د. عائض القرني
◄من علامات الخير وأدلة النبل وحسن الطالع محبة كتب العلم والمعرفة، وعلى الخصوص الكتاب المبارك كتاب الله عزّ وجلّ، ففيه سر سعادة الإنسان، وحياته، ونوره، وهداه، ثمّ الكتب النافعة التي تجلو الرَّان عن القلب، وتزيل الغشاوة عن الضمير، وتفتح الآفاق، وتكسر الأغلال، وتنسف أركان الجهل. قال القاضي الجرجاني:
ما تطعّت لذة العيش حتى **** صرت للبيت والكتاب جليساً
ليس شيء عندي أعز من العلم **** فما أبتغي سواه أنيساً
إنما الذلُّ في مخالطة النا **** س فدعهم وعِش عزيزاً رئيساً
إنّ الجلسة مع الكتاب هي اللذة في منتهاها، والعزة في أجمل صورها، إنها صيانة العرض مع الكتاب من خدوش المخالطة، وقد نصحتك لو كنت تقبل النصح.
فأكُثِر من لزوم البيت، ومحادثة الكتب، ومطالعة الصحف، والتأمل في بطون الأسفار، وتذكر وصيَّته (ص) لعقبة بن عامر: "كف عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك".
قال العلامة الفقيه اللُّغوي الشاعر أحمد بن فارس صاحب الكتب الذائعة الماتعة في النحو واللغة:
وقالوا كيف حالك؟ قلت خير **** تقضَّى حاجة وتفوت حاج
إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا **** عسى يوماً يكونُ لها انفراج
نديمي هرَّتي وأنيس نفسي **** قراطيسي ومعشوقي السِّراجُ
إنّ محادثة الكتب الساعات الطويلة تزرع دمعاً كبيراً متألقاً، تتفجر منه أنهار الحكمة، ويتشقق فيخرج منه ماء البيان، وتهبط منه كنوز الألمعية، وقبسات العبقرية، فالكتب بوابة الديانة، ودروازة التثقيف الأصيل، للعقل السويِّ الواعي.
أعزّ مكانٍ في الدنيا سَرج سابح **** وخير جليس في الأنام كتابُ
الكتاب حيث لا غيبة لا رياء ولا حسد ولا كبر. الكتاب حيث لا ملل ولا ضجر ولا سآمة ولا تبرّم. الكتاب حيث الحكمة الساطعة، والموعظة البارعة، والخطاب الفصيح، والنهج السديد، والطّرفة العذبة، والخبر المستطرف، والتجربة الحية.
كان العلماء يَضِنون ببيع الكتب، ولا يرخصون ثمنها، فهي عندهم أغلى من القصور والدور والذهب والفضة والسلاح والمزارع. هذا أبوالحسن الفالي يعضه الفقر فيضطر لبيع كتاب الجمهرة لابن دريد بخط أبي الحسن الفالي الجميل فيشتريه منه الشريف المرتضى بستين ديناراً. ويجد في آخر النسخة أبياتاً لبائعها أبي الحسن يقول فيها:
أنست بها عشرين حولاً وبعتها **** لقد طال وجدي بعدها وحنيني
ما كان ظني أنني سأبيعها **** ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية **** صغار عليهم تستهل شؤوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرتي **** مقالة مكوي الفؤاد حزين
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك **** كرائم من ربِّ بهن ضنينِ
فلما قرأ الأبيات أرجع النسخة إليه وترك الدنانير.
إنّ من همة الطالب حرصه على كتابه، وصرفه لماله في العلم، لأنّ المال خادم والعلم مخدوم، وأبوالحسن الفالي صاحب الأبيات المتقدمة محدث أديب شاعر، توفي سنة 448هـ وله أشعار جميلة لها صلة بالهمة العالية والعلم وأهله، منها:
لما تبدلت المجالس أوجهاً **** غير الذين عهدت من علمائها
ورأيتها محفوفة بسوى الألى **** كانوا ولاة صدورها وفنائها
أنشدت بيتاً سائراً متقدماً **** والعين قد شرقت بجاري مائها
أما الخيام فإنها كخيامهم **** وأرى نساء الحي غير نسائها
ولك أن تفهم آخر بيت على أنّ الخلف يشابهون السلف في الأجسام والجلوس والقيام ولكن الحقائق تختلف. هناك همم تنطح الثريّا، حفظٌ للزمان، خشيةٌ للرحمن، شحٌ بالأوقات، تسابق في الخيرات. وهنا همم باردة، ونفوس فاترة، وأوقات ضائعة. ومما يستحسن أيضاً لأبي الحسن الفالي قوله:
تصدر للتدريس كل مهوس **** بليد تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا **** ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها **** كلاها وحتى سامها كل مفلس
إنّ الله لا ينظر إلى صورنا وأموالنا، ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا. إنّ العالم لا يعرف بزيّه من عمامة وجبة، وبشت وعكّاز، ولكن بعلمه وفهمه وصدقه وزهده، وخشيته، لقد كانت الرزايا عند علماء السّلف هي ما مسَّ الدين، أو العلم، أو الدنيا، فعلينا السلام ورحمة الله وبركاته.
إنّ تقديس المنهج المتمثل في العلم النافع والعمل الصالح فرض عين على كل مسلم ومسلمة، يحترم نفسه، ويخاف ربَّه، ويحب رسوله (ص).
إنّ التلبّث في الأوطان، والرِّضا بالجهل، ومسايرة الطبع والخوف من ركوب الأخطار، ومعافسة الأسفار في طلب جليل الأمور، كل هذا من ضآلة الهمة وحقارة النفس.
وهذا أبوتمام يطالبك بالترحال في طلب الفضائل إذ يقول:
وإن مقام المرء في الحيِّ مفسدٌ **** لديباجتيه فاغترب تتجدّدِ
فإنِّي رأيت الشمس زيدت محبة **** إلى الناس أن ليست عليهم بسرمدِ
إنّ المقدام لا تحجزه عن مرامه حواجز، ولا تقطعه عن مقاصده قواطع، إنّه حثيث في سيره، متذرع بصبره، متّقد بهمته، متوكل على ربِّه، وما أشبهه بقول الشاعر:
ومشتت العزمات لا يأوي إلى **** سكن ولا أهل ولا جيرانِ
ألف النوى حتى كأن رحيله **** للبين رحلته إلى الأوطان
هؤلاء الصفوة المباركة من المحدثين الأخيار الواحد منهم ليس له دار يأوي إليها، مرة بمصر، فالشام، فالحجاز، فاليمن، وأخرى بالعراق، فمرو فخراسان، فأصبهان:
يوم بحزوى ويوم بالعقيق ويو **** م بالعذيب ويوم بالخليصاءِ
إنّ طُلاب الآخرة يرون المجد الدنيوي زائفاً. فالجاه عندهم والرئاسة والتصدر لا يساوي قطميراً، لأنهم لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً. وأحد العلماء من المحدّثين كان يملي على طلابه الحديث، فتفكر في جلال هذه النعمة، وعظمة هذا المقام، ورفعة هذا المحلّ فأنشد:
إني إذا احتوشتني ألف محبرة **** يكتبن: حدثني طوراً وأخبرني
نادت بحضرتي الأقلام معلنة **** هذي المفاخر لا قعبان من لبن
أوّل ضريبة السير إلى الله عزّ وجلّ مخالفة النفس ونحر الهوى صبيحة عيد الانتصار عليه، والارتفاع عن خدع الشيطان، والأمر ليس سهلاً كما نتصوره بل هو شاق عسير ومن يسَّره الله لليسرى هانت عليه المشقة وتذرّع بالصبر.
المصدر: كتاب (حدائق ذات بهجة)
ارسال التعليق