إنّ الصحة النفسية تهدف إلى تنمية الفرد، وجعله قادراً على نشاط مثمر، وربط علاقات سوية مع الغير، مع التمتع بإتزان سوي وإرادة ثابتة وعقيدة مثلى ليعيش في سلام وسعادة مع نفسه وذويه، ومع المجتمع بصفة عامة.
هذا وكي يستقر المجتمع في الأمن والطمأنينة يتحتم على أفراده أن يتمتعوا بمقدار أدنى من الصحة النفسية.
ذلك انّ الصراعات التي يخوضها المرء طيلة حياته من شأنها أن تتسبب في اضطرابات نفسية وعصبية شديدة، تصبح أحياناً في غاية من القساوة، إن لم يقع حلها، بل الاتقاء منها بصفة مرضية مسبقاً وبكلِّ الوسائل التربوية الكفيلة لذلك.
وأخطر الصراعات تتمثل في التناقض بين قوى الخير والشر وبين الحلال والحرام كما تتمثل في الأنانية المفرطة، وفي الحقد والحسد والشعور الحاد بالحرمان والعدوان الناتج عن ذلك وإجمالاً تتمثل هذه الصراعات في الرغبات الملحة لتحقيق الشهوات مهما كانت الطرق والحيل المستعملة لهذا الغرض.
ومن أهم الأعراض النفسية مشاعر القلق، والحصر، والشعور بالحرمان، أو بالذنب والخطأ. أو بالعكس الميل إلى العدوان، والتهجم على الغير، أو على النفس وإلى السلوك المضطرب المنحرف الخارج عن القيم والمقاييس الاجتماعية القويمة.
ومن هنا نفهم الروابط والفوارق التي تقوم مثلاً بين القيم الأخلاقية وخاصة الدينية منها، والتحاليل النفسية الفرويدية. حيث انّ نظرية العالم النفساني فرويد يمكن أن تؤدي إلى سيطرة الغرائز الشهوانية عامة، وخاصة الجنسية منها ولربما تشجع على تحقيق الرغبات والشهوات في مفهومها السطحي الشائع، بينما تحت القيم الأخلاقية الصحيحة وخاصة الدينية منها على التحكم في الدوافع والتغلب عليها بسيطرة النفس الفاضلة أو العقل أو بعبارة أخرى الضمير وهو الأنا الأعلى عند فرويد.
ونفهم إذن كيف لا يسعنا في مجتمعنا العربي الإسلامي إلا أن نتماشى مع هذه القيم الحضارية الأصيلة التي لا تزال – والحمد لله – قائمة في غالب النفوس، ونعالج الفرد من الصراع الذي يتخبط فيه انطلاقاً من هذه المقاييس.
وكثيراً ما يكون الإنسان يفهم خطابنا هذا ولا يفهم كلاماً آخر، مثل الكلام الغامض المعقد الذي نستخرجه من بعض النظريات شبه العلمية الغربية المصدر، والتي لا تنفك تبقى يوماً بعد يوم عرضة إلى الانتقاد والمراجعة في المجتمع الغربي نفسه. زد على ذلك – كشرط تقني أساسي للتشخيص والعلاج – ضرورة فهم الإنسان من الداخل والتماشي مع اعتقاداته وقيمه، وإجمالاً مع قواعد شخصيته الأساسية وهو الأفضل لمعاينته الدقيقة ولتركيز تشخيص عدة اضطراباته بصفة قويمة وناجعة.
هذا والمعروف انّ الدين الإسلامي كثيراً ما يكون وسيلة لتحقيق السلام النفسي وهو إيمان، وأخلاق، وعمل صالح. وهو الطريق إلى سيطرة العقل، وإلى التعاطف، والتآخي، والمحبة بين الناس. وهو السبيل القويم إلى القناعة، والاقتناع، والارتياح، والطمأنينة، وبالتالي إلى السعادة والسلام.
وقد كتب وألَّف الكثير من العلماء والفقهاء ورجال الفكر المسلمين في ذلك، وانّ كلّ مذاهب الفلسفة الإسلامية التي تعرضت إلى تحليل الروح والنفس وتحليل جوهرها قد أتت – كما هو معلوم – بتعليم قيمة لتحقيق السعادة والاطمئنان للأفراد والجماعات عبر الزمان والمكان.
1- طريقة العلاج الديني:
يضع البعض "العلاج الديني" الذي يقوم على مبادئ روحية سماوية مقابل "العلاج النفسي" الدنيوي الذي يرتكز على السعادة في الدنيا بكلِّ جوانبها المادية والأدبية ويقصد بذلك طرق العلاج التي تقوم على أساليب ومفاهيم وضعها البشر. لكن الدين يوفر أحياناً الأمن الذي قد لا تستطيع أساليب علم النفس المعاصر أن توفره، ومع ذلك ففي طرق العلاج النفسي الدنيوي نجد بعض أعلامه يؤمنون انّ الدين عامل هام في إعادة الطمأنينة في النفس.
فقد أكّد مثلا كارل يونج Young أهمية الدين وضرورة إعادة فرص الإيمان والرجاء لدى المريض.
وأكّد ستيكل Steckel أهمية تدعيم الذات الأخلاقية على هذا الأساس. ومن ذلك يصبح العلاج النفسي الديني من أهم أساليب التوجيه والإرشاد والتربية والتعليم. ويقوم على معرفة الفرد لنفسه حسب المبادئ الروحية والأخلاقية العقائدية.
هذا ويحلل تيسير العلاج الديني على أساس:
أ- الاعتراف:
وهو يتضمن شكوى النفس طلباً للغفران وكثيراً ما يستعمل الفرد الوسائل الدفاعية اللاشعورية مثل الكبت، والإنكار، والتحويل أو التبرير، وغيرها كي يخفف التوتر الذي ربما ينتج عن الشعور بالذنب والخطأ أو عن العدوان الظالم الشرير.
ولذلك يجب على المعالج مساعدة المريض على الاعتراف بخطاياه وباندفاعاته العدوانية المكروهة، وتفريغ ما بنفسه من الانفعالات ومشاعر الإثم الهدامة، ويتبع الاعتراف الرجوع إلى الحقّ والفضيلة والتوازن النفسي السليم مع الذات.
ب- التوبة:
وهي تنشد المغفرة وأمثل أمل للمخطئ الذي تحرره من ذنوبه، فيشعر الفرد بعدها بالتفريغ النفسي والانفراج.
والتوبة كما يقول الإمام الغزالي (في إحياء علوم الدين) لها أركان ثلاثة علم وحال وفعل. مع التذكير بأنّ الغزالي يُعتبر من رواد مؤسسي علم النفس الإسلامي.
فالعلم هو معرفة ضرر الذنب المخالف لأمر الله.
والحال هو الشعور بالذنب.والفعل هو ترك الذنب والنزوع نحو فعل الخير.
والتوبة تؤكد الذات وتجعل الفرد يتقبل ذاته من جديد، بعد ان كان يحتقرها ويقول الله عزّ وجلّ في الحديث القدسي: "يا عبادي انّكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم".
أما الحديث النبوي فهو يذكرنا بأنّ: "التائب حبيب الرّحمن، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له".
ومن هنا ندرك مدى أهمية الالتجاء إلى هذه المفاهيم كي يعالج العصابي "المسلم" من صراعاته، والمكتئب من يأسه، وحتى السيكوباتي المشرد المنحرف من تكرار أعماله العدوانية الشنيعة وذنوبه المتكررة.
ت- الاستبصار:
ومعناه الوصول بالإنسان إلى فهم أسباب شقائه وإدراك الدوافع التي أدّت به إلى حالته المضطربة، وفهم ما بنفسه من خير وشر، وتقبل المفاهيم الجديدة مستقبلاً وبصدر رحب ويعني هذا نمو الذات البصيرة، وقال تعالى: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (القيامة/ 14). وهذه طريقة مثلى كثيراً ما تستعمل في عديد من مظاهر العلاجات النفسية المعاصرة.
ث- اكتساب اتجاهات وقيم جديدة:
ومن خلال ذلك يتم تقبل الذات، وتقبل الآخرين، والقدرة على تحمل المسؤولية، وعلى تكوين علاقات اجتماعية مبنية على الثقة المتبادلة، والقدرة على التضحية وخدمة الآخرين وكذلك اتخاذ أهداف واقعية وإيجابية في الحياة مثل القدرة على الصمود والعمل المثمر والابتكار والإنتاج.
وهكذا تتم تنمية الضمير كسلطة داخلية ورقيب نفسي على السلوك ويتم تطهير النفس وأبعادها عن الرغبات المحرمة واللاأخلاقية واللااجتماعية، ويستقيم سلوك الإنسان بعد أن تتبع السيئات الحسنات فتمحوها وقال الله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود/ 114).
2- استخدامات العلاج النفسي الديني:
هذا وانّ العلاج الديني يفيد كثيراً في حالات القلق، والوسواس، والهستيريا، وتوهم المرض، والخواف، والرهاب، والاضطرابات الانفعالية، ومشكلات الزواج وكلّ الصراعات الفتاكة المبنية على التكالب على ملذات دار الدنيا والعدوان الأعمى الفضيع الناتج عن الإحباط والشعور بالحرمان والحقد والغيرة والحسد، وخاصة السلوك المنحرف الناتج عن الإدمان على الكحول الذي يحرمه الدِّين وحالات الاكتئاب واليأس والمسالك الانتحارية المحرمة أيضاً في القرآن والحديث وحتى وضعية التشرد والانحراف السائدة في جنح الأحداث المشهورة بشدة تأصلها وصعوبة علاجها.
3- قواعد التربية الدينية في الإسلام:
هذا وانّ التربية بمعناها الواسع، لابدّ أن تشتمل التربية الدينية لا سيما في بلادنا العربية الإسلامية وينبغي أن تنبثق من المحيط الأصيل سواء من الأبوين، أو من المدرسة على هذا الأساس.
ذلك انّ تربية الشخص تتضمن تقويمه في حدود إطار أخلاقي للسلوك، وانّ القيم الروحية المنبثقة من تعاليم الإسلام ومن كلّ الدساتير الأخلاقية لكلِّ الشعوب كثيراً ما تهدي الفرد إلى الاستقامة والسلوك السوي وفي كلِّ الأحوال يبقى مشكل سلوك الإنسان مرتبطاً بمكارم أخلاقه، وانّ الأخلاق المستمدة من قيمنا الحضارية الأصيلة تنظم سلوك الإنسان وتهديه إلى الصراط المستقيم، وتحاسبه إن هو أخطأ أو انحرف. وقال رسول الله (ص): "انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
وحسن الأخلاق يتماشى مع الاستقرار النفسي وترضية الضمير والكف عن السباق نحو شهوات دار الدنيا، وما ينتج عن ذلك من حسد وحقد وصراع بين الأشخاص وفي نفسية الفرد بذاته.
وانما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
4- شخصية المسلم واطمئنان النفس:
ولو أردنا استعراض سمات شخصية المسلم المثلى كما حددها الدين. لاستغرقنا في الحديث طويلاً فلنكتف ببعض نماذج تستخلص من كلام الله عزّ وجلّ وحديث رسوله حول سمات شخصية المسلم.
أ- الإيمان بالقدر: قال تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/ 51).
وهنا ينبغي أن يفسر هذا القول دوماً بصفة إيجابية كحث على قبول المصائب بصدر رحب بدون الالتجاء إلى مظاهر اليأس والوهن والانهيار أو بدون الالتجاء إلى السلوك العدواني المعاكس أو التهجمات المفرطة التي لا تحُمد عقباها. ولا يعني ذلك الاستسلام بل العمل على أن نتعدى أمرنا ونقفز بعد ذلك إلى الأمام لنتغلب على الشدائد والمصائب، على أساس القيم الفاضلة وبدون استعمال الحيل الرذيلة أو العدوانية الهدامة لتلك القيم.
ب- مسؤؤلية الاختيار: قال تعالى: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (القيامة/ 14).
وهنا تتجلى حرية الفرد في اختيار مواقفه وسلوكه بكلِّ دراية. وهو هدف عديد من العلاجات النفسية المعاصرة.
ج- طلب العلم: قال الله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114)، ويتضمن ذلك قابلية المؤمن للتوعية والإرشاد.
د- الصدق: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119)، والصدق فضيلة هامة جدّاً يرتكز عليها اطمئنان النفس إلى حد بعيد، ويقاس به مدى انهيارها إذا خالفت ذلك. من ذلك انّ بعض الأخصائيين في علم النفس الحديث قد اخترعوا روائز لقياس مقدرة الفرد على الصدق والإخلاص.
هـ- التسامح: قال الله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/ 34). والتسامح من الفضائل الهامة لاطمئنان النفس ونيل الارتياح.
و- الأمانة: قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء/ 58).
ز- الرحمة: قال رسول الله (ص): "الراحمون يرحمون الرحمن ارحموا مَن في الأرض يرحكم مَن في السماء".
وهذه الخصال الحميدة لها وزن كبير في سلوك الأفراد الأسوياء والمرضى في آن واحد ولنذكّر هنا بطاعة الوالدين والعناية بهما، وكذلك بضرورة حسن معاملة الأولياء لأبنائهم ولذويهم على أسس المحبة والرحمة والتعاطف الحقّ.
حـ- التعاون: قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة/ 2)، وقال أيضاً: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات/ 10)، وقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة/ 71).
وقال رسول الله (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وفي ذلك أعظم العبر وأسمى التعاليم للتوافق الأسري والاجتماعي الذي ترتكز عليه قواعد الصحة النفسية.
ط- القناعة: وهي من أفضل الخصال البشرية التي تنهى عن التناطح العنيف نحو تحقيق السعادة المادية التي لا حد لها، والتشبع بقيم التنافس القاسي الذي لا رحمة فيه لأحد. والذي يتصف به من سوء الحظ عديد من مظاهر المجتمعات العصرية المرتكزة على قاعدة الاستهلاك شرقاً وغرباً. وقد ازدادت في هذه البيئات مظاهر العنف والعدوان وكذلك الأمراض النفسية في الكم والكيف كما هو معروف.
أما القناعة فهي تعالج الاضطرابات النفسية الناجمة عن الحسد والغيرة وكراهية الغير المنافس، وكذلك السلوك المنحرف الناتج عن الإحباط وما ينجر عنه من سوء التوافق الفردي مع الذات ومع الغير. وإن كان المسلم يحمد الله فليس لغرض غير غرض السعادة الروحية والاطمئنان وقبول حالته بصدر رحب مع الملاحظ انّ ذلك لا يعني الاستسلام والفشل والركود في الذل والخسارة والخصاصة، بل انّ القيم الأخلاقية الإسلامية تشجع كما هو معروف من جهة أخرى على الإقدام والإنتاج والابتكار ولكن بدون أن تستعمل وسائل القهر والعنف والحيل الظالمة والرذائل المكروهة بصفة عامة للوصول إلى هذا الغرض.
ي- الصبر: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 153)، وقال: (... وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 155)، ويا لها من عبرة فائقة في هذا الصدد حيث تتكاثر الأمثلة في مجال الطب النفسي وعلم النفس التي تبرهن على أهمية الصبر والتحكم في النفس على هذا الأساس.
ك- العفة: قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41)، ومن هنا يتجنب الفرد الشر والرذائل على مختلف أنواعها.
ل- القوة والصحة: قال رسول الله (ص): "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.." وقال: "انّ الله لم يضع داء إلاّ ووضع له دواء".
وفي ذلك تشجيع على تقوية النفس وتسييرها نحو الإقدام والنجاعة ومزيد الفاعلية.
الخاتمة:ومن هنا تتجلى ضرورة التربية الأخلاقية كأساس للتعليم والتعلم السوي، ذلك انّ التعلم يرتكز على اكتساب العادات فإن كانت العادات سيئة والأمثلة رذيلة فالسلوك يصبح سيئاً رذيلاً، ويتبع كلّ ذلك السيئات وقد اثبتت ذلك التجارب عبر الزمان والمكان كما أثبتته التجربة العلمية عند الحيوان الذي يكتسب منعكسات شرطية فاضلة وحسنة أو بالعكس فاسدة وشرِّيرة حسبما نقدمه له من خبرات فإذا وجد جزاء وتسامحاً عند الخطأ فهو يسير نحو هذا الخطأ ويستمر فيه، وبالعكس فإذا وقع عقابه إذا انحرف فهو يجتنب فيما بعد هذا الانحراف متذكراً العقاب الذي تسلط عليه سابقاً عن ارتكابه الخطأ.
