• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مفهوم التوازن في الاجتماع الإسلامي

مفهوم التوازن في الاجتماع الإسلامي

ينشطر التوازن – في التصور الإسلامي – إلى نمطين، أحدهما (وهو الأهم): التوازن العبادي والآخر: التوازن الدنيوي. والأوّل منهما، أي: التوازن العبادي: يعني أنّ الهدف من الاجتماع البشري هو: ممارسة التجربة العبادية وفقاً لمبادئ السماء، المرسومة في هذا الميدان، أي: إنّ المطلوب – في المقام الأوّل – هو الالتزام بمبادئ السماء، وهو التزام لا يفترض – كما هو طابع الأرضيين – خلوّ الحياة الاجتماعية من الشدائد، بقدر ما يفترض قيام مجتمع عبادي يتجاوز شدائد الحياة ليتعامل وفق مبادئ: كالصبر، والمثابرة، وممارسة المسؤولية إلخ... فالقحط، والكوارث الطبيعية والنقص في الأنفس والأمراض، إلخ (في ميدان الظواهر الاجتماعية) تظل – بالرغم من كونها بعضها جزاءات اجتماعية – بمثابة (امتحان) لابدّ من تحمله في غمرة المسؤولية العبادية، كذلك (في ميدان العلاقات الاجتماعية) تظل شدائد: كالحياة الزوجية مثلاً بدءاً من مرحلة الحمل، فالوضع، فالتنشئة إلخ بالنسبة إلى المرأة، أو العمل الاقتصادي وغيره بالنسبة إلى الرجل، تظل أمثلة هذه العلاقات مصحوبة بشدائد تتطلبها طبيعة الاتحاد بين كائنين يستهدفان استمرارية التناسل البشري...

أولئك جميعاً تفترض حدوث الشدائد وما يصاحبها من المشكلات الاجتماعية: بصفتها جزءاً من المهمة العبادية أي: (إنّ تحمل المسؤولية لابدّ أن يكون مصحوباً بالشدة)، ولذلك فإنّ المهم هو: الالتزام بمبادئ المسؤولية العبادية، حيث يتحقق من خلال هذا الالتزام: نمط من (الالتزام العبادي) الذي يعني: توازناً داخليّاً لا تصحبه التوترات التي تشلّ الأفراد والجماعات من النشاط الاجتماعي، بل يمتص الالتزام الروحي بالمبادئ كافة التوترات: على نحو ما نلحظه مثلاً من التزام الأساتذة بمسؤولية التدريس وما يصحبه من الإرهاق وما يسببه من توتر، إلا أنّ هذا التوتر يظل مصحوباً بإمتاع نفسي يتحسسه الأساتذة في غمرة ما يحققونه من (الإنجاز) العلمي، أي أنّ المهم هو: الإنجاز العلمي، وإشاعته بين الناس وليس المهم هو: خلوّ ذلك من التوترات أو المشكلات التي تصاحب ذلك...

التوازن الدنيوي: إنّ اقتران الممارسة العبادية بالتوترات أو الشدائد، لا يعني أنّ التوازن بمعنى خلوّ الحياة الاجتماعية من المشكلات لا سبيل إلى تحقيقه، بل يظل كلّ من هذين التوازنين (العبادي والدنيوي) متحققاً بقدر ما تتطلّبه طبيعة التجربة الاختبارية من جانب، وبقدر التزام المجتمع الإسلامي بمبادئ التجربة العبادية من جانب، وبقدر التزام المجتمع الإسلامي بمبادئ التجربة العبادية من جانب آخر. فالتوصيات الإسلامية تشير إلى أنّ المجتمعات لو التزمت بمبادئ السماء لأكلت من فوقها ومن تحت أرجلها ونزلت عليها البركات إلى درجة الإشباع الكامل. وسنرى عند حديثنا عن العمليات الاجتماعية مثل (التعاون) ونحوه، وعند حديثنا عن التنظيم الاجتماعي لجماعة الأسرة والأقارب والجيران والأصدقاء (في نطاق الجماعات الأولية) وعن التنظيم الاجتماعي عبر المؤسسات الحكومية والاقتصادية وغيرهما (في نطاق الجماعات الثانوية): كيف أنّ الالتزام بمبادئ السماء (من حيث العمليات الاجتماعية وتنظيمها) تحقق (التوازن الدنيوي) في أرفع مستوياته التي تتطلع إليها المجتمعات...

وهذا يعني أنّ كلّاً من التوازنين (الدنيوي والعبادي) يصبح (ممكننا) بالنحو الذي أوضحناه.

التوازن الأرضي: نقصد بـ(التوازن الأرضي) ما تتطلع إليه المجتمعات الأرضية المنعزلة عن السماء، من تحقيق الحياة الاجتماعية الخالية من المشكلات التي أشار إليها علماء الاجتماع...

