◄لقد عُقد المؤتمر العالميّ للشباب الإسلاميِّ الذي ناقش الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في الرياض في الفترة من 20-27 ربيع الثاني 1399هـ الموافق 18-25 مارس [آذار] 1979م، وقد دعي إليه عدد كبير من أبرز علماء العصر المتخصِّصين في مختلف مجالات العلوم، ومن بينهم العالم الجيولوجي البروفسور سيارودا الياباني والبروفسور بالمر الأمريكي اللذين أبديا في بداية المؤتمر اعتراضاً كبيراً على تدخُّل الدين بعلوم العصر، لقد نجم هذا النفور لدى هذين العالمين ولدى العلماء عامّة بسبب عداء رجال الدين المسيحيين للعلوم وقتلهم للعلماء في العصور الوسطى في أوروبا؛ لذا كان العالِمُ آنذاك يكتم علمه ونظرياته ثمّ يموت ويوارى التراب ومعه إنتاجه دون أن يفيد أو يستفيد.
ولكن علماء المسلمين الذين شاركوا بفعالية نشطة في هذا المؤتمر وفي غيره من المؤتمرات التي جاءت بعده في كلٍّ من الرياض والقاهرة تمكَّنوا بأسلوبهم الجميل من النفوذ إلى أعماق هؤلاء العلماء، فاكتسبوا ثقتهم ونالوا إعجابهم، فأخذوا بذلك فرصتهم في المشاركة والتعبير وتبيان ما جاء في القرآن المجيد من معجزات وآيات علميّة قوية وساطعة.
وعلى مرأى ومسمع المؤتمرين والناس أجمعين – من خلال شاشة التلفاز – جرى مناقشة هذين العالمين بما ورد في قرآننا المجيد عن جذور الجبال في باطن الأرض، والتصميم الإلهي الرائع الذي بنيت على أساسه. كما بيَّنوا دور سلاسل الجبال في تثبيت واستقرار قشرة الأرض، وفي الحيلولة دون حدوث الزلازل المدمِّرة التي تنتج عن عدم استقرار القشرة الأرضية، والتي ستقضي على كافة أنواع الحياة عليها لولا هذا التصميم الإلهي البديع.
كما هو معروف تقوم القشرة الأرضية فوق طبقة عميقة من الصخور الرخوة المتحركة تعرف بالسيما. وبما أنّ السيما مضطربة ومتحرّكة باستمرار، لذا فإنّ سطح الأرض سيضطرب هو الآخر وسينجم عن حركته تشقُّقات وزلازل هائلة تدمر كلَّ شيء. لذا شاءت حكمة مهندس الكون ومبدعه أن يضرب في أعماق الأرض أوتاداً تمسك قشرتها وتثبِّتها لتعطي الأرض استقرار وأماناً لمن يدبُّ على سطحها.
لقد تبيَّن منذ عهد قريب أنّ ثلثي أي جبل مغروس في أعماق الأرض وفي طبقة السيما، وثلثه فقط بارز فوق سطح الأرض، لذا يبدو الجبل كالضرس ثابت الجذور لا يتخلخل ولا يتحرّك (وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (الحجر/ 19)، وقال جلّ جلاله: (وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) (الأنبياء/ 31)، وقال سبحانه وتعالى: (وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (لقمان/ 10). معنى راسي أي ثابت. فلكي يكون الجبل ثابتاً لابدّ أن تكون جذوره عميقة جدّاً في الأرض لتحول دون تحرّكه وتحرّك القشرة الأرضية المحيطة به.
وبما أنّ قشرة الأرض وجبالها تعوم فوق الأعماق السائلة المتحرِّكة (طبقة السيما)، لذا فإنّ الجبال ومعها القشرة الأرضية ستميد وتتحرَّك باستمرار حسب قاعدة أرخميدس. فلو وضعنا ثقلاً كبيراً على أحد جانبيِّ لوح خشبيٍّ عائم على سطح الماء فإنّه سيميد (سيميل)، وسينقلب أو يضطرب توازنه ليقع ماعليه. فحسب قاعدة أرخميدس يجب أن تميد الأرض بالجبال الضخمة كجبال هيملايا والألب والأطلس وغيرها، كما يجب أن تغوص هذه الجبال في طبقة السيما السائلة، ولكن شيئاً من هذا لا يحدث، لأنّ الذي بناها سبحانه وتعالى قام بتوزيع الجبال على سطح الكرة الأرضية بشكل يضمن لها توازنها، وبالتالي توازن واستقرار القشرة الأرضية التي اختارها الله لتكون مستقراً لأفضل مخلوقاته. فسبحان مالك الملك الذي (جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا) (النمل/ 61).
لقد شبَّه الله الجبال بالرواسي (جمع مرساة)، وهي التي تمسك السفينة في قاع البحر عندما تستقر في الميناء لتحول دون تحرّكها. كما شبَّهها سبحانه وتعالى بالأوتاد التي تمسك الخيمة بالأرض فقال: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) (النبأ/ 7). فلو لم يجعل الله هذه الجبال كالأوتاد وكالرواسي لكان سطح الكرة الأرضية حسب قانون أرخميدس مسرحاً للزلازل والاضطرابات المدمِّرة.
وقد عوَّدَنا سبحانه وتعالى أن يرينا طلاقة قدرته وعظيم صنعه ومعجزاته في كلّ ما خلق وأبدع، ففي خلق الجبال لفت نظرنا سبحانه وتعالى إلى معجزة جديدة من خلال الآية [10] من سورة فصلت: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا). لقد تأكّد لنا أنّ الجبال إنما وجدت لتثبِّت القشرة الأرضية فتجعلها ملائمة للحياة على سطحها، فالجبال إذن رواسي، والمرساة كما هو معروف تمسك بالسفينة من أسفلها لتثبِّتها في قاع البحر.
هذه هي القاعدة، ولكن القدرة الإلهية المطلقة تفعل ما تشاء حتى ضدّ القواعد وضد قوانين الطبيعية، فالجبال تمسك بالقشرة الأرضية من سطحها أو من فوق سطحها وليس من أسفلها ولا من أعماقها؛ فرغم مخالفة قاعدة المَسْك إلا أنّ هذا المسك ثابت ومستقر منذ الأزل. ومن طلاقة قدرته سبحانه وتعالى أن خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ضلع آدم من غير أب ولا أم أيضاً، وخلق عيسى (ع) من أم ودون أب، وخلق يحيى وإسحاق – عليهما الصلاة والسلام – من والدين عجوزين أو عقيمين... وهكذا. فسبحانه وتعالى من خالق عظيم ومبدع.
عندما انتهى المحاضر المسلم من شرح هذه الآيات قال البروفسور بالمر وسيارودا: ليس من المعقول أن يكون هذا كلام البشر، خاصة وأنّه قيل قبل أكثر من 1400 سنة، لأننا لم نتوصَّل إلى هذه الحقائق العلميّة إلّا بعد دراسات مستفيضة، قام عليها أجيال متعاقبة من العلماء، مستعينين بتكنولوجيا القرن العشرين، التي لم تكن متوفرة في ذلك العصر الذي ساد فيه الجهل والتخلُّف والانحطاط على كافة أنحاء الأرض.
لقد حضَّر هذا النقاش العالم فرانك بريس مستشار الرئيس الأمريكي كارتر، الذي تخصَّص في علوم الجيولوجيا والبحار، فدهش لروعة ما جاء في القرآن الكريم وأيَّد رأي سيارودا وبالمر، ثمّ قال: لا يمكن لمحمدٍ أن يلم بهذه العلوم والمعلومات، ولابدّ أنّ الذي لقنه إيّاها هو خالق الكون العليم بأسراره وقوانينه وتصميماته.
نعم، وألف نعم، فهذا القرآن كتاب الله وكلامه نزل به الوحي الأمين على النبي الأمي، نعم لابدّ أن يكون القرآن كلام الله، لأنّه وحده سبحانه الذي يلمُّ بقوانين الكون، وهو وحده المسيطر المهيمن عليه منذ الأزل، وسيبقى كذلك حتى قيام الساعة: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان/ 6)، لأنّه لو كان من عند غير الله لكان ركيكاً ضعيفاً متناقضاً بعضه مع البعض الآخر، وكان سيعوزه الانسجام والجمال والبديع العلمي واللغوي والأدبي: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء/ 82)، وقال جلَّ جلاله داعياً الناس للتأمل في عظيم قدرته منذ بدأ خلق الكون والأرض وما يدبُّ عليها وما يخرج منها: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت/ 19-20).
بعد أن سمع البروفسور الياباني سيرودا مزيداً من الآيات ومن الإعجاز القرآنيِّ في هذا المؤتمر نفذ نور الله إلى أعماقه فمحى ما فيه من حقد وكراهية للأديان كان قد ورثها عن أسلافه من العلماء ثمّ فاجأ المؤتمرين وملايين المشاهدين على شاشة الرائي (التلفاز) وهو يلقي الشهادتين معلناً إيمانه ودخوله في رحاب الإسلام.
لقد كانت أحداث المؤتمر جيّاشة حرَّكت القلوب والمشاعر وهزّت أركان الكفر واقتلعت جذوره من القلوب المتحجِّرة المعادية للإسلام، فآمن عدد لا بأس به من جهابذة العلم البارزين الواحد تلو الآخر، وكانت صيحات الحاضرين تكبِّر وتسبِّح بحمد الله وبعظيم قدره وقدرته: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (النمل/ 93)، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28)، (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سبأ/ 6)، وقال جلّ جلاله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت/ 53).
لذا سارع يا أخي إلى تدبُّر آيات القرآن والتمسُّك بتعاليم الدين الحنيف، ولا تقنط من رحمة الله سبحانه وتعالى مهما ظَلمتَ نفسك ومهما تماديت في المعاصي وارتكبت من الآثام.. عد إلى محراب الإيمان تجد الله تواباً رحيماً: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (النساء/ 64)، كما قال سبحانه وتعالى مرحباً بالعائدين إليه: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 133)، وقال جلَّ جلاله هادياً ناصحاً: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد/ 16)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) (النساء/ 174).
بعد أن أنزل الله الآيات الدَّالات، والمعجزات الساطعات، وبعد أن وعدنا مغفرة منه ورحمة – ووعده الحقّ سبحانه – لم يعُد للكافرين على الله حجَّة إن ختم قلوبهم بالكفر، وطردهم من رحمته، وأنزل بهم عذابه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا) (النساء/ 56-57).
فآيات الله واضحة ووجود الله أوضح، والخيار بين الكفر والإيمان قائم إلى ما قبل غرغرة الروح في الحلقوم، والقيامة والحساب آتيان لا محالة، وهناك سيُساق الناس إمّا إلى الجنّة ونعيمها المقيم، وإمَّا إلى النار وعذابها الأبديِّ الذي لا موت بعده.
المصدر: كتاب وجود الله بالدليل العلمي والعقلي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق