• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

روافد الإيحاء بالحِكَم المتوخاة من الصوم

السيد محمّد باقر الصدر

روافد الإيحاء بالحِكَم المتوخاة من الصوم
◄تتمثل هذه الروافد في كلّ ما يشير إلى الحكم المتوخاة من الصوم أوّلاً. ومن تشريعه في هذا الظرف ثانياً.

 

حِكَم الصوم:

والبحث فيها يدور حول أمرين:

الأمر الأوّل: في حكم الصوم النابعة من كونه أحد أجزاء نظام العبادات في الإسلام.

الأمر الثاني: في حكمه النابعة من طبيعته وشروطه الخاصة.

 

حكم الصوم باعتباره فرداً من العبادات الإسلامية:

الذي يمكن استخلاصه من موارد عديدة أنّ لفظة (العبادة) ومشتقاتها قد استعملت في القرآن الكريم والأحاديث بمدلولها العرفي الذي يمكن أن يخلّص في العبارة التالية:

العبادة الإسلامية: (القيام بما تقتضيه العبودية المطلقة لله – عزّ وجلّ – من صوغ الحياة وفق إرادته ورضوانه).

إذ المتبادر الأولي من الألفاظ هو مدلولها العرفي وخصوصاً قبل أن يشيع أي اصطلاح لنقلها إلى مدلول آخر.

كما أنّ من الملاحظ أنّ العبادة لله جعلت غاية للخلق الشاعر بعوالمه المختلفة كما تنص عليه الآية الكريمة:

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56).

والعبودية كلما تركّزت في ضمير الإنسانية شعّت بمفعولها على حياتها وسلوكها، وقادتها نحو الالتزام الكامل الواعي بالشريعة التي قررها المولى – على ضوء الواقع – وحينها فقط يمكن أن يضمن السير في طريق الكمال الذي أراده خالق الإنسان للإنسان.

وقد واجه الأنبياء – أوّل ما واجهوا – قومهم بعبارة (اعبدو الله) – كما ينقله القرآن الكريم –، وجاهدوا في سبيل تحقيق مضمونها في أممهم وقدّموا تضحيات غالية. وهذه التضحيات لا يعدلها إلّا أن يكونوا قد طلبوا منهم – أي من أممهم – صوغ الحياة وفق هدى الله.

على أنّ الكثير من وقائع التاريخ الإسلامي تؤكد هذه الاستفادة إذ تعتبر العبودية القائمة: التزام المرء بكلِّ ما ورد من تشريعات إسلامية.

فالإمام موسى بن جعفر (ع) يمر على دار أحد المترفين وهو غارق في بحر لذاته وطربه فيرى جاريته وقد خرجت لتلقي بقايا الطعام فيسألها عن صاحب الدار أهو حر أم عبد، وعندما تجيبه بأنّه حر يوضح لها الأمر بأنّه لو كان عبداً لخاف من مولاه. وكانت هذه العبارة سبباً لإقلاعه عن كلِّ تلك المجالس والانحرافات.

ولكن الفقهاء – رضوان الله عليهم جميعاً – جعلوا بعض الأعمال المهمّة ضمن قسم خاص، واصطلحوا على تسميته بـ(نظام العبادات) وهو يضم. كلّ عمر يشترط في صحته قصد القربة إلى الله تعالى، إذ العمل لا يؤدي ثماره المرجوّة إلّا إذا توفر هذا العنصر النفسي، ومن هنا كانت هذه الأعمال أفضل أنواع العبادة بمعناها العرفي، وأولى مصاديقها بها.

والفقهاء – رحمهم الله – يرون أنّ الإنسان يستطيع أن يحوّل حياته إلى حياة عبادية بالمعنى المصطلح وذلك بأن يشعر في كلِّ سلوك وخطرة بأنّه يقوم بذلك اتباعاً لرضا الله – طبعاً بعد أن يتأكد من مشروعية ذلك السلوك –.

والآن ما هي أهم معطيات العبادة بالمعنى الأخص؟

يتلخص أهم تلك المعطيات في:

1-   تركيز معاني العبودية في النفس الإنسانية، والسعي نحو الكمال، فقد جعل الله تعالى العبادة غاية من الخلق، وهي تعني أنّ الإنسانية لن تجد كمالها إلّا إذا ارتفع لديها المقياس العبودي إلى درجته القصوى، فالعبودية كلما تأصلت قربت الإنسان من واقعه وسرت به إلى الحقيقة الكبرى وهذا تنطوي تحته كلّ وسائل الرقي والتكامل.

ونظام العبادات يقوم بدور رسم الخطوات التي يجب أن تواكب مسيرة الإنسان، كضمان بقاء على الخط، وشعار إخلاص له، وتذكير دائم بالحقيقة الكبرى، وهذا المعنى يؤدّي إلى:

 

تحديد مركز الإنسان في الكون:

وذلك بإشعاره بوجوده على حقيقته، وارتباطه برابطة العبودية بخالق جبار رحيم مسيطر له الأمر من قبلُ ومن بعد، خلقه ووضع له نهاية، وهداه فيما بين المنطلق والنهاية بشرائع عليه أن يطبقها في مسيرته، وهذا ينتج ما يلي:

أ‌)       إشباع غريزة أصيلة في النفس الإنسانية وهي غريزة حب الاستطلاع.

ب‌) نفي ظاهرة (القلق) التي نراها عند الإنسان المنفصل عن الله تعالى... القلق الناشئ عن مجهولية الماضي والمستقبل، والضياع الحاضر.

فعندما تتوضح للإنسان خطوط مسيرته، ومنطلقها وغاياتها، يغمر قلبه شعور بالاطمئنان والسند النفسي الدافع، وتصدق الآية الكريمة:

(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرّعد/ 28).

ت‌) التحرر من كلِّ الظواهر الصنمية، والخضوع لله دون غيره. فظاهرة الصنمية – كما يقول أحد كبار العلماء – تنشأ في حياة الإنسان إما من طمع العبد في المعبود الوهمي، أو جهله بحقيقته، ونظام العبادات بتحديده لمركز الإنسان وتعميقه للوحدانية الإلهية في وجدانه يذهب بكلا هذين المبررين، ويعود العبد حراً مستقلاً في إرادته عن كلِّ شيء إلّا إرادة الخالق العظيم وتشريعه.

ث‌) توسيع أفق التعامل الإنساني، فحينما يشعر بمركزه من الكون، يشعر بالوحدة بينه وبين كلّ المخلوقات وخصوصاً بينه وبين أفراد جنسه من بني آدم... وهكذا يكون هذا منشأ لرابطةٍ أراد الله تعالى أن تشمل كلّ أنواع تعامل الإنسان مع غيره وهي (رابطة الحب).

2-   إشباع متطلبات غريزة التدين بصورة صحيحة.

وهذه الغريزة لا يسع أي إنسان موضوعي أن ينكرها. وكلّ ما نشاهده من نزوع إلى التدين بمختلف أشكاله، وعند جميع الأُمم، وفي مختلف العصور؛ ليشهد بحقِّ أنها غريزة أصيلة في النفس الإنسانية، وإن اختلف التعبير عنها.

ولما كانت هذه الغريزة الأصيلة تتطلب نوعاً من التعبير عن نفسها؛ فقد جاء نظام العبادات ليشبعها الإشباع الصحيح المنتج... الإشباع الذي يحقق التوازن في الإشباع العام لكلِّ الغرائز الإنسانية، وليركز أصوله العقائدية في كلِّ شكل تعبيري، بل ويتجاوز الأصول العقائدية ليركز معاني فوقية: كالحب للآخرين، والمواساة، والمساواة، وغير ذلك مما لا مجال هنا لتفصيله.

3-   الإخلاص:

والإخلاص تربية العبادات عن طريق اشتراط قصد القربة إلى الله فيها، وهو أمرٌ يعلمه من العابد أحد إلّا الله.

وهذا الالتزام الكامل يجسد له معنى مراقبة الله إلى واقع حي محسوس... مما يكون له أبعد الأثر في كلِّ سلوك يقوم به الإنسان... فيدفعه لأن يكون مخلصاً في حياته لخالقه العظيم، فالإخلاص هو سر حيوية أي عمل، وهو روح بدونها يصبح العمل خواءً لا عطاء فيه.

وإذا تربى ضمير الإنسان على الإخلاص له تعالى؛ فإنّ ذلك يسري إلى أي عمل آخر، ويحوّل الفرد من مخلوق يعبد ذاته ومصالحها، إلى مخلوق يربط مصالحه وأعماله كلها بإرادة الله. ويسعى جاهداً لتحقيق رضاه، وهذا يعني في النهاية الاشتراك الإيجابي الفعّال في عجلة المسيرة الإنسانية إلى آفاقها الصاعدة.

إنّه يتناول نية المرء لينقيها من الشوائب، ولينبّه فيها الطاقات الخيّرة.. ومتى صلحت النيّات وتفجرت فيها طاقات الخير قامت بدورها الدافع بلا احتياج إلى تكرار طلب، وتزيين نتائج من قبل من يتطلب ذلك. فإذا صلحت نيّة القائد قام هو بأعباء القيادة والتنظيم بلا احتياج للترغيب، وهكذا بالنسبة للتاجر فإن تم لديه ذلك صار هو يتطلب بنفسه موارد الخير. هذا بخلاف ما لو اندفع للمساهمة في مشروع بدافع غير الإخلاص فإنّه والحالة هذه قد يساهم في مشروعات أُخرى ولكن بعد تكرار الطلب وتزيين النتائج وغير ذلك.

ومن هنا كانت (نية المرء خيراً من عمله) و(إنما الأعمال بالنيات) وقد ركز القادة المعصومون على هذا الجانب التربوي المهم بما لا مجال لذكر تفاصيله هنا.

وها هو (ص) يطلب من الأُمة أن تسأل ربّها في شهر الطاعة والصيام (بنيات صادقة، وقلوب طاهرة) إذ ذلك هو شرط التوجه الكامل المطلوب من كلِّ عبدٍ يسأل مولاه العظيم.

وبقيام الإنسان بأداء العبادات وتوجهه لمعانيها الحياتية تتواجد في نفسه شيئاً فشيئاً خيوط التربية الإلهية للذائذه المعنوية التي تثير في نفسه نوعاً من الشوق قد يصل – ويصل حقاً بالمثابرة – إلى مرحلة يقدّمها على كلِّ اللذائذ المادية المعهودة.

وأخيراً:

يجب أن لا نتناسى ذلك الثواب الأُخروي الجزيل على أساس أنها أمر إلهي أطيع بدقة فأوجب بلطف الله ثواباً جزيلاً وعطاءً عظيماً.

الأمر الثاني:

حكم الصوم بما هو إمساك مشروط بشروط خاصة، ويمكننا هنا أن نلخص أهم الحكم المتوخاة في نقاط، ملاحظين أنّ بعضها قد يشترك – في الأداء إليه – الصوم وغيره، ولكنها على أي حال ليست صفة عامة لكلِّ العبادات حتى تدخل ضمن النقطة السابقة، ولذا جعلت في الجانب الخاص.

وهي كما يلي:

1-   التدريب على الصبر:

وقد فسّر الصبر في الآية الكريمة: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة/ 45)، بـ"الصوم". وقد يكون هذا تفسيراً بأحد الأسباب إذ الصوم يوجد ملكة الصبر في الإنسان، كما يحتمل أن يراد بالصبر الصوم فقط باعتبار كونه صبراً على بعض المتاعب.

وعلى أي حال، فالصوم يوجد – ولا شكّ – ملكة الصبر، وتغليب التعقل في موارد التنافي بين مقتضاه ومقتضى الغرائز.

ولسنا هنا في مقام التفصيل حتى نعرض الصور الهزيلة التي تنطبع في أذهان الكثير من المسلمين، والتي حولته من مفهوم مِعطاءٍ بَنّاء؛ إلى مفهوم سلبي يقرب من معنى تقبل الظلم وهذا هو التحريف الفظيع.

ولكن يجب أن نلاحظ أنّ التبصر بحقيقة الإسلام والحالات التي أُمِرَ فيها بالصبر، والموارد التي أُمِرَ فيها برد الصاع للظلم والقضاء على فتنته، وكيف اعتبر تقبل الظلم بلا مبرر أمراً مردوداً تماماً، يخرج بمعانٍ إيجابية أخرى لا ربط لها بكثير من تصوراتنا. والصبر إنما هو:

"عملية تجميع الطاقات – في ظرف يسيطر على الإنسان فيلجئه لتبذير طاقاته لصدمة معينة – والاحتفاظ بها إلى حين إمكان الاستفادة منها بصورة أتم في لحظات (الفَرَج)".

وله تطبيقاته المختلفة باختلاف الموارد ومنها مورد (تحكيم الإرادة الواعية فيما إذا اقتضى الهوى الإغراق في إشباع نزواته).

فالصبر في النتيجة يعني قوة عنصر التعقل الضابط لكلِّ تصرفات النفس، والموجه لها وجهة صحيحة.

وهذا العنصر في الحقيقة هو سر تميُّز تصرفات الإنسان عن غيره.

فيمكن القول – إذن – بأنّ الصوم حينما يربي في الإنسان الإرادة الواعية؛ فإنّه يربي فيه إنسانيته المتميزة. إذ لولاها لكان الإنسان في مرتبة وضعية جدّاً ولولاها لما استطاع أن يشق طريق الحياة الصعب ويعبر أمواجها المتلاطمة.

ولذا نجد هذا هدفاً مرحلياً لكثير من التشريعات العملية – كما في الصوم والحج وغير ذلك – وكثير من التوجيهات الفكرية للقرآن الكريم والأحاديث الشريفة، فالقرآن الكريم يذكر لنا قصة الملأ من بني إسرائيل الذين شعروا بضرورة القتال في سبيل الله، وقد وفّر الله لهم القيادة الهادية والقوية ولكن عليهم أن يمرّوا بامتحان عملي لقياس مقدار الإرادة التي يمتلكونها؛ باعتبار الإرادة سراً من أسرار التفوق في كلِّ ميدان؛ وبقاء الدافع النشط للإصرار على الكفاح:

(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ) (البقرة/ 249).

فأولاء لم يقاوموا إغراء الماء وهم عطاش فلم يجتازوا الامتحان... وهؤلاء – وهم الفئة القليلة – سيطروا وصبروا وكان لهم شرف الفوز في الامتحان المقدّس.. وفي حين تقاعس الجيش عن قتال ضارٍ أمامه بعد أن أرهبه العدو بعُدَّتِهِ وعدده، تقدمت الفئة القليلة وشعارها:

(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 249).

وكانت النتيجة أن حملوا على الأعداء

(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة/ 151).

وها هي بدر – منعطف التاريخ الإسلامي – أمامنا. تجسد لنا نفس هذا المعنى إذ انطلقت فئة قليلة رباها الصوم – في رمضان المبارك – لتجاهد في سبيل الله أعداء الله بكلِّ ما لديهم من عدة وعدد، وشعارها نفس الشعار، وكان النصر حليف الصابرين.

كان هذا نموذجاً للتربية الفكرية وعرضاً لنموذج عملي – مما جرى في الأُمم السابقة – لأجل التدريب على الصبر باعتباره الإرادة الخيّرة المدركة.

والصوم أحد التشريعات التي تُوجدُ هذه الملكة، بل من أهمها. وقد وصف الرسول (ص) الشهر المبارك بأنّه (شهر الصبر).

ولما كان الصبر في الحقيقة يعتبر أقوى مساعد في حصول ملكة التفاضل الكبرى في الإسلام، والعامل الإيجابي الدافع نحو كلّ خير، ونعني بذلك (التقوى) فقد وجدنا الآية المباركة تجعل غاية تشريع الصوم، حصول التقوى فيقول تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

كما أنّ النبي (ص) أسمى شهر رمضان بـ(شهر الجهاد) باعتبار أنّ التحمل الذي يحصل؛ يخلق الشخصية الفردية والاجتماعية القوية المتحمّلة لأي ألم يقدّره الله لها، ومع حصول هذه الصفة فإنّ الأُمّة والفرد لن يغلبا في أية معركة.

2-   تثبيت الإخلاص:

قلنا إنّ الإخلاص خاصة من الخواص التي تخلقها العبادة في النفس باعتبار لزوم توفر قصد القربة فيها، إلّا أننا نجد أنّ في الصوم زخماً أكبر من الحد المشترك بين أفراد العبادة كلّها، ولذا عبرنا عن ذلك بعنصر تأكيد الإخلاص وتثبيته، متبعين في ذلك قول السيدة الزهراء الطاهرة (ع) في خطبتها في المسجد بعد وفاة أبيها (ص) إذ قالت – في معرض بيانها لغايات بعض الأحكام –: "والصَّومَ تثبيتاً للإخلاص".

وذلك التثبيت والتأكيد يحصل بأمرين:

الأمر الأول: هو أنّ كلّ العبادات الأخرى تشتمل على ظواهر وشكليات معينة تبدو على من يقوم بتأديتها، مما يمكن أن يكون ذلك مؤدّياً لدخول عنصر الرياء والشرك الخفي – والعياذ بالله –، والشرك – كما ورد – يدب دبيب النمل!! بينما الصوم ما هو إلّا عملية إمساك واقتناع يقوم بها الإنسان ولا يعلم بها إلّا الله تعالى.

الأمر الثاني: هو أنّ مجرد التردد في النية كافٍ لإبطال الصوم وتحقق بعض التبعات كوجوب القضاء على الإنسان – كما يقول الفقهاء والأعاظم – وليس ذلك بمضر في الصلاة – مثلاً – مالم يستتبع عملاً منافياً لها.

وهذا التثبيت يُوجِدُ ملكة مراقبة الله في كلِّ آن. فالإنسان الصائم ممتنع عن المفطرات، وهو يجعل امتناعه في كلِّ لحظة قريباً... وهذا المعنى إذا تكرر شكل ملكة مراقبة الله تعالى في كلِّ لحظة من لحظات الحياة.

3-   المواساة:

لا ريب في أنّ الإنسان، تبعاً لكونه ألصق بعالم المادة، يتأثر بمحسوساته أكثر من تأثره بمعقولاته، فقد يتأثر بالوصف المعنوي لحالة ما ويتفاعل معها فكرياً، ولكن هذا التفاعل والتأثر لن يكون على أي حال شبيهين بتأثره وتفاعله حينما يعيش تلك الحالة بصورة حسية.

وللتمثيل يمكننا المقارنة بين حالة إنسان تصف له معركة طاحنة فيتأثر، وحالته عندما يحضر هو، ويشاهد بأم عينيه تلك المعركة الطاحنة.

والصوم – كما هو جلي – عملية تجسيد لألم الجوع والعوز. إذ يعيش الناس آلام الحرمان.. والطعام والجنس أمامهم... وتلذعهم حرارة الجوع البطني، والجوع الجنسي، ويحصل التأثر بهذه اللذعة ويتوسع فيشمل آلام الآخرين التي لا تقل عن آلامهم.

وبحصول هذا الشعور، فالمواساة الإنسانية تنبع من أعماق الفطرة والضمير، وبالتالي ينبعث الإنسان نحو تحقيق لوازم ذلك الشعور... وحينها يحقّ للشهر أن يُدعى (شهر المواساة) كما دعاه رسول الله (ص).

إنّ شعور الغني بلزوم مواساة الفقير، وشعور الفقير بالعطف والتساوي بينه وبين الغني، وبالتالي شعور بني البشر جميعاً بأنّ عليهم أن ينفوا هذه الفروق العارضة قدر المستطاع، كما هي منتفية في مجال التقييم، إنّ كلَّ هذه الأحاسيس تشكل بعض الخير في (شهر الخير). ويكون الصوم بذلك عاملاً فعّالاً من عوامل نشر الروح الإنسانية، والمناقبية الإسلامية بين الأفراد.

4-   التذكير بالنعم:

عامل الغفلة التي تصيب الإنسان شيء لا يمكن إنكار آثاره في حياتنا... وهو في حدّه الطبيعي نعمة من نعم الله العظمى على الإنسان، وإلّا فكيف نتصور حياة الإنسان الذي تتجلى له كلّ محنه ورزاياه في كلِّ لحظة من حياته، انّه سيكون إنساناً محطّماً، قلقاً، لا يقدر على شيء.

وهذا العالم قد يطغى في الإنسان فلا تعود المنبهات الطبيعية لتؤثر في إيقاظه من غفلته، وذلك كما في مسألة الموت...

أليس الجميع على يقين من الموت؟ ولكن كم من عاملٍ عَمَل من لا يحتمل الموت مطلقاً؟ إنّها الغفلة التي تقارن حتى اليقين، والتي لا تثيرها المنبهات المتوالية.

وما أن يعيش الإنسان ظرفاً أو حالةً معينةً حتى يخيل له أنّ هذا شيء دائم لا يتغير مع أنّه يرى التغير سنّة كونية.

ومن هنا نجد عوامل كثيرة تُخرج الإنسان عن الحد الطبيعي للغفلة. فنراه مثلاً ينسى النعم العظيمة التي تغمر وجوده، ولكنه لا يشعر بها ولا بأهميتها إلّا بعد فقدها. ولذا قيل في المثل (نعمتان مجهولتان: الصحة والأمان).

ولو كان لي أن أضيف إلى المثل – مستوحياً من الظرف الحاضر للإنسان – لأضفت إليه: (والإيمان والقرآنُ وأهل البيت – عليهم السلام –).

فهي أكبر النعم ولكنها وقعت موقع النسيان من قبل هذا الإنسان المسكين.

وعلى أي حال فإنّ الصوم يعتبر أروع مذكّر للإنسان بما أنعم الله عليه من خيرات... فهو يفرض على المسلم أن يمتنع عن الطعام اللذيذ، والجنس المترف، وهما أمامه يبصرهما ولا يدنو إليهما... لأنّه ممنوع من ذلك. إنّ هذا الموقف ليثير في الإنسان حتماً هذا التساؤل: ماذا لو حُرِمَ من هذه النعم، أو فقد إمكانية الاستفادة منها دائماً؟ وماذا أعدّ لأداء حقّ هذه النعم العظمى من شكر لواهبها على منته وفضله؟

إنّ حرمانه المؤقت من هذه النعمة يوسع من أفقه ويجعله يشعر بالنعمة أوّلاً، ومن ثمّ يشعر بنعم الله الكثيرة الأخرى بالتداعي. وحينها تتم عملية دفع أخرى نحو الله – تعالى – تنتج بالتالي تطبيقاً – أو مساعدة على تطبيق – لأسس العدل البشري، والتعاون في مضمار صنع الحضارة الإنسانية، وسد الثغرات التي ينبع منها الشر.

5-   التذكير بمواقف الآخرة:

يقول (ص) في خطبته الشريفة: "واذكروا بجوعكم وعطشكم جُوعَ يَوم قيامة وعطشه".

فهو (ص) – بعملية إيحاء مركزة – يطلب من الأُمّة أن تتذكّر – وهي تجوع وتعطش – موقفاً أكبر من هذا الموقف، يشكل الجوع والعطش فيه أحد العوامل المحيرة للفكر. إذ ترى الوجوم والسكون، وقد خشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلّا همساً: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج/ 2).

وهكذا ينتقل الإنسان من عملية أرضية تدريبية إلى موقف معنوي ضروري التصور، أساسي في مسألة بناء الحياة المتكاملة.

وبحصول ذلك التصور يندفع ليعمل ما يقيه شر ذلك اليوم، ويحشره في ثلةٍ طاهرةٍ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة/ 22-23).

وذلك بالالتزام الكامل بكلِّ ما يضمن له عدم الضلال.

وبذلك – أيضاً – يكون الصوم قد حقق عملية دفع أخرى نحو التكامل بالإضافة لما سبق من دوافع.

6-   الحكمة الصحية:

انّ النصوص تؤكد على أنّ للصوم أثره الفعّال في الجانب الصحي من جسم الإنسان. وقد أكّدت البحوث الصحية العالية ذلك بما لا يدع مجالاً للشك في الفوائد. والنصوص التي تذكر ذلك يمكنها أن تؤثر نوعاً ما في خلق جذب معيّن نحو الصوم وخلق الرغبة فيه..

هذا إلى ما هناك من حكم أخرى. الله أعلم بها.

كلّ هذه الحكم – العامة منها والخاصة – عندما تتجسد أمام الشعور، وتصب فيه إلى جنب الروافد الأخرى، ينبعث العامل الصائم جاهداً ليجعل عمله بالمستوى المطلوب ملائماً بين ما يؤديه فعلاً، وما ينبغي أن يؤدى حتى تذوب المسافة بينهما، فتتحقق المعطيات التي لا توصف.

ولئن كان في الصوم – بجانبيه العام والخاص – حِكَم؛ فإنّ في الظرف الذي يؤدى فيه حكمة كبرى، فما هي تلك الحكمة؟

 

المصدر: كتاب نظرة عامة في العبادات

ارسال التعليق

Top