طبيعيّاً، إنّ ما أطلقنا عليه مصطلح (التوازن الدنيوي) لا يتميز عن (التوازن الأرضي) إلا في كون التوازن الدنيوي غير منعزل عن (التوازن العبادي)، أي: إمكانية أن يتحقق التوازنان في المجتمع الإسلامي... أما المجتمع الأرضي فلا يفقه إلا التوازن الاجتماعي في دلالته التي أشار إليها علماء الاجتماع... بيد أن ما تجدر ملاحظته هنا، هو: أنّ التوصيات الإسلامية (في ميدان الحياة المشتركة أو الحياة الاجتماعية) لا تقصر توصياتها على الإسلاميين فحسب، بل تتجاوز ذلك لمطلق الإنسان: بما في ذلك المجتمعات المنعزلة عن السماء، مستهدفة من ذلك أن ينتفع الدنيويون بها، فمثلاً نجد أنّ التوصيات الإسلامية تطالب بضرورة قيام (المؤسسة الحكومية) إسلامية كانت أو منحرفة، مقدمة في هذا الصدد مبدأً اجتماعياً في التوازن هو: أن تحقيق الأمن والاستقرار لا يمكن إلا من خلال مؤسسة تتولى إدارة هذا المجتمع أو ذاك... كما أن توصياتها في عمليات التعاون أو التكيف أو توصياتها في ميدان العلاقات وتنظيمها، تظل ذات معطى اجتماعي يفضي بالضرورة إلى تحقيق التوازن الاجتماعي، حتى في المجتمعات المنعزلة عن السماء...

 

مستويات التوازن:

ما دمنا قد تحدثنا عن التوازن الدنيوي، حينئذٍ ينبغي أن نتبين مستوياته أو نطاقاته التي يتحقق من خلالها، فهناك:

1-  التوازن العام: ونعني به توازن (المجتمع) بكلّ ما يحويه من أفراد وجماعات ونظم وتنظيمات إلخ، أي: التوازن في بنائه أو كيانه العام: كما لو افترضنا وجود مجتمع لا يواجه أيّة مشكلات اجتماعية بقدر ما يواجه تعاون أفراده وجماعاته ومنظماته وتنظيماته في شبكة من العلاقات المتماسكة فيما بينها تماماً...

2-  التوازن الجزئي: ونعني به التوازن الذي يتحقق في نطاق وحدات اجتماعية محددة كـ(التوازن الذي يحدث داخل الأسرة أو جماعة الأصدقاء أو الأقارب أو الجيران أو الدرس، أو السوق، أو الحكومة، إلخ)...

وهذا التوازن يتم وفق مستويات متنوعة أيضاً، بعضها يجسد كما هو:

1-  التوازن الضروري: ونعني به تحقيق حد أدنى من التوازن الذي لا مناص منه (وهذا ما يتمثل في جماعات الأسرة والأقارب والجيران والأصدقاء)، فيما لا يمكن الانسلاخ من نطاق هذه الوحدات التي تتطلب إشباعاً لحاجة الإنسان إلى (الانتماء الاجتماعي).

2-  التوازن الكمالي: ونعني به تحقيق توازن في درجة أكبر من سابقتها، كالتوازن الذي يتحقق من خلال الوحدات الاجتماعية الأخرى (جماعة الدرس، السوق، الحكومة إلخ) ومن الطبيعي، أن يتحدد حجم كلّ من التوازنين: العام والجزئي، والتوازنين: الضروري والكمالي، بقدر السعة التي تطال شبكة العلاقات الاجتماعية أو قصرها وبقدر حجم (الإيجابية) التي تطبع تلكم العلاقات أو سلبيتها: فإذا افترضنا أنّ هناك مائة وحدة اجتماعية في هذا المجتمع أو ذاك: حينئذٍ فإنّ التوازن العام يتحقق من خلال الافتراض الذاهب إلى أنّ هذه الوحدات جميعاً تنتظم في علاقات إيجابية فيما بعضها من جانب وفيما بينها جميعاً من جانب آخر (كما لو تعاونت الأسرة فيما بينها، والدولة فيما بينها) وهما أي: (الأسرة والدولة فيما بينهما، وهما مع سائر الوحدات الأخرى وهكذا، فهنا نلحظ أنّ (التعاون) وليس (الصراع) هو الطابع لهذه العلاقات من جانب، وأنّ الوحدات جميعاً وليس بعضها (تتعاون) أفرادها فيما بينها من جانب ثانٍ، وأنّ (التعاون) يتم من خلال (التآزر) فيما بينها من جانب ثالث (وهو أمر يجسّد مستوى ثالثاً من مستويات التوازن) التي سنعرض لها بعد قليل.

وأما التوازن الجزئي فيتحدد بقدر ما (يتعاون) أفراد الوحدة الاجتماعية فيما بينها (كما لو تعاون أعضاء الأسرة مثلاً)، وبقدر ما تتعدد الأحداث الاجتماعية (كما لو كان التعاون داخل كلّ من الأسرة والأقارب والجيران والأصدقاء) حيث تمثل هذه الوحدات توازناً ضروريّاً، وكما لو كان التعاون يمتد إلى أكثر من هذه الشبكة الرباعية حيث تمثل هذه الوحدات توازناً كماليّاً...

أخيراً: ثمة توازن يمكن شطره إلى مستويين، هما:

1-  التوازن العضوي: ونقصد به أنّ الوحدات الاجتماعية عندما يتآزر بعضها مع الآخر: يتحقق نمط من التوازن العضوي فيما بينها (كما لو تعاونت الأسرة مع الأقرباء أو الدولة) وهذا التوازن على نمطين أحدهما: توازن جزئي يتم بين وحدات متفرقة كالمثال المتقدم والآخر: توازن عام يتم بين جميع الوحدات الاجتماعية.

2-  التوازن غير العضوي أو المنفصل: ونعني به التوازن الذي يتحقق داخل وحدة اجتماعية (الأسرة أو القرابة) منفصلاً عن غيره من الوحدات الاجتماعية الأخرى.

ومن الطبيعي أيضاً، كما سبقت الإشارة عابراً أنّ (التوازن) يتحدد هنا بقدر حجم (العضوية) التي ترتبط بها الوحدات الاجتماعية...

فبقدر سعة الوحدات الاجتماعية وبقدر إيجابية العلاقات فيما بينها: يتحدد حجم التوازن فلو عدنا إلى افتراضنا السابق بأنّ هذا المجتمع أو ذاك يحوي في داخله مائة وحدة اجتماعية: حينئذٍ بقدر ما تتآزر هذه الوحدات فيما بينها: يتحدد توازن المجتمع المشار إليه...

وفي ضوء هذه الحقيقة ينبغي أن نضع في الاعتبار، أنّ التوازن لا يمكن تحقيقه (سواء أكان عامّاً أو جزئياً: بخاصة التوازن العام) إلا في حالة وجود معايير أو مبادئ تتسم بما هو مطلق وكامل (مبادئ السماء) وليس بما هو قاصر ومتطور (مبادئ الأرض)... فالتوازن الجزئي كـ(جماعة الأسرة مثلاً) لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال مبادئ ترسم نمط العلاقة بين الزوجين، وبينهما وبين الأولاد، والأولاد فيما بينهم: مثل قوامية الرجل، وإطاعة المرأة، وحضانة الطفل داخل الأسرة، والطلاق بيد الرجل، وإطاعة الأولاد لأبويهما، واحترام الأصغر من الأخوة للأكبر، ... إلخ، أما في حالة قوامية المرأة أو الطلاق من جانبها، أو إرضاع الطفل بغير لبنها، أو استقلال الأولاد عن أبويهما إلخ؛ حينئذٍ فإنّ (التفكك) وليس التوازن هو الذي سيطبع العلاقات الأسرية (كما هو ملاحظ في المجتمعات الحديثة)...

وأما التوازن العام، فلا يمكن تحققه البتة إلا من خلال مبادئ، لها خبرتها بتركيبة البشر، وصلتهم بالحياة المشتركة التي يحيونها، ونمط العلاقات فيما بينهم، ونمط الوحدات الاجتماعية التي تنتظمهم، بحيث تخطط لعملية التوازن من خلال المعرفة بطبيعة الوحدة الأسرية مثلاً وعلاقتها بالمؤسسة الحكومية، وعلاقتها بالمؤسسة الثقافية وعلاقة أولئك بالمؤسسة الاقتصادية، وهكذا...

ولا أدل على انعدام المبادئ التي تخطط لهذا الجانب، من ملاحظتنا (بإقرار علماء الاجتماع أنفسهم) فشل كلّ المجتمعات الأرضية قديماً وحديثاً من تحقيق التوازن العام...

والمهم هو: أن نكرر الإشارة إلى أنّ مبادئ التوازن (بنمطيه العام والجزئي) تظل منحصرة في مبادئ السماء التي أبدعت المجتمع البشري ورسمت الطرائق المفضية إلى توازنه...

وهي مبادئ تأخذ بنظر الاعتبار: إمكانية التوازن على مستوييه العام والجزئي: مع ملاحظة أنها ترسم مبادئ للتوازن النسبي بحيث إذا تعذر تحقق التوازن العام بسبب من النزعة الذاتية والعدوانية الغالبية البشر، حينئذٍ لا تعفي المجتمع البشري من ممارسة مسؤوليته في تحقق ما هو الممكن من التوازن: حسب البيئة الاجتماعية التي تسمح بذلك على نحو ما نوضحه في الحقول اللاحقة من هذه الدراسة.

والآن: إذا كانت القيم أو المبادئ هي العنصر الذي يحدد نمط الحياة المشتركة بين الناس وما يطمحون إليه من التوازن الاجتماعي فيما بينهم.


المصدر: كتاب الإسلام وعلم الاجتماع/ موسوعة الفكر الإسلامي (3)

ارسال التعليق

Top