فالعقل والبصيرة يتلاشيان بشكل تدريجي عند اقتراف الذنوب وتبدأ النفس الإنسانية تُظلم أي يغلفها الظلام إلى أن يستولي عليها عند الاستمرار والتمادي في فعل المنكرات واقتراف الذنوب، وتفقد العقول لبها والقلوب بصيرتها وتتغلف القلوب بهذه الخطايا التي اكتسبها الإنسان ويغلب عليها سواد هذه الخطايا.
روى زرارة عن أبي جعفر (ع) قال:
"ما من عبد إلا وفي قلبه نكته بيضاء فإذا أذنب خرج في النكته نكته سوداء، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السودا حتى يغطي البياض، فإذا البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً وهو قول الله عزّ وجل: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطفّفين/ 14)".
وإنّ الذنوب التي يرتكبها الإنسان متعددة وكثيرة ولها أكثر من سبب، فمن أسبابها، حب الدنيا، واتباع الهوى، والشيطان...
ولمن أراد أن يُقلع عن المعاصي ويتجنب الوقوع في الذنوب لابدّ له من التغلب على أسبابها لأنّها آثار لتلك الأسباب، فلا يمكن أن نطلب من إنسان يتبع هواه أو يحب الدنيا أن لا يقترف ذنباً أو يرتكب خطيئة. فالزهد في الدنيا هو الحالة التي تمكّن الإنسان من أن لا تصدر منه الذنوب، عن حفص بن غياث قال سمعت أبا عبدالله يقول:
"جُعل الخير كلّه في بيت وجُعل مفتاحه الزهد في الدنيا".
وعن عبدالله بن القاسم قال: سمعت أبا عبدالله يقول:
"إذا تخلى المؤمن عن الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله وكان عند أهل الدنيا كأنّه قد خولط وإنما خالط القوم حلاوة حب الله فلم يشتغلوا بغيره".
العبد عندما ينصرف عن حب الدنيا لابدّ أن يحب الله وحب الله منبع كلّ فضيلة وخير في حياته. فيتخلص من الذنوب ويُشرق قلبه بنور ربّه وتزكو نفسه وتسمو إلى المراتب العليا في مقامات الطاعة والعبودية وتنال الزُلفى والكرامة في الآخرة.
فتزكية النفس وتهذيبها مرهون بالإقلاع عن المعاصي واجتناب الذنوب، وهذه مرهونة بالتخلص من منابعها وروافدها والتي منها حب الدنيا.
فالورع عن محارم الله تعالى هو سبيل النجاة وجنة الخلاص من الهلكات.
قال أبو الصباح الكناني لأبي عبدالله (ع):
"ما نلقى من الناس فيك؟ فقال أبو عبدالله (ع):
وما الذي تلقى من الناس فيّ؟ فقال: لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام فيقول: جعفري خبيث، فقال: يعيركم الناس بي؟ فقال أبو الصباح: نعم، قال: فقال (ع): ما أقل والله من يتبع جعفرا منكم، انما أصحابي من اشتد ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، فهؤلاء أصحابي".
وروي ابن رئاب عن أبي عبدالله قال:
"إنا لا نعد الرجل مؤمناً حتى يكون بجميع أمرنا متبعاً مريداً، ألا وانّ من اتباع أمرنا وإرادته الورع، فتزينوا به، يرحمكم الله وكبدوا أعدائنا (به) ينعشكم الله".
كبدوا أعدائنا: أي أوقعوهم في الألم والمشقة لأنّه يصعب عليهم ورعكم.
وينعكشم الله: أي يرفعكم في الدنيا والآخرة.
والإنسان مهما حاول أن يقترب من الله تعالى ويتقرب إليه بالطاعات والقربات، لا يستطيع أن يتحرك بهذا الاتجاه نحو خالقه ما لم توجد في نفسه حالة الورع عن المحارم، فهو ما دام يلغ في حرام الله تكون على طريقه العوائق والحواجز والموانع التي تصده عن القرب من ربه أو التقرب إليه تعالى.
فلابدّ له وهو يريد أن ييمم وجهه نحو الله تعالى أن يكون شديد الورع، بحيث يحجزه هذا الورع عن اقتراف الذنوب، ويحميه ويحفظه من الوقوع في المنكرات.
وتزكية النفس وتهذيبها تعتمد بشكل أساسي على مدى نجاح الإنسان في هذا الميدان "الورع عن محارم الله تعالى"، والمقدار الذي يتمكن من تحقيقه في نفسه من الورع يتناسب معه تناسباً طردياً مقدار تهذيبه لنفسه وتقويمها.
المصدر: كتاب نظرات في تزكية النفس
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق