• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصيام والعدالة الاجتماعية

الصيام والعدالة الاجتماعية

كثيرون من الناس يظنون انّ الإسراف في الأطعمة يثمر صحة جسدية، ناسين انّ هذا الإسراف يقوي الجسد، لكن قد يصول على الأخلاق إن لم يراع صاحبه التوازن الذي تفرضه الحياة الإجتماعية. ذلك لأنّ هذا التوازن يفضي إلى سعادة الحياة، إذ انّ الإنكباب على جهة دون جهة يدفع إلى البعد عن الوسط الحسن الذي يعبد لنا طريقه قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا...) (البقرة/ 143)، وقد حام حول هذه القاعدة علماء النفس والإجتماع وأوجزوا هذه الحومة بكلمة الفضيلة كنقطة محبوبة كامنة بين رذيلتين هما رذيلتا التطرف الذي دعاه القرآن إسرافاً سواء كانت "إرتفاعاً أو إنخفاضاً" ذلك لأنّ الموت النفسي والإجتماعي لم يتسلل إلى الناس كأفراد وجماعات وشعوب ودول إلا من طريق هذا الإسراف المخيف.
- الإسراف والتقتير:
ونحن حين ندرس تاريخ إنشاء الأُمم نجد أنّ الإسراف في ناحية ما، يفضي إلى ضرر صحي وإجتماعي. وقد جاء الإسلام مهذباً يُذكر الناس بالنقطة الفاصلة الكامنة بين الرذيلتين وكم كتب أهلُ العلم فصولاً تعليقاً على قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67)، كأن الآية تذكرنا بالطريق السوي الوسط الكامن المشع بين رذيلتي الإسراف والتقتير وقد علق كثيرون من أهل العلم والأدب على هذه الآيات ما سبقوا به اقطاب علماء الإجتماع منها قولهم:
بين إسراف وبخل رتبة **** وكلا هذين ان دام قتل
ولذا ربى الوحي الإنسان تربية سليمة وتدرج به من نقطة الإبتداء إلى نقطة التطور والتقدم التي ختم الله بها دروس الوحي وجعل الإسلام مدرسة جامعة ضمّن بها للإنسان أسباب سعادته، وجعل الرسالة الإسلامية ختام هذه الجولة، وأراد سيدنا محمداً مُدرس هذه الجامعة وأمده بمعجزات خالدة مع الدهر.
- طرق التوسط:
إذن هناك طريقان للتوسط هما عدم الإسراف الفردي وعدم الإسراف الإجتماعي فالفردي يُقيّم جسماً فردياً هزيلاً، والإجتماعي يُقيّم جسماً إجتماعياً يعيش بعضه بهزال بعض وكأنني بسيدنا الإمام علي (ع) يختصر هذا التوجيه البليغ بقوله: "ما جاع فقير إلا بما اتخم به غني" ذلك لأنّ الدنيا باقتصادها وإجتماعها تشبه مملكة متواضعة تعتمد على إقتصاد يكفيها شر المسألة، لكن يأخذ بزمام ذلك الإقتصاد أقوام ورثوا الشيطان شراهة وضرراً فأخذوا يلتهمون أسهم بعضهم من الإقتصاد وما هي إلا أعوام حتى رأينا بعضهم يموت سغباً وبعضهم يموت شراهة غير متذكرين أنّ الالتفات إلى سد حاجات الأجسام بشراهة يجعل من الناس قوماً يعيشون بسغب بعض وهذا طريق إلى قتل المجتمع كله شراهة وسغباً، وبذلك تتهدم أركانه ويصبح عبرة لذوي الفكر السليم والنهج المستقيم.
وعلى هذا فأمامنا ثروة الأُمم الفكرية، ولو تحررنا من سيطرة مواريثنا لتحققنا أنّ الإسلام وحده يضمن للناس الحسنتين ويدفع عنهم الرذيلتين وهما الإسراف والتقتير الذي يصرح بهما الكتاب الكريم بقوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ...) (الإسراء/ 29)، وهذا هو الفوز بالفضيلة الكامنة كما قال علماء الإجتماع بين رذيلتين ولو رفع الناس – لا سيما من مفكريهم وقادتهم – عن عيونهم غطاء العصبية إلا عمى لتعلموا انّ الإسلام وحده يضمن هذه الفضيلة.
- الصيام والعدل:
والإنسان حين نراه بعين العقل السليم نشفق عليه ونرأف به كأنّه رغم العلم والفكر والتجربة لا يزال في درجة الطفولة، حرم نفسه من كل ما يقومها فخسر بذلك سعادة الحياة وخرج من الدنيا إلى دار أشد هولاً وأكثر حسرة كأنّه يفرض نفسه لأن يطبق عليه معنى الآية الكريمة: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه/ 125-126). وعلى هذا فالتوسط فضيلة لا يبتعد عنها إلا من ألف الإسراف وحرم الفضيلة الكامنة بين الرذيلتين ونلاحظ أن موضوع رمضان يرفع الإنسان إلى مرتبة إنسانيته ويحميه من الإسراف والتقتير وبذلك تشرق إنسانيته ويتذكر أن كثيرين من الناس قد يمسهم سهم الحرمان فيعيشون بحرمان دائم، وعلى ذلك فالذي يرى هذا السهم القاسي يفتك بأخوانه دون أن يهتم يصبح كأنّه شخص مرضت بعض أعضائه فمر بها دون عناية بل أخذ يستغل فقرها ويستخدمها وما زال يستمرىء هذا الهزال الإجتماعي حتى أصيب جسمه الكبير بهزال ناسياً أنّ العاقلين من جميع أدوار التاريخ حذروا من هذا الميل وخوفوا من عواقبه.
وهكذا نرى الصيام يضمن للصائم ولأُمّته جسماً سليماً صحياً وإجتماعياً.

ارسال التعليق

Top