• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حواس وبصمة القلب

الشيخ صباح الرّكابي

حواس وبصمة القلب
     ◄يتمتع القلب بقدرة عالية على التحسس بما يحيط به، فالقلب يبصر ويسمع ويشم ويذوق ويلمس، بل القلب له القدرة على معرفة الأوزان والأطوال والمسافات ويميز المرتفعات عن الأعماق، والشواهد كثيرة على ذلك، فنجد الذي يفقد حسّاً يعوض عنها قوة حاسة أخرى، فالأعمى له القدرة على معرفة طريقه، ويعرف الألوان عن طريق اللمس.

إنّ كلَّ عضو من أعضاء الإنسان معجون بالروح، وهذه الثنائية لا تنفك عن الإنسان، فاليد فيها الروح والعين فيها الروح والرجل فيها الروح، وأما القلب فهو الذي يخرج الروح من بين حجراته، وأنّ هذا الجوهر اللطيف السيال، أو الجوهر البخاري يخرج من القلب ويعود إليه، فإذا كان الأنف يشم بمجساته الشمية من خلال التفاعل الكيمياوي، والعين ترى بشبكيتها وارتسام الصورة عليها والأذن تسمع بعظامها وطبلتها واليد تتحسس بخلاياها، وهكذا جميع الحواس فإنّها كلها تنقل ذلك الإحساس عن طريق أعصابها إلى الدماغ، والدماغ يسمع ويرى ويشم ويذوق ويتحسس، ولكن عمله هذا عمل مادي، عمل كعمل الآلة، ليس فيه روح يرقى إلى تحليل كلّ هذه الحواس، نعم هو حي ولكنه روحه ضعيف، فلا يمكنه أن يحلل.

إنّ التخاطر وقراءة أفكار الآخرين والتفرس والتنويم المغناطيسي بحاجة إلى أشياء أبعد من المادة، أي إلى ما وراء المادة، وليس هناك سوى القلب.

إنّ إرسال القلب للأشعة الكهرومغناطيسية بقدر (5000) مرة بقدر أشعة الدماغ، وتيار كهربائي بقدر (50) مرة بقدر كهربائية القلب، فهو قادر على أن يرسل هذه المجالات إلى أبعد نقطة شاء، فيرسل ليرى ويرسل ليسمع ويرسل ليشم وليذوق وليتحسس وغيرها من الحواس الخمس أو أكثر من الخمس.

لقد ثبت علمياً أنّ جميع الحواس تنتهي إلى الكهرباء من خلال الأعصاب الناقلة، فإذا كان القلب له من الكهرباء (50) مرة كان أقدر أن يشخص الصوت والصورة وغيرها من تشخيص الدماغ.

إنّني أعتقد أنّ القلب يرسل الأشعة إلى أي مكان يريد ليتعرف على محيطه، ولكن الإنسان هو الذي طمس هذه الحاسة العظيمة، فصمها وأعماها، ولذلك نجد أنّ الأنبياء والأوصياء لهم من كلِّ ساحة أكملها، وقصة الإمام الباقر (ع) ومنها: ما روي عن أبي الصباح الكناني قال: صرت يوماً إلى باب أبي جعفر الباقر (ع) فقرعت الباب، فخرجت إليّ وصيفة ناهد، فضربت بيدي إلى رأس ثديها وقلت لها: قولي لمولاك: إني بالباب. فصاح من آخر الدار: أدخل، لا أم لك. فدخلت، وقلت: يا مولاي والله ما قصدت ريبة، فقال: صدقت لئن ظننتم أنّ هذه الجدران تحجب أبصارنا كما تحجب أبصاركم، إذن لا فرق بيننا وبينكم! فإياك أن تعاود لمثلها.

إنّ قدرة الإنسان على تمييز الكبير من الصغير لو كان بالدماغ لرأى الكبير صغيراً والصغير كبيراً، لأنّ الإنسان شاهد جسماً قريباً بحجم معيّن وكان خلفه جسم بعيداً بحجم أربعة أضعاف الجسم القريب، سيرى أنّ الجسم القريب أكبر من الجسم البعيد، ولكنه يدرك أنّ البعيد أكبر من القريب، والسؤال هنا كيف حوّل الجسم الصغير إلى جسم كبير وبالعكس، إذا كانت الرؤية مادية بحتة؟ والجواب أنّ الرؤية في العقل وهو في القلب.

 

إما بالنسبة لبصمة القلب:

ما هي بصمة القلب؟ وهل أنّ لكلِّ قلب بصمة؟ أم أنّ جميع القلوب تشترك ببصمة واحدة؟

مجموع هذه الأسئلة نجيب عليها بجواب واحد، لأنّ القلب عرش الرحمن، ولأنّ الله تعالى مطلق فعرشه مطلق، فالبصمات بعدد الخلق البشري على أقل تقدير لأنّ موضوعنا الإنسان وليس الحيوان والنبات. إنّ الله تعالى يفيض على المخلوقات بقدرها، فلكلِّ قلب بصمة خاصة به، كما أنّ للعين بصمة وللأصابع بصمة، والبصمة، بصمتان: البصمة الروحية والبصمة المادية، فأما البصمة المادية فهي التيار الكهربائي والمجال المغناطيسي ويتبعهما المجال الكهرومغناطيسي، فكما أنّ لكلِّ شيء نبضة أو موجة فكذلك القلب له موجة، ونحن إذا تتبعنا الألوان وجدنا أنّ لكلِّ لون موجة ولكلِّ صوت موجة، ومعنى هذا أنّ عدد الموجات الصوتية غير محدد، لأنّ درجات الصوت لا يمكن تحديدها، فلو فرضنا أنّ موجة صوت مقدارها 100 ذبذبة/ ثانية، فهل هناك مانع من أن تكون هناك موجة قياسها 100000000000000000001، ذبذبة/ ثانية؟ قطعاً لا، ليس من مانع في ذلك، ومن هذا الاختلاف ينشأ لكلِّ فرد صوت خاص به، وينشأ لكلِّ جسم لون خاص به وينشأ لكلِّ قلب تردد خاص به، هذا على مستوى التردد المادي.

أما على مستوى التردد الروحي فلابدّ أن يكون الاختلاف أكبر لكبر الروح وعظمته، فالروح أكبر من يحاط به، قال تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا * وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 84-85)، كم عظيمة هذه الآية، وبحدود إطلاعي لم أجد في التفاسير ما يشير إلى أنّ لكلِّ روح شكل خاص به، والآية جاءت بنحو الموجبة الكلية، لا يشت منها أحد، فلكلِّ شخص شكل هو يصنعه، لأنّ معنى الآية "كلّ فرد يعمل على شاكلته"، وهذه الشاكلة من صنع الإنسان نفسه، وذلك من خلال عمله، من غير اشتراك بينه وبين الآخرين بنحو الإنطباق التام، نعم هناك اشتراك في بعض الأشياء، وهذه هي بصمة الروح، وهذه هي الشاكلة التي تشكلت بالعمل، فخرج عن كون الإنسان مجبوراً على فعله، ومثل الشاكلة مثل ما يشتهي الإنسان نوعاً من الطعام، مع أنّ الطعام بين يديه متعدد الأنواع والكميات.

وليت الراغب الأصفهاني موجوداً ليذكر لنا المكتشفات الحديثة التي لم تكن في زمانه حتى يقول إنّ الختم على القلب ليس ختماً حقيقياً بل هو كناية عن علم الملائكة كما قال في مفرداته قال: واستعارة القساوة في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) (المائدة/ 13)، قال الجبائي: يجعل الله ختماً على قلوب الكفار، ليكون دلالة للملائكة على كفرهم فلا يدعون لهم، وليس ذلك بشيء، فإنّ هذه الكتابة إن كانت محسوسة فمن حقها أن يدركها أصحاب التشريح، وإن كانت معقولة غير محسوسة فالملائكة باطلاعهم على اعتقاداتهم مستغنية عن الاستدلال. قال بعضهم: خَتْمُهُ شهادته تعالى عليه أنّه لا يؤمن، وقوله تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ) (يس/ 65)، أي: نمنعهم من الكلام.

الراغب بتصوره القديم عن الختم هو الذي دعاه أن يصرّح بهذا الرأي، وإلا لو كان معنا الآن وشاهد ما خفي عليه وعلى أهل زمانه لغير الكثير من معاني مفرداته، ولأصاب الكثير من المعاني التي تكون أحياناً بعيدة عن الحقيقة التي أرادها الله تعالى من قوله في كتابه الخالد.

إني أعتقد أنّ الختم ختم مادي تكون بنتيجة التمادي بفعل المنكر، وهذا هو الشاكلة التي ذكرتها قبل قليل، وهي الشكل النهائي للإنسان الذي يوصله إلى جهنم، فقوله تعالى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (آل عمران/ 117)، فالختم من جراء عملهم.

إنّ قول الإمام الصادق (ع): والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق وذلك بعد أن بيّن علاقة الفطرة قال: والطرق، فهو (ع) يبيّن هذه الحقيقة التي لم يتطرق إليها أحد إلى الآن، مع أنّها واضحة لا تحتاج إلى بيان، فالطرق كثيرة بعدد الأنفاس.

تعالوا معي أيها الأخوة لنتعرف على الأنفاس ما هي:

النَّفَسُ: الريح الداخل والخارج في البدن من الفم والمنخر، وهو كالغذاء للنَّفْس. وهذا هو في الدورة الدموية الروحية أو العقلية، فالهواء (النَّفَس) يحمل معه القيم والأفكار إلى النَّفْس (الروح).

إنّ أعظم الخلق عند الله تعالى هم الأنبياء والأوصياء، وبشكل عام المعصومين، فهؤلاء بالرغم من عصمتهم وانقيادهم التام وطاعتهم المخلصة التامة لله تعالى، إلا أنهم يختلفون في مراتبهم، فهم أنفاس متعددة، وليسوا نفساً واحدة، وهذا ما يؤكد استقلالية كلّ فرد، أي أنّ شاكلية كلّ فرد خاصة به.

إنّني أعتقد بضرورة تقسيم الناس إلى اثنتي عشرة مرتبة، أي اثنتي عشرة شاكلة، مع المحافظة على أنّ لكلِّ إنسان شاكلة خاصة به، فنجعل لكلِّ شاكلة أو مرتبة حدود معينة من التردد معتمدين على اختلافهم فيما يلي:

1-     يوم الميلاد بحسب السنة القمرية.

2-     يوم الميلاد بحسب السنة الشمسية.

3-     ساعة الولادة، على أنّ اليوم (24) ساعة فأرقام الساعات يبدأ بالرقم (1) وينتهي بالرقم (24) لا بالتقسيم إلى 12 ساعة لليل و(12) للنهار.

4-     فصيلة الدم.

5-     شدة المجال الكهرومغناطيسي.

إني أعتقد أنّ الرقم (12) له مدخلية في حياة الإنسان، فالأشهر القمرية والأشهر الشمسية اثنا عشر وعدد نقباء بني إرسائيل اثنا عشر وعدد حواري عيسى (ع) اثنا عشر وخلفاء الرسول اثنا عشر كما عند العامة، عن حصين عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبيّ (ص) فسمعته يقول "إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة" قال ثمّ تكلم بكلام خفي علي قال فقلت لأبي ما قال؟ قال (كلهم من قريش)، واثنا عشر إماماً كما عند الشيعة الإمامية.

النقاط الخمس في أعلاه هي الدلائل الظاهرية والتي يسهل معرفتها وتشكل 50% من شخصية الإنسان، أو قل من قلبه، وتبقى الـ50 الأخرى وهذه تؤخذ من دراسة العوامل الوراثية الروحية الموجودة في الجينات، فإنّ البصمة الروحية للإنسان تنتقل إليه بالعوامل الوراثية، مع قدرة الإنسان على تغييرها.

إنّ بصمة القلب من أهم البصمات التي تجب دراستها من الناحيتين المادية والروحية، وعلى أقل تقدير لنحدد البصمة المادية للقلب من خلال النقاط الخمس في أعلاه، لأنّ سلامة القلب المادي باب لسلامة القلب الروحي، وأنّ عدم معرفتنا بالبصمة الروحية أو عدم اعتقادنا بها الآن لا يمنع من كشف البصمة المادية.

إنني أعتقد أنّه لا يختلف عاقلان من أنّ القلب أهم من العين وأهم من الإصبع، فما دام للعين بصمة وللإصبع بصمة، فكيف لا يكون للقلب بصمة؟

ومن المعروف للجميع أنّ لكلِّ فرد بصمة خاصة من الجينات تميزه عن غيره، فنقول إذا كانت الروح أعظم من المادة وهي المسيّرة لها، وأنّ الروح محلها القلب، وأنّ العقل محله القلب فكيف لا تكون له بصمة خاصة به، هذه البصمة هي التي عبر عنها الإمام الصادق (ع) "والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق".

سيأتي اليوم الذي يتبيّن فيه أنّ القلب شيء عظيم بعظمة عرش الله تعالى، وأنّ الذي يدنس قلبه فقد دنس عرش الله تعالى، لأنّ القلب عرش الرحمن كما في الحديث، وأما المحافظة عليه كما أراده الله تعالى فهو الذي سيفد على الله تعالى بقلب سليم.

 

المصدر: كتاب العقل بين القلبِ والدّماغ

ارسال التعليق

Top