يقول الله تعالى في كتابه المجيد: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (الواقعة/ 10-11). إنّ أقصى ما يمكن أن يطمح إليه الإنسان المؤمن في هذه الدُّنيا، هو أن يكون القريب من الله، لا قُرب المكان، لأنّ الله لا يحويه مكان ولا زمان، ولكن قرب العمل والعبودية والمحبّة له سبحانه وتعالى. وقد وردت الأحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) عمّا يقرّب الإنسان إلى ربّه، ففي وصيّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام عليّ (عليه السلام) قال له: «يا عليّ، إذا تقرّب العباد إلى خالقهم بالبرّ، فتقرّب إليه بالعقل تسبقهم»، فكأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد أن يقول له: إنّ الناس يتقرّبون إلى الله بأعمال الخير فيما يحتاجه الناس في كلِّ أُمورهم، ولكنّ الأساس الذي يتقرّب به العبد إلى الله هو العقل، لأنّ العقل هو الذي يعرف به الله، فالله يُدرَك بالعقل لا بالحسّ، والعقل هو الذي يثقّف الإنسان ويمنحه القدرة على تمييز الحقّ من الباطل، والخير من الشرّ، والعدل من الظلم، وهو الذي يوجّه الإنسان إلى طاعة الله التي تنجيه من عذاب يوم القيامة، ويبعده عن معصية الله التي تقوده إلى غضبه وسخطه، وقد تُدخله نار جهنم. ففي هذا الحديث، يؤكّد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ على الناس أن يتقرّبوا إلى الله بأن يستخدموا عقولهم في إدراك الحقيقة، وأن يحرّكوها في معرفة الصلاح والفساد، لأنّ العقل يوجههم إلى كلِّ خير، ويبعدهم عن كلّ ما هو شرّ.
يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء له من أدعية الصحيفة السجادية: «اللّهُمّ فصلِّ على محمّدٍ وآله، واحملني بكرمِك على التفضُّل، ولا تحملني بعدلك على الاستحقاقِ، فما أنا بأوّلِ رَاغِبٍ رغِبَ إليك فأعطيتَهُ وهو يستحقُّ المنعَ، ولا بأوّلِ سائلٍ سألك فأفضلتَ عليه وهو يستوجِبُ الحرمانَ».
يا ربّ، سأبقى في كلِّ حياتي الإنسان الصارخ إليك بكلّ صرخة الخوف في عقله، وبكلّ لهفة المحبّة في قلبه، وستبقى كلماتي خاشعةً لك، خاضعةً لربوبيّتك، وسأبحث عن المعاني التي تجتذب حنانك إليَّ وعطفك عليَّ. قد أكون ـ يا ربّ ـ العبد المُسيء الذي يستحقّ المنع من عطائك، عندما تخضع الأُمور لحسابات العدل الدقيقة التي تضع لكلّ إحسان ثواباً، ولكلّ إساءة عقاباً.
ولكنّك ـ يا ربّ ـ الإله المتفضّل الذي تمنح العاصين فضلك كما تمنحه للمطيعين، وتعطي العاملين لك أكثر ممّا يستحقّون، فتضاعف لهم الثواب، كما تخفّف عن المذنبين العقاب. وهكذا تذوب السيِّئات، وتتبخّر في الهواء في آفاق عفوك، وتتضاعف الحسنات في ألطاف كرمك. فإذا كنت أقف اليوم بين يديك في حاجتي هذه، فإنّي في الوقت الذي أشفق على نفسي من عدلك الذي يجمّد لي حاجتي في دائرة المنع، أفكّر في الطمع بكرمك الذي تتفضّل بمعطياته على عبادك الخاطئين، فتستجيب لهم طلباتهم، وتقضي لهم حاجاتهم، وتجيب لهم دعواتهم.
لذلك، لابدّ للإنسان من أن يعمل لما يقرّبه من الله تعالى ليحصل على رِضاه، ولا شيء إلّا رِضاه، ليدخله جنّته ويحصل على رضوانه. إنّ علينا كمؤمنين التطلّع إلى عطاء الله وكرمه، وعدم الإصرار على الذنوب والمعاصي، بل الإسراع إلى التوبة، وكسب عفو الله وفضله، فعند الله كلّ خير وفضل وتكرّم يبقى لنا ذخراً في دنيانا وآخرتنا. فليكن كرم الله وتفضّله الدائم على عباده، مُدعاةً للجميع حتى يتفكّروا في أُمورهم، ويحاسبوا أنفُسهم ويراجعوها، حتى تعيش التوبة والاستقامة الدائمة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق