غير التثليث. ثمّ إنّ للمضمون العيني تحديدات عديدة، تتخذ أشكالاً عديدة. والمعنى الواحد قد يتخذ رموزاً شكلية عديدة، كما أنّ الشكل الواحد قد يتخذ معاني عديدة، ولهذا فإنّ القوة مثلاً يرمز إليها بالكثير من الرموز: الأسد، الثور، والقرن، إلخ. ويمكن اتخاذ رموز كثيرة للتعبير عن الله أو الألوهية. ومن هنا كان الرمز مشككاً، أي لا تواطؤ في تفسيره. كذلك تصعب معرفة هل الشكل ينبغي أن يفسّر رمزياً، أو حرفياً. فمثلاً حين يقول مارتن لوثر: "حِصْنٌ حصين ربُّنا" أو حين يقول الشاعر: "في البحر المحيط يبحر الشاب بآلاف الشراعات، والعجوز يسوق إلى الميناء زورقاً ناجياً بهدوء" فإنّ معنى الاحتماء في الحصن، وعالم الآمال والخِطط في صورة البحر المحيط وآلاف الشراعات – لا يدعو إلى الشك، بل هو جليّ بوضوح. كذلك حين يقول "العهد القديم" (من الكتاب المقدس): "كسِّرْ اللهم أسنانهم التي في أفواههم؛ أي: يهوا! انتزع الأنياب من الأشبال" – فإنّ المرء يدرك في الحال أنّ الأسنان، والفم وأنياب الأشبال لا يقصد منها المعنى الحقيقي، بل هي صُوَر مجازية، وإنّما المقصود هو المعنى الذي تعبر عنه. ويتجلى تشكيك المعنى في الأساطير (الميثولوجيا) على أوضح وجه. فالأساطير يجب أن تؤول تأويلاً رمزياً. ولئن كانت تحفل بالغرائب واللامعقول والشواذ، فإنها مع ذلك تحتوي على معانٍ وأفكار خاصة بطبيعة الله، ومضامين فلسفية. وبهذا المعنى قام فريدرش كرويتسر Creuzer (1771-1858) في كتابه: "رموز وأساطير الشعوب القديمة، خصوصاً اليونان" (سنة 1810 وما يليها) بإثبات أنّ التصورات الأسطورية للشعوب القديمة يجب ألا تفهم بالمعنى العادي المبتذل أو بحسب قيمها الفنّية، بل ينبغي أن يبحث عما فيها من معقولية في المعاني. ذلك أنّه يرى أنّ الأساطير والحكايات الخرافية أصلها في الروح الإنسانية، وأنها المدخل إلى دائرة الدين، على الرغم مما فيها من نقص وافتقار إلى العَرْض السليم. لكن هل نستنتج من هذا أنّ كل الأساطير والفنون ينبغي أن تفهم فهماً رمزياً، كما ادعى فريدرش فون اشليجل، حين قال إنّ علينا أن نبحث عن الرمز في كل عَرْض فنّي؟ إنّ هذا اتجاه انتشر كثيراً في العصر الحديث. ومثال ذلك ما نجده في الطبعات الحديثة من "الكوميديا الإلهية" لدانته اليجيري Dante من تفسير كل نشيد فيها تفسيراً رمزياً. لكن هيجل لا يريد أن ينساق في هذا التيار، وإنما يكتفي بالبحث في هذه المسألة: إلى أيّ حد يعد ما هو رمزي شكلاً فنياً؟ وبعبارة أخرى: ما هو الشكل الفني الذي يمكن أن يعد رمزياً؟ ويجيب عن هذا السؤال فيقول: "إنّ ما هو رمزي – بالمعنى الذي نقصده من هذه الكلمة – ينتهي هناك حيث الفردية الحرة تتخذ مضمون وشكل العرض، بدلاً من التصورات العامة المجردة. ذلك لأنّ الذات هي المهمة لذاتها وهي التي تشرح نفسها بنفسها. فهي حين تشعر، وتفكر، وتفعل، وتنتج صفاتها وأفعالها وأخلاقها – تكون هي هي ذاتها؛ وكل دائرة ظهورها الروحي والحِسّي لا معنى لها إلا الذات. والذات في نشرها لذاتها تكون سيدة على كل موضوعيتها وتعبر عنها. والمعنى والعرض الحِسّي، والباطن والظاهر، والشيء والصورة لا ينفصل بعضها عن بعض، ولا تتجلى كمجرد شيء ذي نَسَب وقرابة، بل على شكل كلٌ واحد، فيه لا تكون للظاهرة ماهية أخرى، وليس للماهية ظاهرة أخرى خارجها أو إلى جوارها. فما تجلى والتجلي يكونان وحدة واحدة عينية. وبهذا المعنى فإنّ الآلهة اليونانيين، بقدر ما يصورهم الفن اليوناني على أنّهم أفراد أحرار مستقلون قائمون بذواتهم – ينبغي ألا يعدو مجرد رموز أو أن يفسّروا رمزياً، بل هم يَكفون أنفسهم بأنفسهم".   مراحل الفن الرمزي: ولقد مرّ الفن الرمزي بمراحل: إذا يبدأ الفن، من الناحية الذاتية، بالدهشة، شأنه شأن المعرفة الإنسانية بوجه عام، كما قال أرسطو. ذلك أنّ الإنسان لا يُدْهِشه شيء هو إنسان يعيش في الجهالة والضباب: لا يشوقه منه شيء، ولا يميز نفسه عن الموضوعات التي تحيط به. أما إذا شعر بالدهشة، فإنّه يشعر بأنّه موجود في مواجهة الطبيعة والموضوعات. فيوقر قوة الطبيعة، ويجد فيها ما يشبع حاجاته، ويبدأ الفن بأن يدرك الطبيعة في صورة. أما من الناحية الموضوعية فإنّ بداية الفن مرتبطة بالدين. والأعمال الفنية الأولى ذات طابع أسطوري. وفي الدين يتجلى الوعي بالمطلق. وأول تجلٍ للمطلق هو ظواهر الطبيعة، ففي وجودها يشرح الإنسان معنى المغلق والتعبير عنه. والغاية التي يسعى إليها الفن الرمزي والتي بالوصول إليها ينحلّ من حيث هو رمزي – هو الفن الكلاسيكي. وهذا الأخير، على الرغم من أنّه يحقق الظهور الفني الحقيقي فإنّه لا يمكن أن يعد الشكل الفني الأوّل؛ إنّه يفترض مقدماً المراحل الوسطى والانتقالية للفن الرمزي ذلك أنّ مضمونه المطابق لجوهره هو الفردانية الروحية، التي يمكن أن تتجلى كمضمون وشكل للمطلق وللحقّ بعد المرور بوسائط ودرجات انتقالية متعددة. إنّ البداية يمثلها دائماً ما هو مجرد وغير محدد من حيث المعنى. أما الفردانية الروحية فلابدّ لها أن تكون في جوهرها عينية لذاتها وفي ذاتها. إنها التصور الذي يحدّد نفسه بنفسه في واقعة، هذا التصور الذي لا يمكن أن يُدْرَك إلا بعد أن يتخلص من الجوانب المحددة. فإن تمّ ذلك، فإنّه يضع حدّاً لتلك التجريدات وذلك بفضل ظهوره على شكل كلية Totalitat أو تلك حالة الفن الكلاسيكي. إنّ ما يميّز الفن الرمزي جوهرياً – لأنّه يستهلك نفسه في محاولات باطنة للوصول إلى تصورات محضة وحالة من الامتثال مناسبة له – هو الصراع بين المضمون (أو: الأساس) الذي لا يزال يتعارض مع المفهوم الحقيقي للمثل الأعلى وبين الشكل الذي لم يعد متجانساً معه. ذلك لأنّ هذين العنصرين: المضمون والشكل، وإن امتزجا لتكوين كل واحد أحد، لا يتفقان فيما بينهما ولا مع المفهوم الحقيقي للفن؛ وتبعاً لذلك هما يتجهان إلى قطع هذا الاتحاد الناقص. ومن هذه الناحية نستطيع أن نعد الفن الرمزي كله أنّه يمثل الصراع المستمر بين هذين العنصرين اللذين للفن، واللذين يسعيان دون جدوى إلى الاتفاق؛ والدرجات المختلفة لتطوره لا تمثل أنواعاً مختلفة للرموز بقدر ما تمثل المراحل المختلفة والأحوال المتوالية لهذا الصراع بين العنصر الروحي وبين الشكل الحِسّي. والفكرة التي يقوم عليها مبدأ الفن الرمزي يناسبها طريقة التمثل التالية: فالأشكال المحددة للطبيعة، والأفعال الإنسانية لا تمثل. ولا تعبر عن ذواتها وطابعها الخاصة فقط. كما أنّها لا تصور المبدأ الإلهي على أنّه حاضر ومرئيّ؛ وإنما يجب عليها أن تلمّح إليه بصفاتها التي لها نسب وتشابه بهذه الفكرة. ولهذا فإنّ الديالكتيك العام للحياة: المبدأ، النموّ، الموت، والبعث – يكوّن الأساس المتلائم للشكل الرمزي بالمعنى الصحيح، لأنّه في كل ممالك الطبيعة ومراحل الحياة الإنسانية توجد ظواهر لها نفس التطور كمبدأ لوجودها. ولهذا فإنّ هذه الظواهر يمكن أن تستخدم لإبراز هذه الفكرة للحواس وجعلها مفهومة؛ إنّ بين العنصرين: المضمون والشكل قرابة حقيقية. فالنبات يخرج من الحبّ، وينمو، ويزهر ويحمل الثمار، والثمرة تفسد وتنتج نباتاً جديداً. كذلك الشمس تنزل في الأفق إبان فصل الشتاء، وتصاّعد إبان الربيع، حتى تبلغ في الصيف ذروة مجراها. إنها تنشر نِعَمها حينئذ على الأرض، أو تحدث أشعتها المحرقة تأثيراً ضاراً أو مدمّراً؛ لكنها بعد ذلك تدخل في مرحلة الانحلال والانحراف. وبالمثل تختلف الأعمار في الحياة: الطفولة، والشباب، والرجولة، والشيخوخة – تمثل نفس المراحل المتوالية. وهذه الفكرة تجد لها مسرحاً مناسباً كل المناسبة في بلد بعينه هو مِصْر: إنها تمثل في ظواهر فيضان النيل ونقصانه. والرموز تنطلق من الواقع المتجلي في الطبيعة ثمّ تتوسع في فهم هذا الواقع، فتجعله يعبّر عن أفكار معنى بالاستعانة بالمماثلة وقياس النظير. إنّها تبدع حينئذ عملاً روحياً يبهر الحواس ويكشف للوعي عن فكرة كلية كامنة في ظاهرة جزئية. وهذه التمثيلات لا تكون بعدُ الشكلُ الحقيقي المطابق المناسب للروح، لأنّ الفكرة ليست بعدُ واضحة وليست الروح بعدُ حرة. ومع ذلك فإنها أشكال ميزتها أنها تبيّن أنها لم تُخْتَر لتتجلى بنفسها؛ وإنما الهدف منها هو أن تمكن من استبصار أفكار عميقة. إنّ أمامنا مظهراً مادياً بسيطاً؛ أما العمل الفني الرمزي – سواء أقدّم أمام عيوننا ظواهر الطبيعة، أم حاكى الشكل والأفعال الإنسانية – فإنّه يمثل شيئاً آخر وهو: أفكار لها شبه وقرابة باطنة مع هذه الصور المرئية وعلاقة جوهرية معها. ولقد استعملت الأعداد كرموز في الفن. فمثلاً العدد 7 والعدد، 12 يردان كثيراً في المعمار المصري، لأنّ 7 هو عدد النجوم، ولأنّ 12 هو عدد القمر، أو عدد الأذرع التي يجب أن يرتفع إليها ماء النيل كيما ينشر الخصب في مصر. وفيما بعد عد العدد 12 عدداً مقدساً، لأنّه يحدد العدد في القوانين الكبرى للعالم، والتي توقّر بوصفها قوى الحياة العامة في الطبيعة. وراموز الأعداد هذا قد امتد إلى أساطير أكثر تقدّماً: فمثلاً، أعمال هرقل الاثنا عشر يبدو أنها على ارتباط بأشهر السنة الاثني عشر. صحيح أنّ هرقل هو البطل مشخّصاً في شكل إنسان؛ لكنه يمثل أيضاً معنى مادياً رمزياً إنّه تشخيص لمجرى الشمس. أما الأشكال الرمزية المرسومة في المكان فإنها أقل تجريداً: فمثلاً: منحنيات التيه كرمز للمسار الدائري للنجوم. كذلك الرقصات المقدسة لها معنى مستسر: إنها تمثل، رمزياً، حركات الأجرام السماوية الكبيرة.   الفن المصري أكمل الفنون الرمزية: "وعلينا أن نجد المثل الأكمل لتصور الشكل الرمزي في مصر. إنّ مصر هي أرض الرمز الذي يهدف إلى اكتناه الروح بذاتها، دون أن يبلغ ذلك في الواقع. ذلك لأنّ المشاكل ظلت بدون حل، وكل الحل الذي نستطيع أن نقدمه لها يقوم في معرفة أنّ ألغاز الفن المصري كانت ألغازاً بالنسبة إلى المصريين أنفسهم. لكن المصريين هم، مع ذلك الشعب الفنان حقاً، لأنّ الروح عندهم – وإن كانت لا تزال حبيسة الواقع الخارجي، فإنها تقوم بمجهود وتبذل نشاطاً لا يعرف التعب من أجل إشباع هذه الحاجة التي تعنّيه: الحاجة إلى التعبير عن فكرة في الخارج بواسطة ظواهر طبيعية، وتشكيل هذه كيما نصنع منها موضوعات للعيان، لا للفكر. بيد أنّ آثارهم الفنية تبقى مستسّرة وصامتة، وبدون صوت ولا حركة، لأنّ الروح هاهنا لم تعثر بعد على الحياة الملائمة لها، ولا تعرف بعدُ الكلام بلغة واضحة ومعقولة للروح. ومصر تتميز بهذه الحاجة وهذا الميل القويّ للروح التي تسعى – دون أن ترضي نفسها – إلى التجلي، بواسطة الفن، على نحوٍ لا يزال صامتاً، وإلى إعطاء شكل للباطن، وإلى الوعي – بواسطة أشكال خارجية ملائمة – بحياتها الباطنة وبالحياة الباطنة بوجه عام.   الأهرام: والأهرام تحت أعيننا أبسط صورة للفن الرمزي نفسه. إنها بلورات هائلة تحتوي في داخلها على شيء مستور تحيطه بشكل خارجي نتيجة الفن؛ حتى إنها لتبدو كما لو كانت لا يقصد بها إلّا أن تكون غلافاً لذلك الباطن مجرداً من خصائصه الطبيعية المحضة، ولا معنى لها إلا من حيث علاقتها بهذا المحتوى.   عبادة الحيوان: لكن لما كان الباطن لابدّ أن ينكشف للحواس وأن يتجلى في الطبيعة، فإنّ المصريين وقعوا في الطرف الأقصى المضاد، أعني أنهم وقعوا في قبضة عبادة الوجود الإلهي الكامن في الكائنات الحية مثل الثور، والقط، وحيوانات أخرى كثيرة. إنّ للكائن الحسي طبيعة أسمى من تلك التي للوجود اللاعضوي، لأنّ الكائن العضوي الحيّ يحتوي على قوة باطنة تتجلى في شكله الخارجي. لكن هذا المبدأ يظل باطناً، وتبعاً لذلك فإنّه أمر غامض ومستسّر، وهكذا ينبغي أن نفهم عبادة الحيوانات ها هنا على أنّها تأمل لمبدأ باطن يسري في الكائنات، إنّه القوة الأسمى من الوجود المادي.   أسطورة أوزيريس: ولد أوزيريس ثمّ مات مقتولاً، قتله تيفون. لكن أوزيريس يبحث عن عظامه المبعثرة، ويجمعها، ثمّ يدفنها. ومغزى هذه الحكاية الخاصة بالإله معنى هو أولاً كوني وفيزيائي. ذلك أنّ أوزيريس هو – أوّلاً – الشمس، وحكايته رمز للدورة السنوية لهذا النجم. ومعنى هذه الحكاية ثانياً هو فيضان ونقصان مياه نهر النيل الذي ينبغي عليه أن ينشر الخصوبة في مصر. وأوزيريس – من ناحية أخرى – يمثل الإنسان وتاريخه. أنّ أوزيريس يُعْبَد بوصفه مخترع الزراعة، وتقسيم الحقول، والملكية، والقوانين؛ وعبادته ترتبط إذن بأحداث الحياة الإنسانية، ذات الارتباط الوثيق بالأخلاق والقانون. كذلك أوزيريس هو القاضي الذي يحاكم الموتى، وهو بهذا يتخذ معنى يتخلص تماماً من الطبيعة التي ينتسب إليها الرمز دائماً في بدايته. وهاهنا نجد أنّ الروح تعدّ هي ماهية وجوهر الشكل الإنساني الذي يبدأ في تمثيل باطنه الخاص. لكن الروح، في تطورها التدريجي، تصير بدورها صورة للحياة الكونية؛ وهي تمثلها على نحوٍ خارجي تماماً في بناء المعابد، وعدد السلالم وعدد درجات هذه السلالم، وعدد الأعمدة، وعدد الأتاويه (جمع: تيه) وما فيها من طرقات وثنايا وحجرات. وهكذا نجد أنّ أوزيريس، في مختلف أوجه وجوده، هو الحياة في الطبيعة كما أنّه الحياة في عالم الروح. وأشكاله الرمزية تمثل – جزئياً – عناصر الطبيعة، بينما ظواهر العالم الفيزيائي تستخدم رموزاً للأفعال الأخلاقية. وينتج عن هذا أنّ الشكل الإنساني لم يَعُد – كما هي الحال في الفن الهندي – مجرد تجسيد وتشخيص؛ ذلك لأنّ الظاهرة الفيزيائية، هاهنا – مع احتفاظها من هذه الناحية بمعنى حقيقي، قد استخدمت من ناحية أخرى كرمز للروح، وفي هذا الشكل الفني الذي فيه تسمو بالروح على الطبيعة، تمثل طابعاً تابعاً. ولهذا فإنّ الشكل الإنساني يبدأ في الكمال واتخاذ مظهر آخر مختلف تماماً. إنّه يكشف في ذلك الميل إلى السمّو وإلى التروحن، وإن كان هذا المجهود لا يصل بعدُ إلى هدفه وهو حرية ما هو روحيّ في ذاته. وبسبب هذا الخلو من الحرية، فإنّ الشكل الإنساني يبقى بعدُ بدون تعبير حقيقي، وبدون وقار، إنّه يظل عملاقاً، جادّاً، متحجراً، والسيقان، والأذرع والرأس لا تَتَخلّص من باقي الجسم. إنها مثبتة، مضمونة، بدون رشاقة ولا حركة ولا حياء. وينسب إلى ديدالوس Dedale أنّه كان أول من خَلّص الأذرع والأقدام، وأول من أشاع الحركة في الجسم.   أبو الهول: ونحن اليوم ربما نذهب بعيداً جدّاً في تأويل معاني هذه الرموز، لأنّ كلّ هذه التمثيلات تقريباً تتجلى لنا اليوم على أنّها رموز. لكن ربما كان معناها مفهوماً عند المصريين. إنّ الرموز المصرية تحتوي ضمنياً على الكثير من المعاني، لكنها صراحةً لا تحتوي إلا على القليل. إنّ آثار الفن المصري، في رمزيتها الملأى بالأسرار، تكوّن لغزاً هائلاً هو اللّغز الأكبر. ويمكن أن نقدم تمثال "أبو الهول" على أنّه الرمز على هذا الطابع الخاص بالروح المصرية. إنّ أبا الهول هو في الوقت نفسه رمز الرمزية نفسها. وتوجد في مصر أعداد لا حصر لها من آباء الهول التي تتوالى بعضها في إثر بعض؛ وهي مصنوعة من حجر صلب جدّاً ومصقول، وتغطيها الكتابات الهيروغليفية. وفي القاهرة (وهو يقصد أبا الهول المجاور للأهرام في الجيزة) يوجد تمثال لأبي الهول في غاية الضخامة، ومخالبه التي تُشبه مخالب الأسد تتجاوز في الطول قامة رجل. إنّ آباء الهول هذه لها أجسام حيوانات جاثية، جزؤها العلوي منتصب، ويعلوه أحياناً رأس كبش، وفي العادة يعلوه رأس امرأة. إنّ روح الإنسان تبذل جهدها للخروج من الشكل الغليظ الفنّي الذي للحيوان، دون أن تصل إلى تمثيل كامل للحرية، وإلى شكل مليء بالحياة والحركة، لأنّ عليها أن تظل بعدُ ممزوجة ومشتركة مع عناصر أجنبية. وهذا الميل إلى الروحانية الواعية بذاتها، لكنها لا تدرك بعدُ. صورتَها الكاملة في موضوع واقعي – لا تتأمل نفسها إلّا في أشياء ذات قرابة معها، مع بقائها أجنبية – نقول إنّ هذا الميل هو الرمزية ذاتها التي متى وصلت إلى آخر درجاتها صارت هي اللغز. وبهذا المعنى فإنّ الاسفنكس، في الأسطورة اليونانية، والذي نستطيع بحق أن نفسره رمزياً – يبدو على شكل الوحش الذي يقترح ألغازاً. لقد وضع الاسفنكس هذا السؤال المُلْغِز: مَنْ ذا الذي في الصباح يمشي على أربع أقدام، وفي الظهر على اثنتين، وفي المساء على ثلاث؟ وقد وجد أوديب هذا الحلّ البسيط جدّاً: إنّه الإنسان، وألقى بالوحش من أعلى الصخور. وتفسير الرمز موجود في "الصورة" Idee التي توجد في ذاتها وتعي ذاتها: أعني في الروح. وعلى هذا النحو فإنّ النقش اليوناني المشهور يقول للإنسان: "أعرف نفسك بنفسك". إنّ نور الوعي هو الشعلة التي تمكن من إدراك "الصورة" Idee من خلال الشكل المحسوس الملائم لها كلّ الملاءمة، وفقط في هذا الوجود الخارجي تتجلى الروح لنفسها.   المسلة: ومن أبرز أنواع المعمار في مصر: المسلّة. وهي تكوّن حلقة وسطى بين المعمار وبين النحت. إنها لا تستمد شكلها من الطبيعة العضوية الحية، ولا من المملكة النباتية أو الحيوانية أو من شكل الإنسان، ذلك لأنّ شكلها منتظم تماماً. ثمّ إنّه لا يقصد منها أن تكون مقرّاً أو معبراً. إنها تبدو بشكل حرّ ومستقل، وتستمد معناها من أشعة الشمس. وبلنيوس Plinius (التاريخ الطبيعي.. 36: 14، 37: 8). قد نسب هذا المعنى إلى المسلّة. ذلك أنّ المسلّات كانت مكرّسة لإله الشمس الذي منه تلقت الأشعة التي كانت عليها أن تمثلها في الوقت نفسه.   تمثالا ممنون: وتمثالا ممنون، في مدينة طبية، كان لهما شكل إنساني. وقد شاهد اسطرابون Strabon واحداً منهما لا يزال محتفظاً بشكله تماماً، وكان منحوتاً من حجر واحد بينما الآخر الذي كان يرنّ عند طلوع الشمس فإنّه لم تكن له هذه الخاصية آنذاك إذ كان قد فقدها. لقد كانا شكلين إنسانيين عملاقين جالسين، وكانا من الفخامة والتكتل بحيث ظهرا غير عضويين ومعماريين أخرى من أن يكونا تمثالين منحوتين. وتبعاً لما يقوله هرت Hirt ("تاريخ العمارة"، جـ1، ص69) فإنّ التمثال العملاق الذي كان يرنّ، والذي قاله عنه باوسنياس Pausanias إنّ المصريين كانوا يعتبرونه صورة لفمنوف Phamenoph، لم يكن يمثل إلهاً، بل كان بالأحرى يمثل ملكاً مثل أوسومندياس Osymandias وغيره. ومع ذلك فينبغي أن ينظر إلى هذه التماثيل على أنها تمثل شيئاً عاماً. لقد كان المصريون والأحباش يعبدون ممنون، ابن الفَجر، وكانوا يقدمون إليه القرابين في الوقت الذي كانت فيه الشمس ترسل أول أشعتها التي بتأثيرها كان التمثال يرنّ ويتكلم من أجل تحية العابدين. وهكذا فإنّ أهمية هذا التمثال الرنّان لا تأتيه فقط من شكله، بل وأيضاً من طبيعته الحية، ذات الدلالة والمعنى والكشف، والغارقة في الرموز.   المصدر: كتاب فلسفة الجمال والفن عند هيجل

ارسال التعليق

Top