• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العلم بأعمال العباد

صفية عبدالمطلب

العلم بأعمال العباد
◄قال تعالى: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد/ 8-11).   -        معاني الكلمات: الغيض: ذهاب المائع في جهة العمق، ومنه غيض الماء، أي ذهب في الأرض، ويستعمل الغيض في النقصان، وهذا المعنى هو المراد في الآية بقرينة (وَمَا تَزْدَادُ). المتعال: المستعلي على كل شيء. السارب: الجاري الواضح. المعقبات: جمع معقبة وهو ما يتعقب الإنسان كحواسه وغرائزه التي تحرسه، وقيل إنّها الملائكة. يقف الإنسان مشدوهاً أمام هذا الوصف المحير، فالله سبحانه يعلم ما في بطون الحوامل من مخلوقات في هذا الكون في البر والبحر، في البدو والحضر، يعلم ما تكنه هذه البطون، وكل قطرة دم تزيد أو تنقص، ثمّ يتبع كل هامس، وكل جاهر، وكل مستخف، وكل سارب، يصور علم الله المطلق وهو يتعقب كل فرد من بين يديه ومن خلفه، ويسجل عليه كل شاردة وكل واردة، آناء الليل وأطراف النهار، وهذه اللمسات في أغوار النفس ومجاهيل السرائر لعلها أضخم من اللمسات في الكون الهائل. (وَكلُّ شَيْءٍ عِندهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد/8) فلما ان صوّر العلم بالغيض والزيادة في ما يكون في الأرحام، عقّب على ذلك بأنّ ذلك العلم الخافي والدقيق هو بمقدار، فلا يخلق الله شيئاً عبثاً ومن غير أصول، بل لكل شيء حد ونظام من حيث الكم والكيف، ومن حيث الخواص والآثار، في الكيف من حيث الشكل، والصورة، والمكان، والزمان، والأسباب، والسنن. كل ذلك على ما تستدعيه الحكمة والمصلحة. (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) ليس المراد بالكبر الضخامة، وبالعلو المكان المحسوس، بل كناية عن عظمة الله في ذاته وصفاته، وعلم الغيب ما غاب عنا علمه، وعالم الشهادة ما نراه ونشاهده. انّ الكون مليء بالمخلوقات من شتى الأجناس والأصناف العلوية والسفلية، فمن الجراثيم، إلى الإنسان، إلى الملائكة، إلى الجن، إلى المعدن، إلى النبات والحيوان، إلى الماء والهواء وما فيهما، إلى ما لا نهاية، وقد يعلم الإنسان طرفاً من أشياء الكون، ولكن علمه مهما بلغ لا يعدو شيئاً إلى جانب ما غاب عنه، فأكثر الحقائق وضوحاً تبطن الكثير من الأسرار، ولا يعلم ما في الكون إلا خالق الكون، فهو وحده الذي يتساوى لديه السر والعلن، والغائب والشاهد. ولفظتا (الكبير المتعال) كلتاهما تلقيان ظلهما في الحس البشري، ولكن يصعب تصوير ذلك الظل بألفاظ أخرى، انّه ما من خلق حادث إلا وفيه نقص يصغره، وما يقال عن خلق من خلق الله، أو عن أمر من الأمور، أو عمل من الأعمال انّه كبير، حتى يتضاءل بمجرد أن يُذكر الله، وكذلك المتعال (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85). المعقبات: قال العلامة مغنية في تفسيره للمعقبات التي تتعقب الإنسان أينما كان هي: حواسه وغرائزه التي لها تأثير في صيانته اينما كان، وقال المفسرون: المراد بالمعقبات الملائكة، وجاء في كلام لأمير المؤمنين علي (ع): "ومنهم – أي الملائكة – الحفظة لعباده". وجاء في كلام للإمام الباقر (ع) في تفسير هذه الآية: (يحفظ بأمر الله من أن يقع في ركي، أو يقع عليه حائط، أو يصيبه شيء، حتى إذا جاء القدر خلوا بينه وبينه، ويدفعونه إلى المقادير، وهما ملكان يحفظانه بالليل، وملكان يحفظانه بالنهار يتعقبانه). (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). قال المفسرون: إنّ هذه الآية تدل على انّ القوم الذين يعيشون بنعمة المال والأمن والجاه لا يغير الله عنهم ما بهم ما داموا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، فإن عصوا زالت عنهم هذه النعمة. وقال العلامة مغنية: انّ الله جلت عظمته يبقي الإنسان في البؤس والهوان ما دام في جموده وركوده لا يقاوم باطلاً، ولا يحرك ساكناً للتخلص مما هو فيه، انّ الله لا يغير ما بنا من حاجة حتى نعتقد انّ الفقر من الأرض لا من السماء، وحتى نكافح ونجاهد من أجل تحرير أنفسنا. (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد/ 11). اي إذا أراد الله بقوم سوء من مرض أو فقر ونحوهما من أنواع البلايا بما كسبت أيديهم حين أخذوا بالأسباب التي تصل بهم إلى هذه الغاية فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم، ولا يرد ما قدره الله لهم، وليس من دون الله من ولي يهتم لأمورهم، فيجلب لهم النفع، ويدفع عنهم الضر. المصدر: مجلة الرياحين/ العدد 27 لسنة 1429هـ

ارسال التعليق

Top