• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مظاهر الغيرة عند الطفل

د. بركات محمد مراد

مظاهر الغيرة عند الطفل
اهتم الباحثون النفسيون بموضوع الغيرة عند الأطفال، ووجدوا أن ثمة مظاهر لهذه الغيرة تتجلى بـ"المظاهر النفسية، والجسمية، والاجتماعية"، وكثير من الأطفال في منتصف عامهم الثاني – يصدر عنهم سلوك يدل على الغيرة. والغيرة هي أحد المشاعر الطبيعية عند الإنسان كالحب والألم، ويجب أن تتقبلها الأسرة كحقيقة واقعة ولا تسمح – في الوقت نفسه – بنموها، فقليل من الغيرة يفيد الطفل، ويحفزه إلى التفوق، وكثيرها يفسد الحياة، وخاصة حين تصبح انفعالاً بغيضاً يؤدي إلى شقاء صاحبه، كما يسبب التعاسة للأشخاص المحيطين به، ويطغى على الشخصية طغياناً يؤدي إلى عسر شديد في توافق الفرد مع المجتمع الذي يعيش فيه. تعريف الغيرة: يعرف الأخصائيون الغيرة بأنها "انفعال مركب ينشأ من تفاعل الإحباط والقلق"، وهي عاطفة قوية قد تكون صغيرة حيناً ومؤذية في أحيان أخرى. والشعور بالغيرة يبلغ أشده عند الطفل الصغير لأنّه عندما يشعر بهذا الإحساس تجاه طفل آخر لا يستطيع أن يفسر ما أصابه، مما يحيل حياته إلى جحيم فترة طويلة من الزمن، ولابدّ من وجودها ليستطيع الطفل أن يحقق ما يصبو إليه إذا ما لمس أحد الأطفال يتفوق عليه في مجال يحبه ويعمل جاهداً للوصول إليه. وليس هناك من هو أكثر شقاء وتعاسة من الطفل الغيور، فهو يشعر بأنّه أخفق في الحصول على الرعاية والحماية من شخص مولع به ولعاً شديداً. لذا فهو يختزن أحزانه ويبالغ فيها حتى يشعر بأنّ الدنيا كلها تعمل ضده. ولا شك أنّ الغيرة المفرطة تثير عند الطفل الحقد والغضب، وهي من أهم العوامل التي تؤدي إلى ضعف ثقة الطفل بنفسه، أو إلى نزوعه للعدوان والتخريب، وما السلوك العدائي والأنانية والارتباك والانزواء والتبول اللإرادي إلا أثر من آثار الغيرة على سلوك الأطفال، وقد تصل الغيرة إلى حد التحطيم والحزن وأحياناً إلى الاكتئاب، بل قد تؤثر عليه في المستقبل، فيكون دائم الخلاف مع محيطه ومجتمعه. ولا يخلو تصرف أي طفل من إظهار الغيرة بين الحين والحين، وهذا لا يسبب إشكالاً إذا فهمنا موقف الطفل وعالجناه علاجاً سليماً. أما إذا أصبحت الغيرة عادة من عادات السلوك تظهر بصورة مستمرة فإنها تصبح مشكلة لا سيما حين يكون التعبير عنها بطرق متعددة. وتؤكد الباحثة "منى السعيد" على أنّ الغيرة في الطفولة المبكرة تعتبر شيئاً طبيعيّاً حيث يتصف صغار الأطفال بالأنانية وحبّ التملك وحبّ الظهور لرغبتهم في إشباع حاجاتهم، دون مبالاة بغيرهم، أو بالظروف الخارجية. ونحن نرى في هذه الغيرة – خاصة حين تكون معتدلة – نوعاً من المحافظة على الذات وتدعيمها يتم بصورة غير رشيدة تتناسب مع مرحلة النمو الأولى، ولذلك فقمة الغيرة تحدث فيما بين 3-4 سنوات، وتكثر نسبتها عند البنات عنها عند البنين، وتزداد أيضاً في الأسرة الصغيرة التي يكون التركيز فيها على الطفل من ناحية الوالدين، كما تقل الغيرة إذا زاد الفارق الزمني بين الطفل وأخيه أو أخته. أسباب الغيرة: ويمكن أن نجمل أسباب الغيرة في عدة أسباب هي: 1- الشعور بالنقص وضعف الثقة بالنفس، ويعود ذلك إلى: * ضعف الطفل وقوة من حوله يشعرانه بضآلته وضعفه. * القصور الجسماني عند بعض الأطفال متمثلاً في ضعف الطفل بسبب سوء التغذية وفقدان الشهية وتسوس الأسنان والتهاب اللّوَز، أو في وجود تشوهات خلقية وعيوب جسمية كالشلل أو العرج أو النحافة أو البدانة أو فرط القصر أو فرط الطول أو فقدان أحد الأطراف أو فقدان الحواس أو بعضها. * السلطة الوالدية المتمثلة بالشدة الزائدة والقسوة والعقاب لأتفه الأسباب وإهانة وتحقير الأبناء أمام الإخوة والأقارب والأصدقاء وغيرهم، وإصرار الوالدين على الطاعة العمياء من قبل الأولاد دون مناقشة أو تفاهم. * سيطرة الاضطرابات والخلافات والمنازعات بين أفراد الأسرة. * عامل اليتم، ولا سيما العوامل التي تزيد من أحزانه، لذا كان اهتمام الإسلام باليتيم بغية السعي لجعله عضواً نافعاً في المجتمع (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (الضحى/ 9)، و(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) (البقرة/ 220). * الفقر: وهذا العامل بالذات يجعل صاحبه ينظر إلى المجتمع نظرات الضيق والكراهية مما قد يصيبه بأمراض من مركبات النقص. 2- ولادة طفل جديد: وهذه الظاهرة تجعل الطفل يعتدي على الذي شاركه محبة والديه لشعوره بأنّ المولود الجديد أخذ حقّاً من حقوقه. وعلاج هذا الأمر يتم بالموازنة الصريحة بين الأطفال وبعضهم البعض سواء في المنزل أو في المدرسة، حيث السخرية بمقدرة الطفل وموازنتها بمقدرة طفل آخر، تبعث فيه شعوراً بالمرارة والحقد والقصور والعجز، إضافة إلى تحقيق العدالة في توزيع الحب والاهتمام بين الأبناء. * اختلاف معاملة الابن عن البنت في بعض الأسر، مما ينمي عندهنّ غيرة تكبت وتظهر أعراضها في صور أخرى في مستقبل حياتهنّ ككراهية الرجال عامة وعدم الثقة بهم. كما أن إغداق امتيازات كثيرة على الطفل المريض من اللعب والحلوى مما يثير الغيرة في الأخوة الأصحاء مما تبدو مظاهره في تمنّي المرض، وكراهية الطفل المريض. مظاهر الغيرة: ثمّة عوامل عديدة في تحديد تلك المظاهر التي تتجلى الغيرة عبرها. فالأطفال في عامهم الثاني تكون مظاهر الغيرة عندهم الجلبة والضوضاء بغية التوجه إليهم وإزالة ما يسبب ضيقهم من موقف اعتبروه يهدد طمأنينتهم، ثمّ ينصرفون إلى الهجوم والاعتداء عند تقدمهم في العمر، وحينما يصبح هؤلاء أكثر نضجاً ودراية يتوجهون إلى مضايقة من انصرف عنهم ويعملون على إغاظته كنوع من الدفاع عن النفس حتى يتخلى هؤلاء عن الفرص التي أتاحوها للدخلاء الذين شاركوهم في أمور يعدونها من ممتلكاتهم. ثمّ تأخذ الغيرة أشكالاً أخرى أقرب إلى الحنكة والتكتم والدهاء بإخفاء ممتلكاته أو تلفها قبل أن يعرف أهله أنّه هو الذي يفعل ذلك، وقد يلجأ إلى الشتم والعنف والغضب ممن يضايقه. إنّ أولى مراحل الإحساس بالغيرة لدى الطفل تبدأ داخل أسرته عندما يبدي الأهل اهتماماً بأخيه الآتي حديثاً إلى العائلة، هنا تبرز لدينا المظاهر الاجتماعية للغيرة حيث يشعر الطفل بأنّه أهمل ولم تعد له المكانة التي كانت له عند الأهل، وهذا الشعور يمكن أن يشعر به الطفل المبكر عندما يولد للعائلة طفل آخر، ويبدأ بأخذ كل الاهتمام من الأبوين، وهذه الحالة تولد لدى الطفل عدوانية وعداء ويتعمد إتلاف الأشياء والممتلكات، ويتطور انفعال الغيرة لديه في كافة مراحل حياته، ويبقى الطفل هكذا حتى يبلغ سن السادسة من عمره وخلال هذه الفترة يبدأ الطفل يسلك سلوك النكوص ويبدأ باستخدام أساليب بدائية (يمص إبهامه، وينطق كلمات لا تتناسب مع عمره على الإطلاق) ومن الأطفال خلال هذه المرحلة من يلجأ إلى التبول أو إلى البراز، وهذه الأفعال يظن الطفل الغيور أنها يمكن أن تثير اهتمام الأهل به لأنها ذاتها التي تجعل الأهل يهتمون باخيه ويتركونه، وإذا استمر الطفل ضمن هذه الظروف، فإنّه عندما يكبر تتجلّى مظاهر الغيرة لديه تتجلى بالضيق والتبرم ممن يسببون له هذا الشعور، وهنا قد يلجأ الطفل إلى الوشاية والإيقاع بالشخص الذي يغار منه، ومن المحتمل أن يوقع الأذى به. وهنا يكمن دور الأهل في عدم جعل الطفل يشعر بالغيرة من أخيه الذي سيولد ويصبح فرداً من العائلة. فكيف يتم ذلك؟ يقول أحد الأخصائيين النفسيين: يجب إعداد الطفل مسبقاً بقدوم مولود جديد إلى العائلة قبل أن يولد، على أن لا يوعد الطفل بأنّ الآتي هو ذكر وأنثى، لأنّ الطفل يأخذ الموضوع بكثير من الجدية. ويفضل معظم علماء النفس تعريفه بأن أخاً له ينمو داخل أحشاء أمه، وأن يحس حركته داخلها بيديه، ولا شك أنّ هذا الأمر لا يمكن شرحه لطفل عمره سنة، إنما يمكن شرح ذلك للطفل الذي أتم العامين من عمره أو أكثر، وبهذه الحالة يمكن ضمان أن ولادته لن تغير حياة الطفل الأكبر وخاصة إذا كان الطفل الكبير وحيداً لا أخوة له، كما يجب أن تحدث التغييرات الخاصة بالمولود الجديد قبل موعد ولادته بأشهر كي لا يشعر الطفل بأن نقلة جديدة ومفاجئة ستأخذ اهتمام وحب والديه بالطفل الأكبر أوّلاً ثمّ الاتجاه للطفل المولود حديثاً لأن ذلك لا يمكن أن يشعر الطفل الكبير بالغيرة على الإطلاق. علاج الغيرة: أفضل الطرق لتخفيف حدة الغيرة هي ممارسة العدالة في الحب والمعاملة فلا تظهر رعاية لأحد الأبناء على حساب حصة الآخر. وإشعار الطفل بقيمته ومكانته في الأسرة والمدرسة وبين الزملاء. وتعويد الطفل على أن يشاركه غيره في حبّ الآخرين. يعلم الطفل أنّ الحياة أخذ وعطاء منذ الصغر وأنّه يجب على الإنسان أن يحترم حقوق الآخرين. * تعويد الطفل على المنافسة الشريفة بروح رياضية تجاه الآخرين وبعث الثقة في نفس الطفل وتخفيف حدة الشعور بالنقص أو العجز عنده. جعل العلاقات القائمة على أساس المساواة والعدل بين أفراد الأسرة، دون تمييز أو تفضيل فرد على آخر، مهما كان جنسه أو سنه أو قدراته. فلا تحيز ولا امتيازات بل معاملة بين الجميع على قدم المساواة. تعويد الطفل على تقبل التفوق وتقبل الهزيمة، بحيث يعمل على تحقيق النجاح ببذل الجهد المناسب، دون غيرة من تفوق الآخرين عليه، بالصورة التي تدفعه لفقد الثقة بنفسه. * تعويد الطفل الأناني على احترام وتقدير الجماعة ومشاطرتها الوجدانية، ومشاركة الأطفال في اللعب وفيما يملكون من أدوات. ويجب على الآباء الحزم فيما يتعلق بمشاعر الغيرة لدى الطفل، فلا يجوز إظهار القلق والاهتمام الزائد بتلك المشاعر، كما أنّه لا ينبغي إغفال الطفل الذي لا ينفعل ولا تظهر عليه مشاعر الغيرة مطلقاً. * يجب على الآباء أن يقلعوا عن كثرة مدح بعض الأبناء أمام إخوانهم، ويجب اعتبار كل طفل شخصية مستقلة لها مزاياها واستعداداتها الخاصة، كما يجب المساواة في التعامل بين الابن والابنة، لأنّ التفرقة تثير الغيرة وتؤدي إلى الشعور بكراهية البنات للجنس الآخر في المستقبل. كما لا يجب إغداق امتيازات كثيرة على الطفل المريض بجعله يتمارض أكثر مما يثير الغيرة لدى إخوته.. * وعامة يمكن للتربية أن تؤدي دورها الفعال في التخفيف من معاناة الطفل بالعمل على تجنيبه مثيرات الغيرة قدر الإمكان، وذلك بقيام المربية من أهل الطفل في الأسرة والمعلمين في المدارس بدورهم التربوي ومعرفة أسباب الغيرة، وكيفية معالجتها، فمثلاً عليهم تقدير الطفل وتشجيعه، لأن قدرات الطفل تتغذى وتنمو على التشجيع ولكنها تضمر وتموت بالتقريع والتثبيط والإهمال. ويحسن الأهل صنعاً إذا ما عوَّدوا الطفل منذ الصغر تقبل الآخرين والتعاون معهم، وعدم المبالغة في تلبية جميع رغباته، حتى لا يعتقد أنّه مركز الكون وأنّ الجميع يجب أن يعمل على إرضائه. وإذا كانت بعض الأسر تشكو من مرض أو إعاقة أحد أبنائها، فيجب أن تكون العناية به وتحقيق رعايته في حده المطلوب والضروري فقط، حتى لا يثير الغيرة عند أخواته فيتمنون المرض مثله ما ينغص عيش الأسرة ويزيدها إشكالاً. * المنافسة بين التلاميذ، حتى تبقى سليمة ومنجة لها شروط، فيجب على المعلم أن يعرف كيف يثيرها ويستغلها دون أن يقلبها إلى مناسبة للغيرة بمحاباة بعض التلاميذ على حساب الآخر، وبخاصة إذا كان بغير حق. ولكن كيف نعالج الخطأ الذي يرتكبه الطفل؟ يجب العمل على تنبيه الطفل على خطئه إذا أخطأ برفق ولين مع تبيان الحجج التي يقتنع بها في اجتناب الخطأ. * إنّ المربين من أهل ومعلمين معنيون بتفهم الغيرة، أسبابها ومظاهرها والعمل على تخفيف وطأتها على أبنائنا، مع ملاحظة أنه بقدر ما يكون الجو الأسري متفقعاً مع أصول التنشئة الاجتماعية التي تقام على أساليب تربوية ونفسية سليمة، وبقدر ما تشيع فيه روح المحبة والتعاون يكون الطفل قادراً على التكيف السليم مع نفسه ومع مجتمعه؛ لذا فعلاج الغيرة لن يكون بمحاربتها وقمعها بل بتنمية العواطف المقابلة لها، عواطف الحب والغيرية التي تحتويها فتقوي شخصية صاحبها، وتجعله قادراً على مواجهة المنافسة في المستقبل.   - المصادر والمراجع: *. سعيد فضلو: الغيرة عند أطفالنا، الخفجي، الرياض، يوليو 2002م. * محمد إبراهيم عيد: أبحاث مؤتمر التربية في مجتمع المعرفة، المجلس الأعلى للثقافة، مصر 2006. * منى السعيد الشريف: عندما يغار الطفل.. ماذا نفعل؟ الوعي الإسلامي، العدد 473، فبراير 2005م. * ليلى محمد محمد: غيرة الأطفال، المعرفة العدد 127، الرياض، نوفمبر 2005م.   المصدر: كتاب أطفالنا.. وتربية عصرية

ارسال التعليق

Top