• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحياة المشتركة بين الناس

د. محمود البستاني

الحياة المشتركة بين الناس

التصور الإسلامي:

قبل أن نعرض لدلالة ما هو (اجتماعي): إسلامياً، نعرض لدلالته العرفية أوّلاً، فنقول: يمكن أن نعرف علم الاجتماع بأنّه: (دراسة الحياة المشتركة بين الناس)... وصفة (الحياة المشتركة) هي التي تفرز علم الاجتماع عن غيره من العلوم، لأنّ (الاشتراك) يعني تجاوز ما هو (فردي) من حياة الناس، سواء أكان ذلك في ميدان (التفاعل) فيما بينهم، أو كان ذلك في ميدان (الظواهر) التي تبرز على سطح الحياة المشتركة بحيث تطبعهم بهذه السمة أو تلك. وهذا يعني أنّ علم الاجتماع (أو المعرفة الاجتماعية) يهتم بدراسة عنصرين هما:

(التفاعل أو العلاقات) و(الظواهر أو السمات)...

وعندما نطرح عنصري (العلاقات) و(الظواهر)، لا نطرحهما بالمفهوم الأرضي لهما بل نربطهما بطبيعة التصور الإسلامي حيال الإنسان ومهمته العبادية... إلا أننا نعتزم أوّلاً إلى بلورة ما هو (اجتماعي) في دلالته العرفية، وهذا ما يستاقنا إلى القول أوّلاً: إنّ عنصر (العلاقات) لا نطرحه هنا بمفهومه التقليدي الذي طرحته (مدرسة العلاقات) في تأكيدها على العلاقات المجردة من وظائفها، كما لا نطرح عنصر (الظواهر) بمفهومه الذاهب إلى تناول ما هو (عام) فحسب، بل نطرحهما وفق مفهومهما (العرفي) أوّلاً فيما يعني أنّ ما هو (اجتماعي) يتناول كلّ ما يتجاوز (الفرد) صغر حجمه أو كبره، سواء أكان مرتبطاً بعنصر العلاقات أو الظواهر. والمسوغات العلمية لمثل هذا الطرح، يمكن أن نعرضها على هذا النحو:

-         من حيث العلاقات: إنّ أبرز ما يميّز الحياة المشتركة بين الناس، هو: علاقات بعضهم مع الآخر، حيث لا يمكننا أن نتصور إمكانية أن يحيا الأفراد بمعزل عن علاقات بعضهم مع الآخر: بدءاً من العلاقات التناسلية، مروراً بالتنشئة الاجتماعية، وانتهاء بإشباع حاجاتهم الأولية والثانوية...

-         من حيث الظواهر: بالرغم من أنّ (العلاقات) تحدد ما هو (اجتماعي) أو (مشترك) بين الناس، إلا أنّ هناك أيضاً (ظواهر) و(سمات) تصبح (مشتركة) أيضاً فيما بينهم بحيث تطبع أكثر من واحد منهم، وهو ما يسوّغ جعل الظاهرة أو السمة ذات طابع اجتماعي. وهذا كله من حيث العنصر الذي يضفي طابع (الاجتماعي) على حياة الناس...

أما من حيث (الحجم) و(النوع) أو (الكم والكيف)، فيمكن عرضهما على النحو الآتي:

-         من حيث الحجم: إنّ ما هو (اجتماعي) لا يتحدد بضآلة أو ضخامة العدد الذي ينظم (العلاقات) بين الناس أو الظواهر التي تطبعهم، وذلك لسببين:

الأوّل: إنّ ما هو (ضئيل الحجم) من العلاقات متمثلاً في ما يطلق عليه اسم (الجماعة الأولية): كالعائلة وجماعة الأصدقاء مثلاً يشكّل بمجموعه عدداً كبيراً أو جماعات كبيرة من الناس، مما يعني أنّ المجتمع بأكمله أو غالبيته ينتظم في جماعات عائلية ورفاقية وليس مجرد رقم محدود بالقياس إلى المجموع...

الثاني: في حالة وجود علاقات غير متسمة بطابع العموم أو الانتشار، كـ(الأقليات، أو الجماعة الثورية، أو الزواج غير المشروع) حينئذٍ فإنّ العلاقات أو الظواهر قد تتسم بما هو سويّ من السلوك أو بما هو منحرف، وفي الحالة الأخيرة فإنّ التقليد والإيحاء والمحابات وغيرها من أنماط السلوك الاجتماعي سوف تأخذ فاعليتها في التأثير على الآخرين مما يسمح بانتشارها تدريجيّاً، وبذلك يشكل تهديداً للبناء الاجتماعي وجهازه القيمي، وهذا يستتلي بالضرورة درجه ضمن ما هو (اجتماعي) وإخضاعه للدراسة الاجتماعية، أي: إنّ ما هو "ضئيل الحجم" من العلاقات والظواهر الانحرافية لا يتميز عما هو كبير الحجم منها، حيث يصبّان جميعاً في رافد واحد هو المجتمع بأكمله أو غالبيته من حيث بناؤه الاجتماعي وجهازه القيمي... والأمر كذلك في حالة كون العلاقات أو الظواهر المتسمة بضآلة الحجم ذات طابع سوي (كالجماعة الثورية مثلاً)، مما تتعين دراستها (اجتماعيّاً)، حتى تأخذ مجال انتشارها وتعميمها... وهذا كله من حيث (الحجم).

وأما من حيث (النوع) أو (الكيف)، فإنّ العلاقات والظواهر ينبغي أن تدرس مطلقاً أيضاً، سواء أكانت متسمة بما هو مهم أو بما هو عادي، لأنّ دراسة الأخير (أي العادي أو التافه مثلاً) تخضع لعملية (نقد) وليس لعملية (تثمين)، وحينئذٍ تصبح دراسته لهذه الظاهرة أو العلاقة دراسة (نقدية)، كما تدرس الظاهرة أو العلاقة المنحرفة من أجل إيقافها وعدم انتشارها...

 

الظواهر بصفتها علاقات غير مباشرة:

إنّ فصلنا بين عنصري (العلاقات) و(الظواهر) يظل من أجل الهدف الدراسي فحسب، وإلا فيمكن القول أنّ علم الاجتماع هو (دراسة العلاقات) فحسب، بصفة أنّ الظواهر الاجتماعية تنشطر إلى نمطين، أحدهما: يجسد علاقات مباشرة (مثل ظاهرة الانحراف الجنسي) حيث تتم من خلال علاقات ثنائية مثلاً؛ والآخر يجسد علاقات غير مباشرة (مثل تناول الكحول) حيث ترتبط هذه الظاهرة بالبناء الاجتماعي وبجهازه القيمي، فعندما تبرز ظاهرة تناول الكحول فإنّ انعكاساتها (من خلال التقليد والإيحاء والمحاباة) على البناء الاجتماعي وتهديده بالتفكك يظل أمراً واضحاً، وحتى مع عدم انتشارها فإنّ مجرد شذوذها عن قيم المجتمع يظل تحدياً لجهازه القيمي مما يعني في الحالات جميعاً أنّ ما أطلقنا عليه مصطلح (الظواهر الاجتماعية) إنما هو في الواقع تجسيد لعنصر (العلاقات)، أيضاً، إلا أنّ العلاقات تتسم حيناً بما هو مباشر كالعلاقة بين فرد وآخر أو فرد وجماعة أو جماعة مع غيرها وتتسم حيناً بما هو غير مباشر، كالعلاقات التي ترتبط بكلِّ من البناء الاجتماعي والجهاز القيمي بالنحو الذي أوضحناه...

وفي ضوء هذه الحقائق نتبيّن السبب الذي يقتادنا إلى أن نعرف علم الاجتماع بأنّه (دراسة الحياة المشتركة) وكونها تنشطر إلى عنصرين هما:

(العلاقات) و(الظواهر) وكون (الظواهر) هي في واقعها علاقات غير مباشرة أو مباشرة وكونها جميعاً تتناول ما هو ضئيل الأهمية أو ما هو خطير منها، ... وهذا ما يتصل بتعريفنا لعلم الاجتماع وموضوعاته.

 

المصدر: كتاب الإسلام وعلم الاجتماع/ موسوعة الفكر الإسلامي 3

ارسال التعليق

Top