• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وظائف الجلد والحالة النفسية

وظائف الجلد والحالة النفسية

جلد الإنسان هو الواجهة الخارجية التي يراها الآخرون من حوله.. وإذا كان الجلد الذي يغطي وجه الشخص وجسمه ويديه وقدميه هو المظهر الخارجي الذي يبدو أمام الناس فإنّه يمكن كذلك أن يكون مرآة تعكس ما يدور داخل النفس من انفعالات ومشاعر وعواطف وصراعات.. وهنا نحاول إلقاء الضوء على العلاقة بين جلد الإنسان وحالته النفسية.

من وظائف الجلد الرئيسية علاوة على أنّه يشكّل الواجهة الخارجية لجسم الإنسان أنّه عضو الإحساس العام فهو وسيلة استقبال للمؤثرات المختلفة بين الإنسان وبين العالم المحيط به، ويؤدي الجلد وظائف حيوية أخرى منها حماية الأنسجة الداخلية، والجلد له اتصال مباشر بالجهاز العصبي والغدد التي تقوم بإفراز المواد الحيوية في الجسم والدورة الدموية.

والعلاقة بين الجلد والحالة النفسية يمكن الاستدلال على وجودها من ملاحظة تأثير الانفعالات على المظهر الخارجي لأي منا، حيث نلاحظ في حالة التعرف لموقف الخجل أنّ الوجه سرعان ما يكسوه الإحمرار، وفي حالة الخوف فإنّ لون الجلد يبدو عليه الشحوب والإصفرار، وهذه أمثلة معروفة توضح تأثير الانفعالات النفسية الداخلية على شكل ولون الجلد وتبدو واضحة لمن ينظر إلى الشخص من الخارج.

ولعلّ التطبيق المباشر لتأثير الانفعالات الداخلية على الجلد هو استخدام ذلك في عمل أجهزة كشف الكذب (Lie detector)، حيث تقوم فكرة هذه الأجهزة على وضع أقطاب على سطح الجسم تتأثر بحرارة الجلد وإفراز العرق وحين يتم استجواب الشخص يتم رصد توصيل الجلد للشحنات الكهربية فإذا بدأ في الكذب زاد التوتر لديه وظهر ذلك من خلال توصيل الجهاز.. وانكشف الأمر!!

 

"سيكوساماتك".. وأمراض الجلد النفسية:

إنّ الأمثلة التي ذكرناها لتأثير الانفعالات النفسية على الجلد في الحالات السابقة تحدث في الشخص العادي، غير أنّ هناك بعض الحالات أكثر تعقيداً فالانفعالات النفسية والصراعات الداخلية التي يتم كبتها داخل النفس لوقت طويل تؤثر سلبياً على الجهاز العصبي الذاتي وعلى عمل الغدد الصماء في الجسم ويبدو ذلك في صورة أمراض جلدية أصلها نفسي، ويطلق على هذه الحالات في الطب النفسي الأمراض السيكوساماتية أو النفسية الجسدية Psycho-Somatic disorders ومن أمثلة الأمراض الجلدية التي تنشأ نتيجة للقلق والغضب والانفعالات الشديدة التي لا يتم التنفيس عنها الطفح الجلدي المعروف الإرتكاريا وحكة الجلد، وزيادة إفراز العرق، وحالات سقوط الشعر، وحب الشباب، ومرض الصدفية، وقائمة طويلة من الأمراض الجلدية ثبت وجود علاقة مباشرة لها مع الاضطراب النفسي والتوتر العصبي.

 

مخاوف وأوهام موضوعها الجلد:

يكون الجلد في بعض الأحيان موضوعاً للمخاوف والأوهام غير الواقعية ونصادف من خلال ممارستنا للطب النفسي حالات الأشخاص يتملكهم القلق وتسيطر عليهم مخاوف الإصابة بأمراض الجلد، كمثال لهذه الحالات اذكر أنّ شاباً في العشرين كان يدرس بالجامعة تحوّل لديه هذا الخوف المرضي من الإصابة بالمرض الجلدي إلى حال وسواس دفعة إلى الابتعاد عن الناس وكان يبالغ في المرض على غسل يديه بالماء والصابون وبعض المواد المطهرة بعد أن يلمس أي شيء أو يصافح أي شخص حيث يعتقد أنّ العدوى يمكن أن تنتقل إليه من ملامسة الأشياء والأشخاص من حوله. تحولت مسألة الاغتسال إلى فعل قهري يصعب التوقف عنه، وفي حالات أخرى مشابهة بالعيادة النفسية كان بعض المرضى يمضي وقتاً طويلاً في عملية الاغتسال للنظافة خوفاً من التلوث بصورة مبالغ فيها وقد ذكر لي أحد الطلاب أنّ وقته يضيع في غسل يديه لساعات طويلة فلا تبقى لديه فرصة لاستذكار دروسه مما أدّى إلى رسوبه في الامتحان!

وهناك أنواع أخرى من المخاوف والأوهام تسيطر على بعض الناس حين يحاولون تغيير لون أو شكل الجلد لديهم لأنّهم لا يقبلون المظهر الخارجي له ولا يرغبون في وجود أي بقع أو ألوان ويشغل تفكيرهم تماماً الكيفية التي يعالجون بها هذا التغيير لدى أطباء التجميل ويؤثر ذلك على حالتهم النفسية نظرتهم للحياة وعلاقتهم بالآخرين، وليس غريباً أن نرى بعض المرضى بأمراض جلدية قد تأثروا بمظهرهم وتمكنت منهم العقد النفسية مما يدفعهم إلى الشعور بالدونية والانعزال عن الناس.

 

ما معنى هذه الأعراض الجلدية؟

يفيد التفسير النفسي للأمراض الجلدية في كثير من الأحيان في فهم المغزى وراء ظهور مثل هذه الأعراض، وعلى سبيل المثال فإنّ سقوط الشعر في الأطفال يحدث عادة بعد وقت قصير من تعرض الطفل لمشاعر الحزن لفقد شخص عزيز لديه كان يرتبط به عاطفياً، وسقوط الشعر في الكبار الذي يعرف بال "ثعلبة" قد يكون تعبيراً عن مشاعر عدوانية مكبوتة وغيظ لم يتم التعبير عنه، وقد وجد أنّ الحالة تتحسن ويعود الشعر إلى النمو حين تباح لهؤلاء فرصة التعبير عن انفعالاتهم المكبوتة.

وبعض الأمراض الجلدية مثل الطفح الجلدي المصحوب برغبة شديدة في الاحتكاك هو رمز للبكاء المكبوت ومشاعر الغضب الداخلي، وحين تكون الحكة في منطقة الشرج أو الأعضاء الجنسية فقط فإنّها تفسر كتعبير عن رغبة جنسية لم يتم التنفيس عنها نتيجة للإحباط الجنسي وعدم الإشباع!!

 

الحل بالوقاية قبل العلاج:

لعلّ كلّ الدلائل تشير إلى وجود ارتباط قوي بين الحالة النفسية للإنسان في الصحّة والاضطراب وبين مظهر الجلد وما يعتريه من تغييرات وقد تكون العوامل النفسية وراء ما يظهر من أمراض جلدية غير واضحة بالنسبة للمريض نفسه والمحيطين به، كما أنّ ذلك قد يظل خافياً عن الأطباء، وقد يتم وصف أنواع من العلاج بالأدوية والدهانات الموضعية لعلاج هذه الحالات دون جدوى لأنّ مثل هذه الأمراض هي نفسية جسدية كما ذكرنا، ويجب التعامل هنا مع الجذور النفسية لهذه الحالات وليس مع الطفح أو البقع الجلدية السطحية فقط.

ومن وجهة نظر الطب النفسي فإنّنا لعلاج مثل هذه الحالات ننصح دائماً بالابتعاد عن مصادر القلق والتوتر والتخلي عن الطموحات والتطلعات غير الواقعية حتى نتجنب الضغوط النفسية الزائدة، كما أنّنا نؤكد أنّ الالتزام بمشاعر الرضا والتفاؤل وحب الحياة هو السبيل إلى الوقاية ليس فقط في الأمراض الجلدية بل من كلّ أمراض العصر التي تثبت أنّ العوامل النفسية تكون السبب الرئيسي وراء حدوثها في كلّ الحالات تقريباً.

 

الكاتب: د. لطفي الشربيني

المصدر: كتاب وداعاً أيها الاكتئاب

ارسال التعليق

Top