• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المؤمن القوي

الشيخ نعيم قاسم

المؤمن القوي
◄قال تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (مريم/ 12-15).

المؤمنُ قويٌّ في إيمانه وطاعته، وقويٌّ في مواجهة هواه، وقويٌّ في عمله الصالح، يُقيمُ دِينَ الله على الأرض.

خاطب جلّ وعلا النبيّ يحيى (ع) بقوله: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)، خُذِ الكتاب الذي هو التوراة، وتوجد روايات أخرى بأنّه كتاب سماوي خاص به. يا يحيى خُذِ الكتاب بمعارفه، خُذِ الكتاب وأنت واثقٌ من كلّ ما أمرك الله تعالى به ونهاك عنه، خُذ الكتاب واعمل بكلِّ شجاعة وجرأة، خُذ الكتاب وارفع رأسك بأنّك مع الله وتلتزم دين الله تعالى، فالقوة بمعناها الأوسع من قوة الجسد. خُذ الكتاب بيدك بقوةٍ في العقل والقلب والإرادة، واعملْ وفق شرع الله تعالى، لا تَهَبْ ولا تَخَفْ أحداً، وأنت واثقٌ من نفسك فيما تُقدِم عليه وفيما تعمل له.

من صفات المتقين التي ذكرها أمير المؤمنين عليّ (ع) في نهج البلاغة: "فمن علامة أحدهم، أنّك ترى له قوةً في دين، وحزماً في لينٍ، وإيماناً في يقين..."، فمن علامة المتقين القوة في الدين، فالمؤمن لا يكون ضعيفاً في حجته ودليله وإيمانه، ولا يخجل بما يحمل، ويكون واثقاً بدين الله، فيواجه التحديات وهو مسلحٌ بهذه التعاليم الإلهية العظيمة.

(وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، آتيناه المعارف الإلهية – كما ورد في التفاسير – وهو لم يزل صغيراً لم يبلغ الحلم، وهذا توفيق من الله تعالى للنبيّ يحيى (ع).

(وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا)، بأنّ أعطاه الله تعالى الحنان، والزكاة الطهارة والزيادة والنمو في طاعة الله تعالى، وكان بصفاته وسلوكه تقياً، بسبب هذا الإيمان وهذا الالتزام.

(وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)، برُّ الإنسان بوالديه من الصفات النبوية، يُحسن إليهما، ولا يظلم ولا يتجبّر على الناس، ولا يعصي الله تعالى، فقد اختار طريق الإيمان.

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) فسلام عليه يوم ولد في الدنيا، بأن يعيش الطمأنينة في طاعة الله تعالى، والسلام عليه يوم يموت وهو في القبر في فترة البرزخ، حيث يعيش أجواء الجنة، والسلام عليه يوم القيامة يوم يُبعث حيّاً عندما يُبعث كلّ الناس ليوم الحساب.

 

1- مجالُ القوّة:

(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)، القوةُ إمكانيةٌ أعطاها الله تعالى للإنسان، الذي يمكن أن يترجمها قوةً في الإرادة، والدفاع عن الدين، وفي مواجهة الأعداء، فهي كلُّ أشكال القوة التي يمتلكها الإنسان المؤمن.

يقول أمير المؤمنين عليّ (ع): "القدرة تظهر محمود الخصال ومذمومها". فالقدرة التي أعطاك الله تعالى إياها يمكن أن تستخدمها للخصال الحسنة، كما يمكن أن تستخدمها للخصال السيئة. فأنت قويٌّ إذا حميتَ مظلوماً وهذا عملٌ حسن، وإذا دافعتَ عن الأرض بهذه القوة فهذا عملٌ حسن، وإذا منعتَ الظالم من أن يعتدي فهذا عملٌ حسن...، بينما إذا استخدمت هذه القوة لتظلم مستضعفاً، أو تعتدي على فقيرٍ أو عاجزٍ أو محتاج، أو تعتدي على زوجك أو ولدك...، فهذه قوةٌ سلبيةٌ مذمومة. إذا استفدت من قدرتك في طاعة الله فستسعد، وإذا استخدمتها في معصية الله تعالى فستشقى، فكن حكيماً ولا تحوِّل نعمة الله تعالى إلى نقمة.

تبرزُ قوةُ المؤمن في دينه، فعن الرسول (ص): "إنّ الله عزّ وجلّ ليُبغِضُ المؤمن الضعيفَ الذي لا دين له. فقيل له: وما المؤمن الذي لا دين له؟ قال: الذي لا يَنهَى عن المُنْكَرِ". أنت قويٌّ عندما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فإن لم تفعل فأنت ضعيف، لأنّك ترى المنكر أمامك ولا تنكره بأحد خيارات الإنكار، ففي الحديث: "مَن رأى منك منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعفُ الإيمان". فالقوة في الطاعة، يساعدكم عليها علوّ الدين الإسلامي، يقول تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 139).

علينا أن نستفيد من هذه القوة، ولا نقع في الوهن، يقول تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج/ 78). جاهدوا واعملوا بكلّ عزم، وضحوا في سبيل الله تعالى، وارفعوا راية الإسلام، ليجتبيكم ربّ العالمين.

استخدم إيمانك بقوة، واستخدم إمكاناتك وطاقاتك لمصلحة الإيمان. أعطاك الله تعالى ذكاءٍ فاستخدمه في طاعة الله تعالى، وأعطاك جسداً فاستخدمه في طاعة الله، وأعطاك قدرة على المحاورة والنقاش فاستخدمها في إقناع وجذب الناس إلى طاعة الله تعالى، وأعطاك وجهاً حسناً فاستخدمه ببشاشة لتنمية صِلاتك مع أقاربك وأصحابك.

واعلم أنّ درجة المؤمن القوي أفضل من درجة المؤمن الضعيف، لأنّ المؤمن القوي يعطي أكثر، ففي الحديث الشريف: "المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله عزّ وجلّ من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير"، فالمجاهد في سبيل الله الذي يُقاتل الأعداء ويدافع عن الأرض ويُحرر الكرامة والعزة أفضل ممن يكتفي بصلاته وصيامه، وله الدرجات العليا عند الله تعالى.

أين مجال استخدام القوة؟ يقول لقمان الحكيم: "إذا دعتك القدرة إلى ظلم الناس فاذكر قدرة الله عليك"، لا تظلم الناس وتذكّر بأنّ الله تعالى قادر على معاقبتك، وأنت مسؤول عن أعمالك.

 

2- توجيه القوّة:

عندما أرسل الإمام عليّ (ع) مالكاً الأشتر والياً على مصر، كتب له كتاباً فيه توجيهات تربوية عملية عادلة لحكم مصر، قال (ع) في كيفية التعامل مع الرعية: "فأعطِهِم من عفوِكَ وصَفحِكَ، مثل الذي تُحِبُّ وترضى أن يعطيك الله من عَفوِه وصَفحِه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فَوقَكَ، والله فَوْقَ مَن ولّاكَ". اصبر يا مالك على الناس عند أخطائهم وهفواتهم، وأعطهم من عفوك كما تحب أن يصفح الله تعالى عنك ويُعطِكَ من حلمه وعفوه، فأنت الوالي عليهم بالتنصيب، لكن تذكّر أني والٍ عليك، والله والٍ على مَن ولاك، فأمير المؤمنين (ع) فوقك، والله فوق الأمير، فالمسؤولية كبيرة، والرقابة عظيمة، ولستَ مُطلَقَ اليد لتفعل ما تشاء وتتجاوز حدودك.

يقول الإمام الرضا (ع): "التفريط مصيبة ذوي القدرة"، لأنّ استخدامها من دون توازن، وبشكل زائد عن الحدِّ المناسب، يترك آثاراً سلبية. إنما تكون القوة مؤثّرة عندما يضبط الإنسان نفسه، فيستخدمها في محلها وبالحدود المناسبة.

والقوي مَن ضبط نفسه عند الغضب، ولم يتّبع هواه في الظلم والانتقام، فعن أمير المؤمنين عليّ (ع): "قوة الحلم عند الغضب أفضل من القوة على الانتقام". عندما يغضب الإنسان ويفقد توازنه، ويخضع لسيطرة الشيطان ووسوساته، ويستخدم يده فيضرب أو يجرح أو يقتل، فهو في قمة الضعف أمام المشاكل، وليست تصرفاته من القوة المحمودة في شيء.

كيف نوجِّه القوة التي أعطانا الله تعالى إياها حتى تكون قوة في الدين؟ المفتاح مخالفة هوى النفس، فعن النبيّ (ص): "أشجع الناس مَن غلب هواه". يدفع الهوى إلى الرغبات والشهوات التي تؤدي إلى الانحراف والمعاصي، فعندما تغلب هواك وتوجهه إلى الحلال، يعني أنّك شجاع ومُسيطرٌ على نفسك، وهذه هي القوة الحقيقية والمفيدة.

يقول أمير المؤمنين (ع): "مَن قويَ على نفسه تناهى في القوة"، أي لا حدود لقوته، لأنّه امتلك نفسه فوجهها إلى ما يريد، من دون أن يقع أسير رغباته وشهواته، فلا شيء يشده إلى الأرض أو يذله فيها، ولا قوة قادرة على دفعه إلى الحرام والمعاصي، فهو عزيزٌ يُسيطر على نفسه وحياته.

مرّ الرسول (ص) بقوم يتباهون فيما بينهم، هذا يقول بأنّه القوي، وذاك يقول بأنّه الأقوى، قال (ص): "ما الخبر؟" قالوا: فينا رجل يرفع هذا الحجر، وهذا الحجر اسمه حجر الأشداء، ومَن يرفع حجر الأشداء يكون الأقوى بيننا، ونحن نتنافس في هذا الأمر، ثمّ رفع هذا الحجر رجلٌ منهم فأُعجبوا به لقوته. فقال (ص): "أفلا أخبركم بما هو أشد منه، رجلٌ سَبَّهُ رجل، فحلُمَ عنه، فغلبَ نفسَهُ، وغلبَ شيطانَهُ، وشيطانَ صاحبِه" هذا هو حجر الأشداء وليس الحجر الأصم العادي، فعندما سبّه فكر: فحلُمَ ولم يغضب، ولم يتصرف بردة فعل عاطفية، ولم ينساق إلى غريزته، فغلب نفسه. وفي الوقت نفسه، خسر المحرض إياه على الغضب فيكون قد غلب شيطانه. ولم يتصرف بما يستدرج ردة فعل صاحبه، ولم يعطه مبرراً للإساءة إليه من جديد، فيكون قد غلب شيطان صاحبه.

عندما عرج الله تعالى بالنبيّ (ص) إلى السماء، في ليلة الإسراء والمعراج، رأى مشاهد كثيرة على الأنبياء، وبعض الناس، ومشاهد من يوم القيامة، وأُناساً في الجنّة وآخرين في النار، ومما رآه (ص): "رأيتُ ليلة أُسري بي قصوراً مستويةً مشرفةً على الجنّة، فقلتُ: يا جبرائيل لمن هذا؟ فقال: للكاظمين الغَيْظَ والعافين عن الناس والله يُحبُّ المحسنين".

وعن الرسول (ص): "مَن عفا عن مظلمة أبدله الله بها عزاً في الدنيا والآخرة".

وعنه (ص): "إذا أوقف العباد نادى منادٍ: ليقم مَن أجره على الله وليدخل الجنة، قيل: من ذا الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس".

الأفضل أن يكون العفو من دون شوائب، وأن لا يصاحبه مَنٌّ ولا أذى، وقد فسّر الإمام الرضا (ع) قول الله تعالى: "فاصْفَحِ الصَّفْحَ الجميل"، قال (ع): "هو العفو من غير عتاب".

نخلص إلى أنّ قوة المؤمن في دينه، تنعكس إيماناً في حياته. القوة في الدين تُبرِزُ عظمة أحكام الشريعة المقدسة وتوجيهاتها لاستثمار القوة في محلها الصحيح، فإذا كنت قوياً في دينك فأنت مجاهد في سبيل الله، وتستخدم قوتك في محلها الصحيح، فلا تظلم ولا تعتدي، وأنتَ صابرٌ تكظمُ الغيظ، ولا تعمل إلّا بما أمر الله تعالى به، وتتنازل برّاً وإحساناً... وما يشجع المؤمن على اعتماد هذا السلوك الإيجابي، أنّ الأمور تعود إلى الله العادل.

قال أعرابي: يا رسول الله، مَن يُحاسبُ الخلقَ يوم القيامة؟ قال (ص): "الله عزّ وجلّ. قال: نجونا ورب الكعبة. فقال (ص): "وكيف ذاك يا أعرابي؟ قال: لأنّ الكريمَ إذا قدرَ عفا".►

 

المصدر: كتاب مفاتيح السعادة

ارسال التعليق

Top