ومن هنا ينبغي أن تحتل القيم التربوية الصحيحة مستقبلاً المقام الأوّل في برامجنا المدرسية وعلى كلِّ المسؤولين والمعلمين والمربين أن يجتهدوا ليلاً نهاراً لضبط هذه القيم ونشرها بكلِّ الوسائل في قلوب أجيالنا الصاعدة قبل أن يفوت الأوان وينبغي أن يضعوا هذا العمل نصب أعينهم كأولوية الأوليات، ولنذكر بأنّ شعباً كالشعب الياباني مثلاً يفضل الأخلاقيات على التعليم التقني البحت باعتبار انّ القيم الأخلاقية هي أساس كلّ شيء وانّه لا فائدة في تعليم الرياضيات أو الفيزياء أو أي علم آخر إذا لم ترتكز شخصية مستعمليه على أسس الفاعلية والنجاعة التي لن تحصل بدون قيم أخلاقية ثابتة.
فعلينا إذا أن نسطر في كلِّ المجالات برامج قويمة مرنة تهتم بمكارم الأخلاق وبزرع الفضائل ومحو الرذائل من قلوب أطفالنا وشبابنا في كلِّ المستويات والمجالات، وبكلِّ الوسائل والتكاليف ولنستخلص من تجارب الأُمم وكلّ الحضارات التي سبقتنا أعمق العبر والقيم في هذا الصدد، ولنكيفها مع قيمنا الحضارية الإسلامية ولتعلم إذن هذه التربية في المدرسة وخارجها على هذه الأسس في المحيط الثالث بأكمله يعني على صعيد التلفزة أوّلاً وبالذات، والإذاعة، والسينما، والمجلات، والجرائد، والمكتبات وإجمالاً على صعيد كلّ الوسائل السمعية والبصرية التي تحيط بالأفراد حتى تصبح طاهرة نقية مطهرة من كلِّ مظاهر الانزعاج والفزع والعنف والعدوان والحقد والحسد والشر والرذائل بصفة عامة بل تصبح كلها تحث على الفضائل والاتجاهات القويمة وترشد إلى الصواب وفعل الخير وإلى اكتساب المزايا الحسنة التي تميز البشر عن الحيوان.
وعلى الكهول الناضجين والأولياء المربين والحكام المسؤولين أن يقوموا بكلِّ واجباتهم في هذا الصدد وينتقدوا أنفسهم بكلِّ نزاهة وتجرد كي يستخلصوا كلّ العبر من الحوادث المزعجة الأليمة التي جدت بالبلاد في الأيام الأخيرة.
وعلى الحكومة بالخصوص مسؤولية عظمى كي تقتلع من المحيط كلّ المظاهر التي تعلم العنف والعدوان والاجرام والفساد، وكلّ البوادر التي تشجع على عدم الاكتراث واللهو والازدراء بالجديات وبالخصال الحميدة، فتنهى عن الركود في الأوساخ، أوساخ الضمير والأيادي والبيوت والشوارع في آن واحد، وترشد إلى الانتظام والامتثال للقيم الصالحة. وذلك باستعمال كلّ الوسائل مهما كانت شدتها وتكاليفها.
ومن كلامنا هذا يتجلى لنا انّ الإيمان كثيراً ما يكوّن العقيدة المثلى والسلوك الصالح لاطمئنان النفس، ومن ذلك وفي البيئة العربية الإسلامية التي لا تزال تمتاز بها بلادنا – والحمد لله – ينبغي أن تتضمن الوقاية من الاضطراب النفسي الاهتمام أساساً بالتربية الأخلاقية الشاملة حتى تصبح في مقدمة أمهات القضايا المصيرية.
ذلك انّ تركيز القيم الإيجابية الصحيحة هي دعامة للسلوك السوي، وشرط أساسي للتوافق النفسي والاجتماعي.
والمعروف أنّه في إطار هذه القيم هذا التوافق يوحي الدين الإسلامي بالاهتمام بحياة الدنيا والآخرة، وبإحداث توازن بين الملذات والماديات والأخلاقيات والروحانيات كي يتم التوافق النفسي الشامل.
ولقد قال عليّ ابن ألي طالب (ع): "اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً".
ولنختم كلامنا بقول الشيخ الرئيس ابن سينا الذي أشار إلى ان انفع البر هي الصدقة، وأزكى السر هو الاحتمال، وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما صدر عن الحكمة والفضائل، لا عن الضلال والرذائل.
المصدر: مجلة الهداية/ العدد 6 لسنة 1985م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق