• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإِمام الحسين (ع).. رؤية نصرانّية

حسن السعيد

الإِمام الحسين (ع).. رؤية نصرانّية
◄إذا جاز لنا أن نتساءل: -        ماذا يمثّل الإمام الحسين.. في بُعْدِه الإِنساني؟ وماذا يحتل في الوجدان الإنساني (خارج إطاره الإسلامي)؟. الجواب يستدعي منا أن نستقرئ التاريخ، لكي نقف على المديات البعيدة، والآفاق الواسعة لدور الإمام الحسين في حركة التاريخ، وكيف أنه ترك بصماته، بشكل واضح، في أكثر من منحنى، وعند أكثر من منعطف، أَلَقَاً تتطلّع إليه عيون الثوار وإشراقاً ترنو إليه أبصار المقهورين، ومناراً تهفو إليه قلوب عشّاق الحرية، والكرامة، والمبادئ. إنّ الحقائق الإنسانيّة تفرض نفسها على العموم، لأنّها قضايا فطرية مشاعة بين الناس[1] وانطلاقاً من هذه الحقيقة فإنّ الحسين بن علي (ع) قمة من قمم الإنسانيّة الشامخة، وعملاق من عمالقة البطولة والفداء. .. إننا لا يمكن أن نلج آفاق العظمة عند الإمام الحسين (ع) إلاّ بمقدار ما نملك من بُعد في التصوّر، وانكشاف في الرؤية، وسموّ في الروح والذات.. كانت تضحيته عليه السلام ذروة الفيض والعطاء.. فيوم في دنيا البطولات خالد.. ذاك يوم الحسين (ع)، ويوم في دنيا الأحزان خالد.. ذاك يوم الطفوف.. إنها مأساة التاريخ تكاثفت عوامل الضلال على مرّ الزمن فبلغت ذروتها يوم كربلاء، وكان ضحيتها بنو الزهراء.. كان الحسين (ع) أعظم قربان تشهده مذابح الفضيلة.. دم جرى على رمال كربلاء، فكان نبضاً دافقاً، يملأ قلب الزمن، وروحاً نقيّة تنسكب في عروق الحياة.. وقبساً مشرقاً في كلِّ ضمير"[2].   مهوى الأفئدة: ولهذا ليس من المستغرب أبداً أن يدخل حبّ أهل البيت – بلا استئذان – إلى أفئدة أحرار العالم – على اختلاف مشاربهم وتباين مساربهم – سواء في الصور الخوالي، أم في وقتنا الحاضر. ففي عصرنا الحديث، تبرز لنا أسماء لامعة – في دنيا الأدب والمعرفة – وفي منطقة محدودة كالشام، ارتفع أصحابها إلى سموّهم الإنساني، وتجاوزوا ضيق الأفق الذي أريد لهم أن يظلوا أسارى وهمه، فانطلقوا يتغنون بأمجاد آل محمد، رغم كونهم نصارى...! ومن الانصاف أن نشير – في هذا الصدد – إلى شهادات "جورج جرداق"[3] و"سليمان كتاني"[4] و"روكس بن زائد العزيزي"[5].. و"مارون عبود"[6]، و"انطون بارا"[7]... وغيرهم. ولم يقف العشق الإنساني – بشقه غير الإسلامي – عند ذوي العلم والمعرفة، بل لم يُستثنَ من ذلك حتى بعض الساسة والقادة، وهذا باني الهند الحديثة "غاندي" يقولها وهو الهندوسي: تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر... ولو كان لي عشرة رجال من أصحاب الحسين لفتحت الدنيا..   شهادات.. لها دلالات: ولا عجب، فكما أنّ حبّ الحسين أجنّ بعض انصاره من الأولين، كذلك فإنّ حبه لا يزال يجن انصاره من الآخرين، وبعضاً من طلّاب الحقيقة وعشاق الحرية الحمراء، من خارج النطاق الإسلامي..! وفي هذا السياق نكتفي بايراد شهادتين من الأمس البعيد، احداهما ليهودي والثانية لنصراني، تنطوي كلّ منهما على دلالات ضخمة دونها أنّ للإمام الحسين (ع) بُعداً إنسانياً مشرقاً، ظلّ يتألق، رغم محاولات الطمس والتزوير، والتجهيل والترهيب! ابن لهيعة عن أبي الأسود قال: لقيت رأس الجالوت[8] فقال: إنّ بيني وبين داود سبعين أباً، وإنّ اليهود إذا رأوني عظّموني وعرفوا حقي وأوجبوا حِفْظي، وإنه ليس بينكم وبين نبيّكم إلاّ أبٌ واحد قتلتم ابنه[9]!. ولما جيء برأس الحسين (ع) مع السبايا إلى الشام ووصلوا إلى بعض المنازل نصبوا الرأس على رمح إلى جنب صومعة راهب، وفي أثناء الليل سمع الراهب تسبيحاً وتهليلاً، ورأى نوراً ساطعاً من الرأس المطهر، وسمع قائلاً يقول: السلام عليك يا أبا عبد الله، فتعجب حيث لم يعرف الحال وعند الصباح استخبر من القوم فقالوا: انّه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، وأُمه فاطمة بنت محمد النبي (ص). فقال لهم: تبّاً لكم أيتها الجماعة صدقت الأخبار في قولها إذا قُتل تمطر السماء دماً. وأراد منهم أن يقبّل الرأس فلم يجيبوه إلاّ بعد أن دفع لهم دراهم، ثم أظهر الشهادتين وأسلم ببركة المذبوح دون الدعوة الإلهية. ولما ارتحلوا عن هذا المكان نظروا إلى الدراهم وإذا مكتوب عليها: (.. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[10] (الشعراء/ 227). وتبقى شهادة "وهب بن عبدالله الكلبي" من نمط آخر، إذ عمّدها بالدم المسكوب على ثرى الطف، فامتزج بدماء سيّد شباب أهل الجنّة وأنصاره رضوان الله عليهم أجمعين. وفيما تذكر الروايات أنّ هذا الشاب قتل يوم عاشوراء مع أبيه وأُمّه، تؤكد – في الوقت نفسه – على أنه كان نصرانياً فأسلم[11].   وفي زماننا.. نصراني يبكي الحسين: ومالنا نذهب بعيداً، وفي عصرنا الحاضر أيضاً مَنْ يبكي الحسين من النصارى. وهذا هو الصحفي اللبناني "حافظ إبراهيم خير الله" الذي عزم أن يردّ لهفته ويشبع رغبته بزيارة الحرم الحسيني في كربلاء، والحرم العلوي في النجف، وحين رآهما اجتاحت نفسه انفعالات عارمة، سجلها في مقال جذّاب أخّاذ، يضع القارئ في نفس الجو والمناخ، ويريه الصورة الواقعية، ويثير في نفسه كلّ ما اختلج في قلب الكاتب واحشائه تماماً كما لو كان إلى جنبه يرى ما رأى، ويسمع ما سمع، وفيه من جملة ما فيه: "الرعشة لا بدّ منها.. إطلال مآذن كربلاء من بعيد.. والمقبل إلى العتبات المقدّسة في العراق يرتعش لأنه مكان محجته.. دخلت إلى مقام الحسين فصعقت وذهلت.. هو ذا منْ استشهد فأصبح رمزاً للإِنتفاض على الظلم، هو ذا منْ استشهد في سبيل العدل وترك الملايين تتطلع إليه مثالاً للإنسان الذي أفنى جسده في سبيل الكمال البشري.. المسألة لم تتحمل علامات استفهام.. بعد ربع ساعة وجدت نفسي أبكي ثم أبكي ثم أبكي"[12].   ملهم الشعراء: وإلى جانب ذلك، نجد أنّ مأساة الإمام الحسين (ع) وقف إزاءها العديدون بإجلال وإكبار واندهاش، وخاصة الشعراء لما يتّسمون به من إحساس مرهف. وقد أقضّت هذه المصيبة مضاجع اُباة الضيم، فنظرة سريعة إلى ما تركه لنا الشعراء من أحاسيس رقيقة تنم عن فرط تأثرهم البالغ، نقف على حقيقة التأثير العميق الذي حفرته واقعة الطف في أخاديد حركة التاريخ. وهكذا ضمّ ديوان "أدب الطف" بين دفتيه خزيناً ضخماً من الروائع ولكبار الشعراء أمثال: الكميت بن زيد الأسدي، الحميري، دعبل الخزاعي، الشريف الرضي.. وفي القرن الماضي كان حيدر الحلي شاعر أهل البيت بلا منازع. وفي عصرنا هذا لا نعدم قصائد تُعدّ من غُرر الشعر قيلت بحق الإمام الحسين، وهنا نشير – على سبيل المثال لا الحصر – إلى رائعتين، طالما يرددهما المرددون، وهما قصيدة "آمنت بالحسين" للشاعر، الجواهري، وقصيدة "الدمعة الخرساء" للشاعر بدر شاكر السياب[13]. وهذا الشاعر الألباني "نعيم فراشري" يسجل في ملحمة "كربلاء" التي أصدرها عام 1898 في عشرة آلاف بيت من الشعر، الحضور الكربلائي في الأدب الألباني الحديث[14]. ولم يقتصر حبّ الحسين، والتعاطف معه – كموقف – على المسلمين وحسب، وإنما تعداهم إلى حيث الأفق الأرحب، والبعد الإنساني الأوسع، وما يُقال عن الأُدباء المسلمين يُقال أيضاً عن بعض الأدباء النصارى ممن صوّروا ملحمة الطف الدامية، واعلنوا تضامنهم مع الموقف الحسيني، وشجبهم للموقف المضاد، وراح بعضهم يتباهى بـ "علويته" رغم نصرانيته! كما فعل الشاعر اللبناني "بولس سلامة" وهو يخاطب الإمام علياً (ع): يا أمير الإسلام حسبي فخراً *** انني منك مالىءٌ اصغريّا جلجل الحقٌّ في المسيحي حتى *** عُدّ من فرط حبِّه علوياّ ويقول أيضاً: لا تقُلْ شيعةٌ هواة علي *** إنّ في كل منصف شيعيّا إنما الشمسُ للنواظر عيدٌ *** كلّ طرف يرى الشعاع السنيّا[15]   الكهف الأزلي: ويطول الكلام في هذا المقام، وتحضرنا تجارب رائدة لشعراء نصارى، أبرزهم: عبد المسيح الأنطاكي[16] صاحب "الملحمة العلوية" في مدح آل البيت (عليهم السلام)، وادوار مرقص، وحليم دموس[17]، وبولس سلامة صاحب "ملحمة الغدير". ولضيق المجال، سنقصر الحديث حول الملحمة الأخيرة، على أمل أن تُتاح فرصة أُخرى – إن شاء الله – للتطرق إلى الأُولى. وربّ معترض يقول: ما علاقة حديث "الغدير" العلوي بمصرع "الطف" الحسيني؟! الشاعر بولس سلامة التفت إلى هذا المعنى، فاشار في مقدمة ملحمته "عيد الغدير" إلى أنّ العنوان لا يستوعب الموضوع، فليس (حديث الغدير) سوى فصل من هذا الكتاب الذي مداره (أهل البيت) في أهم ما يتصل بهم، من الجاهلية إلى ختام مأساة كربلاء[18]. جدير ذكره أنّ الشاعر ادمج بعض قصيدته (علي والحسين) في الملحمة التي كان الأب والابن محورها الأساس. والشاعر يؤكد هذه الحقيقة حينما يقارن علياً (ع) بالأبطال الغابرين الذين (لم يجتمع لواحد منهم ما اجتمع لعلي من البطولة والعلم والصلاح. ولم يقم في وجه الظالمين أشجع من الحسين، فقد عاش الأب للحقِّ وجرّد سيفه للذياد عنه منذ يوم بدر، واستشهد الابن في سبيل الحرية يوم كربلاء، ولا غرو فالأول ربيب محمد والثاني فلذة منه)[19]. وحينما يجول نظر الشاعر بولس سلامة في الأُفق الرحب، ورغم المرض الذي هدّ جسده المقعد فانه يجد لزاماً عليه أن يتغنى بعشقه لآل البيت، وفاءً منه لهم، وكأنه يرد على أولئك المتسائلين: ما بال هذا المسيحي يتصدى لملحمة إسلامية بحتة؟ فيقول: أجل انني مسيحي ولكن التاريخ مشاع للعالمين: يا أمير البيان هذا وفائي *** أحمد الله أنْ خُلقت وفيَّا وهو جهد المريض ليس عليه *** من جناح إن لم يدقّ الثريّا حطّمتْ سَورةُ العذاب يراعي *** واستباحت فمي وغلّت يديّا اتلوّى على الجراح صباحاً *** ويفتّ الناسور عظمي عشيّا فتعجب لسابح في جحيم *** ردّه الخطب زورقاً بشريّا كدت اقضي لولا النهى والتأسي *** ونعيم اصوغه وهميّا أتأسى بابن البتول فيوليني عزاء *** وبلسماً معنويّا أتأسّى بالأكرمين خصالاً *** لم يسيغوا في العمر شرباً مرّيا بالذي باكر الشهادة (بدريّاً) *** وأغلى اكليلها (الكوفيّا) بجراح الحسين، في كلِّ جرح *** يجد الصبر كهفه الأزليّا[20]   من إرهاصات المواجهة: وهكذا ينطلق "بولس سلامه" مع جراح الحسين، تلك الجراح التي يلوذ بها الصبر ويتخندق وراءها الصابرون، على مرّ التاريخ، لا كما يصوّرها بعض عابثي العصر حينما قال متطاولاً: وجراح الحسين بعض جراحي! ويواكب الشاعر "بولس سلامة" الألم السرمدي الذي القى رحاله في طف كربلاء، ليظل جواباً إنسانياً شاخصاً لكلِّ السائرين في طريق النضال اللاحب وصولاً إلى الحرية الحمراء. في البداية يطل علينا المشهد الحسيني بوضوح في قصيدة "يزيد بن معاوية" ومن ثناياها يبرز لنا بجلاء الموقف الرافض لابي الضيم حيال تنصيب معاوية لابنه خليفةً للمسلمين! وتكتمل الصورة الأدبية عندما يرسمها الشاعر مؤطرة بالألم الذي يقض المضاجع لدى أهل النُهى: رافعَ الصوت داعياً للفلاح *** اخفض الصوتَ في اذان الصباحِ وترفّق بصاحب العرش مشغولاً *** عن الله بالقيان الملاحِ الف "الله اكبر" لا تساوي *** بين كفّي يزيد نهلةَ راحِ يا ابن هند أبيت إلا يزيداً *** راية للرشاد والإصلاحِ ليت عينيك تبصران إمام الهدى هذا، إمام كلّ إباحي ويزيد من كلِّ فضل تعرّى *** وتباهى بعريه الفضاحِ رغم آثامك الجسام ابن هند *** أنت منه كريشة في جناحِ يا ابن هند قد كان موتك عيداً *** ليزيد المخضوضر المفراحِ فأثار الوليد يدعو لعرش *** شاده بين غدوة ورواحِ فدعا بالحسين يسلبه حقا *** وحق الحسين كالاصباحِ ويهبّ الحسين هبّة ليث *** وعلى القول مثل لذع الجراحِ ألمثلي ذلّ القيود وجدّي *** كوكب المجد والتقى والسماحِ يخشع الأُفق لاسمه إن دعا الداعي *** وحيّ على الهدى والفلاح أتراني يا ابن الطريد مهيناً *** فاضحى حمامة في الأضاحي ولأنت الضئيل في كفّة الميزان *** وغد، سليل قوم شحاحِ هل نسيت السبط ابن فاطمة الزهراء *** نور الدُجى، وشمس البطاحِ بعض ما في النعيم دفق سناها *** ورفيف من نورها الوضّاح وهي بنت الرسول نافذة السلطان، *** والأمر في الجنان الفساحِ والذي يقطع البحار *** جبالاً كيف يشري عداوة الملاّح[21]   الدعوة للحسين: وعندما احتدم الجدل حول (خلافة) يزيد، لم يبق إلاّ السيف فيصلاً. وقد عزم الحسين على معالجة الموقف، في هذه الأثناء كان أهل العراق يكتبون له: (اقدم علينا لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى).. ويستجيب السبط لهذه الصرخة، فيرحل: هجر السبط يثرباً والرفاقا *** كضياء يودّع الآفاقا يثرب ملعب الطفولة *** إذ يجري حسين، مع الرياح استباقا تارة ينثر الرمال وطورا *** في البساتين ينثر الأوراقا فيخال الدنيا مدينة طه *** لا يرى خلف أُفقها آفاقا وأمضّ الأحرار نيُر يزيد *** جبل الظلم يرهق الأعناقا أفعم الجو بالمآثم حتى *** لا تطيق الخياشم استنشاقا فإذا استنشق النسيم أبّي *** كاد من ثقله يموت اختناقا وتداعت في الكوفة الناس همساً *** لحسين تؤهّبِ الميثاقا كتبوا للحسين اقدم، وفي *** صحبك، تمشي ملائك أجواقا حَنَّ ماء الفرات يا ابن رسول الله *** شوقاً، متى تغيث العراقا[22] وتتلاحق المشاهد مسرعة، والشاعر يرصدها عبر قصائده: (مسلم في الكوفة)، (أصحاب مسلم)، (مصرع مسلم).. ومن ثم (رحيل الحسين)[23]. ومشى موكبُ الحسين قليل العدِّ *** والدرُّ لا يكون تلالا بل حبوب قليلة تبهر الآفاق *** لمعاً وتملأ الآصالا لا يكون الطغام إلاّ كثيراً *** كلّ أرض تحوي القذى والنمالا أوَ ليس الجراد وهو حقيرٌ *** يكسف الجو والثرى ارجالا وعندما يزحف الركب نحو كربلاء، كان الحسين (ع) يستشرف التاريخ، ولهذا اندفع لا يلوي على شيء لتحقيق الهدف الكبير.. حيث المجد والخلود: سيكون الدم الزكيّ لواءً *** لشعوب تحاول استقلالا ينبت المجد في ظلال البنود *** الحمر، يهوى نسيجها سربالا فإذا الأعصر النؤومة تصحو *** من كراها وتحمد الغزّالا سوف تبكي على الحسين البواكي *** ويُرى كلّ محجر شلاّلا ليت شعري لِمَ البكاء؟ *** وذاك اليوم عيدٌ يشرّف الأجيالا مأتم القاتلين! لا مأتم *** القتلى يسيرون للخلود عجالى[24]   في رمضاء كربلاء: وفي غمزة تفاعل "بولس سلامة" مع مأساة كربلاء، حتى لنكاد نسمع نشيجه، تنساب الحقيقة، وتتجلى الرؤية الإيجابية للحدث، كأنها طيف السنى المنبعثة من بين ثنايا دموع المآقي: أنزلوه بكربلاء وشادوا *** حوله من رماحهم أسوارا لا دفاعاً عن الحسين ولكنْ *** أهل بيت الرسول صاروا أُسارى قال: ما هذه البقاع فقالوا *** كربلاء فقال: ويْحَكِ دارا ها هنا يشرب الثرى من دمانا *** ويثير الجماد دمعُ العذارى بالمصير المحتوم أنبأني جدّي *** وهيهات ادفعُ الأقدارا إنْ خَلَتْ هذه البقاع من الأزهار *** تمسي قبورنا أزهارا أو نجوماً على الصعيد تهاوت *** في الدياجير تُطلع الأنوارا تتلاقى الأكبادُ من كلِّ صوبٍ *** فوقها والعيون تهمي ادّكارا مَنْ رآها بكى، ومَنْ لم يزرها *** حّمل الريحَ قلبه تذكارا كربلاء!! ستصبحين محجّاً *** وتصيرين كالهواء انتشارا ذكرك المفجع الأليم سيغدو *** في البرايا مثل الضياء اشتهارا فيكون الهدى لمن رام هدياً *** وفخاراً لمن يرومُ الفخارا كلّما يُذكر الحسين شهيداً *** موكبُ الدهر يُنبت الأحرارا فيجئ الأحرار في الكون بعدي *** حيثما سرت يلثمون الغبارا وينادون دولة الظلم حيدي *** قد نقلنا عن الحسين الشعارا فليمت كلّ ظالم مستبدّ *** فإذا لم يمت قتيلاً توارى ويعودون والكرامة مدّت *** حول هاماتهم سناءً وغارا فاذا اكرهوا وماتوا ليوثاً *** خلّد الحقُّ للأسود انتصارا[25]

 

 الهوامش:


[1]- محمد جواد مغنية: "صفحات لوقت الفراغ"، دار الجواد، بيروت، ط2 1404هــ - 1984، ص30. [2]- عبدالله الغريفي: "ملحمة البطولة والفداء"، مجلة الهادي، العدد السادس السنة الثالثة، محرم الحرام 1395هـ. ص 12-15. [3]- انظر مؤلفاته القيمة عن الإمام علي (ع): (علي وحقوق الإنسان، علي صوت العدالة، ... إلخ). [4]- انظر كتابه "الإمام علي: نبراس ومتراس" علماً بأنّه احرز الجائزة الأولى في مسابقة التأليف عن الإمام علي (ع) خلال الستينات، طبع أول مرة في النجف عام 1386هـ - 1967م. [5]- انظر كتابه: "الإمام علي: أسد الإسلام وقديسه" الذي أحرز الجائزة الثالثة في المسابقة إياها. طُبع أيضاً في النجف. [6]- قال عنه محمد جواد مغنية: (من كبار الأدباء في البلاد العربية، وأبو الأدباء وسيدهم في لبنان، وكانت له شهرة واسعة، ومكان مرموق في جميع الأوساط، لأدبه وعلمه وجهده وإخلاصه.. وقد ترك للمكتبة العربية عشرات الكتب، أُعيد طبعها أكثر من مرة، كان مسيحياً ومن بلد لا مسلم فيه إلّا انّه كان مغرماً بحبِّ الرسول الأعظم محمد بن عبدالله (ص)، مكبراً لرسالته وآثارها ونتائجها، لذا اسمى ولده الأكبر محمداً، وبه يكنى، وقد ثقل ذلك على عشيرته وأهل بيته من روحانيين وزمنيين، ولكنه لم يعبأ ويكترث.. توفي سنة 1962). انظر كتاب من هنا وهناك، بيروت، 1968، ص287. [7]- انظر كتابه القيّم "الحسين في الفكر المسيحي"، الكويت، 1978. [8]- الجالوت: الجالية من اليهود، أيّ الذين جلوا عن أوطانهم ببيت القدس، ورأس الجالوت: رئيسهم: وكان من ولد داود (ع) (أنظر مفاتيح العلوم للخوارزمي ص34-35). [9]- العقد الفريد: لابن عبد ربه الأندلسي، ج4، بيروت 1983، ص383 وقد روى لنا التاريخ أكثر من واقعة في هذا الصدد، ومن ذلك ما حصل بين يزيد بن معاوية وبين أحد أحبار اليهود الذي كان حاضراً مجلس يزيد حينما أُدخل عليه رأس الحسين (ع) وشهد عن كثب الحوار بينه وبين الإمام زين العابدين (ع)، ففي فتوح ابن اعثم، قال: فالتفت حبر من أحبار اليهود وكان حاضراً فقال: من هذا الغلام يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا صاحب الرأس أبوه. قال: ومن هو صاحب الرأس يا أمير المؤمنين؟ قال: الحسين بن عليّ بن أبي طالب، قال: فمن أمه؟ قال: فاطمة بنت محمد فقال الحبر: يا سبحانه الله هذا ابن (بنت) نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة بئس ما خلّفتموه في ذريته والله لو خلّف فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لكنّا نعبده من دون الله وأنتم انما فارقكم نبيّكم بالأمس فوثبتم على ابن نبيّكم فقتلتموه سوءة لكم من أمة! قال فأمر يزيد بكرّ (أي بضرب) في حلقه، فقال الحبر: إن شئتم فاضربوني أو فاقتلوني أو قررّوني، فإني أجد في التوراة أنّه من قتل ذرية نبي لا يزال مغلوباً أبداً ما بقي، فإذا مات يصليه الله نار جهنم. انظر فتوح ابن اعثم 5/246 (عن كتاب معالم المدرستين للعلامة مرتضى العسكري، ج3، طهران 1407هـ، ص159. [10]- تذكرة الخواص، ص150 (نقلاً عن كتاب "مقتل الحسين" لعبد الرزاق الموسوي المقرّم، ص347). [11]- محمد مهدي شمس الدين: "انصار الحسين" بيروت، 1975، ص95. [12]- راجع كتاب صفحات لوقت الفراغ" لمحمد جواد مغنية، والمقال منشور في مجلة الحوادث الصادرة بتاريخ 5/9/1975. [13]- نُشرت الأولى ضمن ديوانه الكبير "ديوان الجواهري". أما الثانية فقد نُشرت في ديوان "أساطير"، الصادر في مطلع الخمسينات. [14]- عكف الشاعر على كتابة هذه الملحمة خلال سنوات 1892-1895، ومما جاء فيها: يا الله لأجل كربلاء لأجل الحسن والحسين لأجل الأئمة الاثني عشر الذين عانوا ما عانوه في الحياة لا تدع ألبانيا تسقط أو تُمزّق ليبق الألباني بطلاً كما كان ليحب ألبانيا ليموت في سبيل وطنه كما مات المختار في سبيل الحسين انظر كتاب "الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية" للدكتور محمد موفاكو، كتاب عالم المعرفة، الكويت، 1983م. ص153. [15]- انظر ملحمته الرائعة: "عبدالغدير" دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط3، 1393هـ - 1973م. ص312، 317. [16]- أديب وصحفي سكن حلب ثمّ انتقل إلى مصر وفيها أصدر مجلة الشذور ثم جريدة العمران، له ديوان وبعض كتب الرحلات. ومات وعمره تسع وأربعون سنة (1874-1923) – انظر الإعلام للزركلي، م(4)، ط(7)، بيروت، 1986، ص153. [17]- انظر: أجراس كربلاء (المجموعة الأولى)، إعداد محمد سعيد الطريحي، ص52، 55، 83، مؤسسة البلاغ (بيروت – 1989). [18]- انظر مقدمة ملحمة "عيد الغدير"، ص8. [19]- المرجع السابق: ص8. [20]- المرجع السابق: ص310-311. [21]- المرجع السابق: ص204. [22]- المرجع السابق: ص211. [23]- تراجع القصائد في "عيد الغدير" على التوالي: ص216، 226، 233، 242. [24]- المرجع نفسه: ص248.

[25]- المرجع نفسه: 251-252.

    المصدر: مجلة رسالة الحسين (ع)/ العدد 2 لسنة 1412هـ

ارسال التعليق

Top