من العادات السيئة والمزعجة التي يقوم بها الأطفال: التقاط القاذورات من الأنف، وإحداث صرير بالأسنان، ومص الأصابع، وقضم الأظفار، والطقطقة باللسان، والخنين، وتكرار عبارات "مستهجنة" بشكل متكرر، ويبدو أنّه لا نهاية للعادات المنزعجة التي يقوم بها الأطفال، وفي كثير من الأحيان نجد أنّ كثير من الأطفال يمارسون تلك العادات -فقط- من أجل إثارة آبائهم.
وعندما سألنا الآباء والأُمّهات: كيف تتعاملون مع عادات أطفالكم المزعجة؟ فقال الكثيرون إنّهم يقيمون حرباً بلا هوادة ليعالجوا تلك السلوكيات غير المهذبة، فكيف يقبل أب أن يلتقط طفله القاذورات من أنفه أمامه ويسكت؟ وكيف ترى أم طفلها يقضم أظفاره ولا تتكلّم؟ فسألناهم: وما هي نتيجة صراخكم ونهيكم وعقابكم؟ هل يطيعكم أطفالكم ويتركون تلك العادات السيئة؟ فقالت إحدى الأُمّهات: سأحكي لكم تجربتي؛ بعد ثلاث سنوات من محاولة إقناع ابني "عمرو" بارتداء جوارب تتماشى مع ألوان الملابس التي يرتديها، باءت كلّ محاولاتي بالفشل، وأصابني اليأس، وأدركت أنّه مقتنع تماماً بأن يرتدي ما يريده، وعندما تجاهلت هذه المسألة، أصبحت أكثر سعادة، وهو الآن يدرس الهندسة بالجامعة، وما زال يعاني من عمى الألوان بين جواربه وملابسه، لكنه في منتهى السعادة وهذا يكفيني...
قبل أن تغضب.. هل الأمر يستحق معركة؟
دخل خالد منزله، وما إن فتح الباب ومشى قليلاً حتى تعثر بلعبة طفلته سمية وكاد يقع، رفع اللعبة في يده ثمّ واصل طريقه نحو غرفته وهو متضايق مما حصل وقرر أن يعاتب سمية ويعاقبها على ما فعلت، فلولا عناية الله كان سقط على وجهه وكسرت يده، وهنا جرت عليه سمية مبتسمة لتأخذه بالحضن وهي تقول: وحشتني يا بابا، فأطفأ ذلك غضبه وأخذها في حضنه وهو يفكر: هل الأمر كان يستحق أن أصرخ فيها قائلاً: "مائة مرة قلت لك لا ترمي لعبك في الطريق؟"، فتغضب مني وتبكي وتحرمني من ابتسامتها المشرقة؟ أعتقد أنّ المسألة لم تكن تستحق كلّ هذه المعركة، من الأفضل أن أتغاضى قليلاً لنسعد كثيراً...
بعض الأُمّهات (وربما الآباء) عندهنّ فن تربوي خطير اسمه "فن افتعال الأزمة"، فلا يمكنها أن تترك لابنها خطأ يرتكبه -صغر أم كبر- يمرّ سالماً، فابنها دائماً متهم، وهي في حالة هجوم دائم بلا هوادة، وتسير مع أبنائها بسرعة عشرة أوامر في الدقيقة: ضع كتابك في الحقيبة، اغسل وجهك، لا تنم على الأرض، نظف أسنانك، كُلْ طعامك كلّه، لا ترفع صوت التلفاز، اترك أخاك يشاهد معك، لا ترمِ ملابسك على الأرض، لا تخرج من البيت، اسكت، هات ملعقة، ناولني كوب الماء، لا ترفع صوتك، ارفع لعبتك من على الأرض... ووصل الأمر لدرجة أنّ أحد الأطفال قال لي يوماً: تخيل؛ ماما إشعال ذاتي (مثل البوتاجاز الذي لا يحتاج ناراً ليشتعل)...
وهذه النوعية من الأُمّهات لا تترك البيت يهدأ ساعة، والنتيجة طبعاً أُمّ عصبية وطفل عنيد غير مطيع، لدرجة أنّ أحد الأطفال قال لأخيه يوماً: هل أجعل لك ماما تصرخ؟ إنّه يعلم أين المفتاح الذي سيضغط عليه فتقف ماما صارخة، وبالفعل نفّذ الطفل فكرته وكما توقع صرخت أُمّه فضحك الطفلان، وهذه هي النتيجة التي ستحدث مع كلّ أُمّ عصبية كثيرة الملاحظات والأوامر...
تقول إحدى الأُمّهات: كان أبي مصدر السلطة في المنزل، ولم يكن لطبيعتي العنيدة أن تعوقه عندما كان يضع قانوناً، فكان أبي يعرف القوانين المهمة للتعامل مع طفلة عنيدة مثلي، فإذا قال: "سعاد" اجلسي الآن؛ كنت أجلس على الفور، لا أراجعه ولا أجادله، فقد كنت أعلم أنّ أبي لن يحدثني بهذه الطريقة إلّا إذا كان من الضروري أن أطيعه، ولو كان أبي يتحدث معي بهذه الطريقة الآمرة طوال الوقت لكنت جادلته ولم أكن لأفعل أي شيء يطلبه مني...
فيا أيها الآباء عليكم أن تعرفوا: إذا قمتم باستخدام نفس نبرة الصوت الغاضبة لكلّ شيء، "اذهب إلى فراشك"، "تناول ما تبقى من الطعام"، "اذهب وارتد ملابسك سريعاً"، فسوف يجادلك ابنك العنيد في كلّ شيء تقوله، فادخر نبرة صوتك الغاضبة للأوامر الضرورية المهمة فقط، وعندما تريد أن تطلب من ابنك شيئاً ما وتريده أن يطيعك؛ فعليك أن تسأل نفسك قبل أن تأمره أو تطلب منه: هل يستحق الأمر أن أطلبه منه؟ هل يستحق الأمر مواجهته؟ هل يستحق هذا النزاع بيننا أن يصل إلى معركة بيننا؟ وعندها توكل على الله وأمره بما تريد...
وهنا تقول إحدى الأُمّهات: في صباح يوم شتوي بارد كنت استعد للخروج مع ابني خالد ذي الأربع سنوات، وفجأة ذهب خالد نحو الباب دون ارتداء معطفه، وهنا قدمت له اختيارين فقلت: خالد؛ هل تريد ارتداء معطفك الأحمر أم معطفك الأزرق؟ وبسرعة البرق التفت نحوي مجيباً: أنا لا أريد أن أرتدي معطفاً، وهنا كان عليّ أن أقاوم رغبتي في إخراج الرد الطبيعي على ذلك وهو: سوف ترتدي معطفاً رغماً عنك وإلّا فلن نخرج، لكنني سألت نفسي: هل تستحق هذه المعركة أن تفسد صباحنا الجميل؟ فابتلعت غضبي وطرحت عليه سؤالاً آخر: خالد؛ ما الذي ترغب في أن ترتديه حتى يشعرك بالدفء؟ فتوقف لدقيقة وهزّ كتفيه استهجاناً وقال: أريد أن أرتدي معطف أبي، ومرة ثانية قاومت رغبتي في أن أخبره بأنّ طلبه سخيف ومنافٍ للعقل وأنّ عليه أن يرتدي معطفه، وسألت والده عما إذا كان من الممكن أن يرتدي خالد معطفه؟ فوافق ضاحكاً، ونفذنا الفكرة وكان خالد العنيد ذو الأربع سنوات مختفياً تقريباً دخل المعطف، وكان منظره يدعو للضحك، وأردت أن ألصق لافتة على ظهره تقول: "ليست أُمّي من ألبستني"، وأخذت معطف خالد في يدي وذهبت معه لنبدأ يومناً، ولقد استغرق الأمر أقل من خمس عشرة دقيقة حتى بدأ خالد يشعر بالضجر من صراعه مع المعطف الكبير عليه، وقاومت رغبتي في أن أقول له: "ألم أقل لك هذا"، وسألته عما إذا كان يرغب في ارتداء معطفه الخاص بدلاً من معطف والده، وبدون تردد هز رأسه بالموافقة وخلع معطف والده الذي كان أشبه بالسجادة عليه، وقام بارتداء معطفه بمنتهى البساطة دون أدنى مشكلة، ومن يومها نجحت في تجنب معارك ارتداء الملابس مع خالد، وزاد رفقي في التعامل معه وزادت طاعته لي، كلّ هذا بسؤال واحد أسأله لنفسي قبل أن أغضب من تصرفه: هل هذا الأمر يستحق معركة، أم يقبل النقاش والتفاوض؟
أيها المربي الكريم: لابدّ وأن تختار معاركك مع طفلك بعناية؛ لأنّ معظمها لا يستحق التضحية بعلاقتك معه، ومعظمها سيكون الزمن جزءاً من علاجها، عندما ترغب في أن يقوم طفلك العنيد بفعل شيء ما، وترغب في الوقت نفسه في تجنب وقوع معركة معه، قرر أوّلاً ما إذا كان هذا الأمر يستحق معركة أم لا، وفعل ذلك لن يكون سهلاً، وربما تحتاج إلى الكثير من التمرين قبل أن يمكنك أنت وطفلك العنيد التفرقة بين الأمور القابلة للتفاوض أو النقاش وتلك التي لا تحتمل ذلك، ولكن المحاولة يمكن أن تصنع اختلافاً في علاقتكما معاً...
كيف نوقف عادات أطفالنا المزعجة؟
1- معظم الأطفال يقومون على الأقل بعادة واحدة مزعجة أثناء طفولتهم، وأوّل شيء تحتاج إلى فعله هو أن تسأل نفسك: لماذا تزعجك هذه العادة؟ فإذا لم تكن هذه العادة منطوية على أمر يمس أمان الطفل وسلامته ولا تخدش الحياء والدين، فأفضل شيء يمكن أن تفعله هو أن تتجاهلها، فعندما تلفت النظر إلى شيء ما بشكل مستمر، فالأرجح أن طفلك سيركز عليه أيضاً، وإذا قمت بلفت النظر إلى السلوك السيئ بشكل مستمر، فهذا سبب وجيه يجعل الطفل لا يتركه، فالأطفال يحبون نيل الاهتمام ولفت الأنظار إليهم، وإذا قدمت لهم ذلك على طبق من فضة، فسوف يكون لديهم مبرر قوي لكي يستمروا في سلوكهم السيئ اللافت للنظر، أنّ جميع العادات المزعجة التي يتجاهلها الآباء -تقريباً- تزول كلّها مع النمو، فالزمن جزء من العلاج، فقلما ترى امرأة تسير وهي تضع دمية في فمها أو بطانية تحت ذراعها، ومن غير المحتمل أن تجد طالباً في الجامعة يقوم بالتقاط القاذورات من أنفه وسط الناس.
2- بعض العادات المزعجة مثل: مص الأصابع وقضم الأظفار وإحداث صرير بالأسنان مرتبطة بالتوتر والضغط، لذلك عندما يمارسها طفلك لا يحتاج منك إلى كثير نهي وصراخ وتهديد، بل يحتاج إلى أن تتأمل حياته وترى ما إذا كان يعاني من ضغط في المدرسة أو في الشارع أو في البيت أو في النادي... ويمكنك أن تسأل طفلك عن سبب عادته المزعجة، فتقول له مثلاً: لماذا تقضم أظفارك؟ وانتظر الإجابة، والإجابة الشائعة هي "لأنّ ذلك يريحني ويسعدني"، لا تصدر عليه حكماً أو تقول إنّ الأمر سيئ أو خطأ، فقط ناقشه لتبحث عن السبب الحقيقي وراء ذلك السلوك، ربما يكون مقلداً لأحد أطفال أقاربه الذين رآهم يفعلون ذلك، إنّ الهدف من الحوار هو طمأنة الطفل ومحاولة الوصول إلى أعماق نفسه لعلنا نعرف السبب الحقيقي وراء سلوكه هذا...
3- بعض السلوكيات المزعجة يكون لها آثار سلبية مدمرة، فمص الإبهام مثلاً قد يدمر الأسنان ويعطل نمو فكي الطفل، ولذلك فإنّها بحاجة إلى خطة عملية للتخلص منها، اجلس مع الطفل ووضِّح له مخاوفك (دون أن تشعره بأنّه سخيف أو مزعج) فكلنا كان لنا عادات سيئة وتركناها بفضل الله، واعرض عليه مساعدته في وضع خطة عملية للإقلاع عن تلك العادة، وكافئه على جهوده، وأنا أعرف إحدى الأُمّهات جلست مع طفلها الذي أدمن مص إصبعه، واتفقا معاً على طرق مساعدته، كلّ هذا تم في سرية تامة بعيداً عن إخوته، ومن الأفكار التي نفذاها معاً: تربط له أُمّه كلّ ليلة إصبعه بمنديل حتى لا يمصه وهو نائم، نظام أحمر وأخضر، فعلى مدار اليوم إن رأته الأُم يضع إصبعه في فمه تقول كلمة السر "أحمر"، فيفهم ما تريد ويخرج إصبعه دون أن يحرج أمام أخوته، وإذا وجدته أُمّه جيداً ولا يضع إصبعه في فمه ستقول كلمة السر "أخضر" شاكرة له على سلوكه الطيب، وبدأ الطفل ينفذ بسعادة وحب، وبدأ إخوته يسألون عن السر بينهما وما معنى تلك الكلمات "أحمر وأخضر"، لكنه كان سر الأُمّ مع طفلها الحبيب كما كان لها أسرار مع كلّ واحد من باقي إخوته...
للخبير تربوي عبد الله محمّد عبد المعطي
المصدر: كتاب أطفالنا كيف يسمعون كلامنا؟
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق