• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مبادئ وشروط في تنمية المجتمع

أ.د. عبدالكريم بكار

مبادئ وشروط في تنمية المجتمع
لله – جلّ وعلا – سنن تحكم حياة الفرد، وسنن تحكم حيوات الأفراد مجتمعين، وفي إطار هذه وتلك جاء التكليف الربّاني للعباد، وابتلاؤه لهم. السنن التي تحكم حياة الفرد غير السنن التي تحكم حياة الجماعة، وهذا يعني أنّ مصالح الفرد قد لا تتطابق دائماً مع مصالح الجماعة، وهنا يكمن جوهر الإبتلاء في الحياة الإجتماعية. إنّ ممّا لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أنّ المبادئ لا تعمل في فراغ، وإنّما تحتاج كيما تصوغ حياتنا، وتكون حاضرة فيها – إلى شروط موضوعية وفنّية – علينا أن نعمل على توفيرها، وهي شروط تخضع في مجملها للنواميس الإجتماعية. وسنذكر هنا بعض المبادئ والشروط والنواميس التي نرى أنّ استيعابها ضروري لتنمية حياتنا الإجتماعية، وذلك في المفردات التالية:   1- الإستقامة شرط لوجود الفائض الإجتماعي: يمكن القول إنّ أحد أهم مقاييس استحقاق حشد من الناس اسم (مجتمع) هو ما فيه من أفراد ومجموعات تُعنى بالشأن العام، وتتجاوز حركتها اليومية دوائرَ مصالحها الخاصّة إلى الإنشغال بمصالح الجماعة. وبما أنّ كل مجتمع لا يخلو من هذه الشريحة، فإنّ المهم هو الحجم الذي تمثله في مجتمعها، وأدوات التأثير التي تملكها. ومعيار كفايتها هو الوضعية الإجتماعية العامّة، فإذا وجدنا الأمور المشتركة بين الناس مخدومة بعناية، وإذا وجدنا الخطأ والإنحراف محاصرين على نحو جيِّد، فإنّ هذا يعني أنّ ما هو مطلوب موجود ومناسب. وإذا وجدنا أنّ المظلوم لا يجد ناصراً، والضعيف لا يجد معيناً، والمفسد لا يجد رادعاً، فإنّ هذا يعني أنّ كتلة أهل الخير غير كافية، ولا فعّالة، ومن ثمّ فإنّ ما نُسمِّيه مجتمعاً هو مجتمع ناقص ومهدَّد، وهو أقرب إلى أن يكون تجمُّعاً. وجود هذه الشريحة المباركة هو التعبير الحي عن وجود فائض اجتماعي، حيث توفّرت طاقات زائدة على ما تتطلّبه الحياة الفردية لبعض الناس. والسؤال الدائم والملح، كيف يمكن إيجاد هذه الطائفة؟ في قوله – جلّ وعلا – : (والذين يُمَسِّكونَ بالكتاب وأقاموا الصلاة إنّا لا نُضِيعُ أجر المُصلحين) (الأعراف/ 170) إشارة إلى أنّ الذين يتمسّكون بالكتاب هم المصلحون، فالإصلاح يتأتّى من وراء الإلتزام بمضمون الكتاب وهذا ما تشهد به وقائع الحياة الملموسة.. فالذين يتبرّعون ويبنون الجمعيات الخيرية والمشافي المجانية وملاجئ الأيتام، هم في غالب الأمر من الملتزمين بالنهج الإسلامي القويم. وهذا يُعيدنا إلى حقيقة مسلَّمة، هي أنّ الفرد هو جوهر المجتمع، ولا نستطيع أن نحافظ على ترابط مجتمعاتنا ونقائها بغير إشاعة الإلتزام بين الأفراد، وتكثير سوادهم، وما قلَّ الملتزمون الصالحون في مجتمع إلا ضرب فيه النهب والفساد والإنحلال الخلقي أطنابه. وما أجمل قول الله – تعالى – : (وألَّوِ استَقاموا على الطريقة لأسقيناهُم ماءً غَدَقاً) (الجن/ 16)، فالإستقامة شرط لإستفاضة الخير وتماسك المجتمع.   2- يستمد العامل الإصلاحي قوّته من الظروف المحيطة به: حين تنسد الآفاق أمام الناس، فإنّهم يبحثون عن مخرج، ويغلب عليهم الإدراك الأحادي للحلول، لأن تركيبتهم العقلية تميل إلى أن تكون بسيطة، ومن ثمّ فإنّ منهم مَن يعتقد أنّ شح المال وقلة الموارد يُمثِّل رأس المشكلة، فإذا ما توفر المال حُلت المشكلة، ومنهم مَن يرى أنّ فقد القيادات السياسية والإصلاحية الفذّة هو أساس المشكلة، ولذا فإنّ الخلاص منوط بوجود شخصية سياسية مثل شخصية عمر بن الخطاب (رض)، أو قائد عسكري بارع مثل صلاح الدين، أو مصلح كبير مثل ابن تيمية أو العز بن عبدالسلام. ومنهم ومنهم... وهذا كلّه وهم، وهو إلى جانب ذلك نوع من أنواع الهروب من المسؤولية، ومظهر من مظاهر العجز! ونحن لا ننكر – بداهةً – الأثر الذي قد يحدثه الفرد الفذ المتميِّز، والفرصة العالمية النادرة، والثروة المالية الطائلة.. من آثار وتغييرات في حياة الأمم والشعوب، لكن الوضعية العامّة للأمّة تظل أهم بكثير.. فإذا كانت مقلوبة ومنطوية على إمكانيات إيجابية، فإنّ أضعف العوامل شأناً يمكنه أن يدفعها إلى الأمام.. وإذا كانت على خلاف ذلك، فإنّ أقوى العوامل تأثيراً يفقد فاعليته، ويتلاشى تأثيره. هناك أحداث تعد تافهة جداً في الأحوال العادية، تكتسب أهمية استثنائية عند التقائها ببعض الظروف والأوضاع. إنّ زلة لسان، أو كبوة فرس، أو تأخر قائد في النوم، أو مرض عالم، إنّ هذه الأشياء الصغيرة قد تسبب نكبة لمجتمع، لا يستطيع الخلاص منها عبر عقود عديدة!! إنّ الذي أريده من وراء هذا الكلام هو أن نزيح عن طرق تفكيرنا العامل الوحيد والسبب الوحيد والطريقة الوحيدة، وأن ننزع من نفوسنا الرغبة الجامحة في الحلول الآنية الجزئية والسريعة، ونصير عوضاً عن ذلك إلى تشغيل كل فرد من أفراد الأمّة بشيء نافع، ولو كان صغيراً، فذلك هو الطريق الأقصر إلى تحسين الوضعية العامّة للأمّة، وذاك هو الذي يمنح التقدّم شيئاً من الإستقرار والثبات والتراكم، وآنذاك تتحوّل كل العوامل والمؤثرات المحدودة إلى عناصر إيجابية بنّاءة.   3- عند انتشار الظلم لا يبقى شيء مقدس: قد تعوّدنا أن ننظر بعين الإستغراب والإستهجان إلى تقاتل شقيقين على منصب، أو مبارزة ابن لأبيه على مغنم، أو استعداء بعض الناس لقبيلة أخرى على قبيلتهم لأي سبب كان، فهذا كله ليس مقبولاً ولا مسوَّغاً تحت أي ظرف من الظروف. أمّا اليوم، فقد تغيّرت أشياء كثيرة حيث حلَّ في موضع مفاهيم التاريخ القديم تاريخ كوني عام، وقيم ومطالب كونية، وثقافة جديدة سائدة، وأصبح من السهل تغيير اللغة، وتغيير الأحلاف والولاءات والإلتزامات إذا تبدّلت المصالح. ولم تعد تجد هذه الفئة أو تلك أي حرج في التعامل مع فريق أجنبي لضمان المصالح المادية. ويسهل مرّة أخرى تجاوز كل تقاليد الإحترام والتفاهم والولاء حين يشعر المرء بغبن فادح، حيث يصبح على استعداد لعمل أي شيء، إذ لم يبق هناك تصرفات لا تقبل التعليل والتسويغ، وعلى هذا فإنّ المجتمعات التي لا تستطيع إيقاف المتنفذين والمتغولين وأرباب الشهوات والمطامع عند حدودهم، مجتمعات تضع مصيرها في مهب الريح، فالوازع الداخلي لدى أكثر الناس قد ضعف، وصار معقد الإنتماء والولاء للجماعة يرتكز على مدى تأمينها لحقوق أفرادها، وعلى مدى حمايتها لهم، فإذا لم تستطع ذلك، فإنّه لا معنى للحفاظ عليها والدفاع عنها. وهذا هو العامل الحاسم في مظاهر التوحش والهمجية التي نجدها اليوم لدى كثير من المجتمعات. إنّ المنطق السائد والقناعات الراسخة اليوم تبيح لمن وقع عليه الحيف دون مناصرة المجتمع له أن يفعل ما يستطيعه لدفع ذلك الحيف، ولو كان التآمر، والتهديد للكيان كلّه! إنّ الظلم ظلمات في الدنيا ويوم القيامة، وعلى الذين لا يفكِّرون إلا في أنفسهم أن يستعدّوا لدفع أفدح الأثمان!!   4- التوازن الإجتماعي رهن بالتبادل: كلّ مَن يعيش في مجتمع يطمح إلى أن تكون علاقته مع أفراد مجتمعه علاقة (تبادلية) ذات اتجاهين. والواقع الإجتماعي هو دائماً واقع تبادلي على مستوى السلع والحاجات، ويرغب الناس على نحو مستمر في تعميم هذا الواقع على الحياة المعنوية بكل صورها، إنّهم يرغبون في أن يأخذوا، ويعطوا، ويتأثّروا، ويؤثِّروا، ويتعلّموا ويعلِّموا... والحقيقة أنّ هذه هي الطريقة الوحيدة لحفظ توازن المجتمع وصونه من السقوط. وحين يُوقف هذا التبادل، وتتكلس الوضعيات المختلفة، يتباطأ تقدّم المجتمع، وتتفاقم مشكلاته، وتكثر انقساماته، ويصبح الناس ما بين متمرّد غالٍ، وما بين إمَّعة مقلِّد، وما بين متكبِّر متجبِّر، وما بين مستضعَف مطموس الشخصية والحقوق. ويصبح من المألوف أن ترى أقواماً لا يحسنون إلا الكلام، وآخرين لا يتاح لهم إلا الإستماع، وأقواماً خُلقوا للثراء والوجاهة، وآخرين خُلقوا ليكونوا في السوقة، وعلى حواشي الحياة، دون أيّة فرصة للتحسن والترقي! في هذه الحالة يصبح كل شيء شكلياً، وتصبح الكلمات لا معنى لها، وتفقد الحياة طعمها، وعلى كل واحد أن يبحث عن مصيره بشكل منفرد..!! في ظل المدن الكبرى والمجتمعات الواسعة ما عاد مجدياً ترك التبادل الإجتماعي يجري على نحو عفوي من غير قصد، ولا تنظيم، كما كان عليه الحال في الماضي، بل لابدّ من بناء مؤسسات وأطر شورية وبحثية وثقافية، يتم من خلالها التفاهم والتبادل بين الناس بطريقة حضارية وسلمية، حتى لا تترك الساحة الإجتماعية لقوى الشر، وأصحاب النزوات، يُحرِّكونها لحساب مصالحهم الشخصية! لابدّ أن تظل آفاق الصعود والترقي الإجتماعية مفتوحة للأفضل والأعلم والأنفع، حتى يستمتع الناس بثمار جهودهم وملكاتهم، وإلا فليس أمامنا إلا الخمول والموت البطيء، أو التحلل والإنفجار الداخلي! إنّ النظم الإجتماعية تعمل بطريقة قريبة من عمل النظم الطبيعية، فالقضاء على العصافير – مثلاً – قد يؤدِّي إلى زيادة الديدان، وإنّ تكاثر الديدان قد يقضي على المحاصيل، وإنّ الحل يكمن في ترك التوازن البيئي والإجتماعي يخضع لسنة المدافعة: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (البقرة/ 251).   5- تنحط النخبة حين تتخلى عن واجبها تجاه مجتمعاتها: مهما ترقى المجتمع وتعاظمت خبراته، فإنّه سيظل ينقسم إلى خاصة وعامة، وتابعين ومتبوعين. وهذا التنوع ضرب من ضروب التوازن والتكامل الإجتماعي، كما أنّه مظهر من مظاهر الإبتلاء. العامة وأشباههم قاصرون عن إدراك الواقع وتشابكاته وتداعياته، ومن ثمّ فإنّهم يعتمدون على الصفوة في اختيار الموقف الملائم، وردّ الفعل المناسب... إنّ الله – تبارك وتعالى – يسأل على مقدار ما يعطي، وميزات الصفوة ليست مداخل للوجاهة والمنافع المادية فحسب، وإنّما هي مناط للمسؤوليات الشرعية والأدبية والأخلاقية أيضاً. ومعالم تلك المسؤوليات عديدة، منها: توجيه الناس وإرشادهم وتعليمهم وتبيين مراشد الحق ومناهج الهدى لهم، حتى يحيا مَن حيَّ عن بيِّنة، ويهلك مَن هلك عن بيِّنة، وفي هذه المسؤولية عهد وميثاق لله – جلّ وعلا – : (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيِّننَّه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون) (آل عمران/ 187). ومنها: تكوين عقلية الناس تكويناً متوازناً ببسط كل جوانب الصورة، وذكر الإيجابيات والسلبيات لكل قضية كبرى تمس حياة الأمّة ومستقبلها. وهذه القضية من أخطر مسؤوليات الصفوة، حيث إنّ القيام بها قد يجر عليهم بعض المتاعب، وقد يفوِّت عليهم بعض الغنائم، ولكن لا خيار لهم في ذلك. وإذا لم يستطع الواحد منهم أن يفعل ذلك، فليتق الله – تعالى – وليلزم الصمت، فإنّه لا يُنسب إلى ساكت قول. والخلل في القيام بهذه المهمّة هو الذي أفقد مجتمعاتنا توازنها وحدسها أمام مختلف القضايا والأحداث الكبرى، وهو الذي شوَّه رؤيتها للوضعيّة المثلى التي ينبغي أن تكون عليها! إنّني أقول بكل صدق: إنّ الأمّة الفقيرة ليست هي التي لا تملك المال أو الموارد الكافية، وإنّما هي الأمّة التي تتلفّت في أيام شدّتها وحيرتها، فلا ترى عندها مفكِّرين عظاماً أمناء ينصحون لها، ويدلونها على طريق الخلاص، وينمُّون خبراتها النقدية. إنّ أوّل شرط ينبغي توفّره في أولئك المفكِّرين هو أن يتمتّعوا بالحدّ الأدنى من صفات (الرجولة)، وإلا فما أسهل أن يصبحوا تجاراً بمستقبل الأمّة وأمنها وكرامتها وحقوقها، وآنذاك فإنّهم لا يستحقون اسم صفوة أو نخبة، لأنّ الصفوة التي لا تدافع عن مبادئ الأمّة وحقوقها ليست صفوة، وإنّما هي شريحة إجتماعية منحطة بائسة، اختارت لنفسها التجارة بالممنوعات والمحرّمات، فما أخسرها من تجارة؟! إنّ أعلى نقطة في قمة الجبل هي أدنى نقطة إلى التدهور نحو القاع، وإنّ زلة العالِم زلة العالَم، لكن يبدو أنّ غلبة الأهواء، والإنجذاب نحو المصالح الخاصة قد أفقد الكثيرين الحساسية تجاه كل شيء!!   6- لنتعلّم من عالم (الحشرات) شيئاً من التفاني في خدمة مجتمعاتنا: في القرآن الكريم سورتان سمّيتا بإسمي نوعين من الحيوان، هما النمل والنحل، ومجتمعا هذين النوعين من أرقى مجتمعات الحيوان تنظيماً وتعاوناً وتفاهماً، والله – جلّ وعلا – وضع فيهما من الغرائز ما جعلهما يعملان في حياتهما الأسرية والإجتماعية أعمالاً سامية، يعجز عنها الإنسان، وعلى الواحد منّا أن يتعلّم منهما كيفية الإمتثال لمبادئه، وأن يتعلّم روح التضحية في سبيل الجماعة. وظيفة الملكة في مجتمع النحل وضع البيض، ومصدر غذائها تفرزه لها النحلات العاملات من غدد خاصة في رأسها! وللجماعة الواحدة ملكة واحدة، فهي لا تشكو من مشكلة انقسام القيادات! أمّا النحلات العاملات، فهنّ عُمُد الخلية، وهنّ يقمن بمعظم العمل، فعلى الرغم من كونهنّ (عاقرات)، إلا أنّهنّ يتولين تربية الصغار وإطعامها وتنظيف المستعمرة وتهويتها.. إنّ الجهود الهائلة التي يبذلنها تجعل أجسامهنّ لا تقوى على الإستمرار في الحياة، ولذا فإنّ متوسط عمر الواحدة منهنّ قرابة ستة أسابيع فقط!! والذكور مع أنّها تموت بعد عملية التلقيح مباشرة، إلا أنّها تقدم عليه، وكأنّها تفدي النوع بحياتها!! إنّ شعار النحل والنمل المرفوع دائماً: لا قيمة لحياتي عند تعرُّض سلامة الجماعة للخطر، وهذا هو شعار الشهداء في أمّة الإسلام! إنّ هذه الحشرات تتصرّف بغريزتها دون استخدام للتفكير، وكأنّ الله – تعالى – بثّ فيها تلك الغرائز ليرشدنا إلى العمل الجماعي الأمثل في حياتنا، حيث التعاون والتفاهم وتقسيم العمل والتضحية والإيثار!   7- وضوح أهداف المجتمع شرط لحفزه: في دوامة التخلُّف والمشكلات المتلاحقة، لا يدري المصلحون ماذا يعملون؟ ولا بأيُّها يبدؤون؟ ومن ثمّ فإنّه لابدّ من إيجاد نوع من الإجماع الشعبي على الأهداف الإجتماعية التي ينبغي تحقيقها خلال عشر سنوات أو عشرين سنة – مثلاً – وتحديد الزمن يساعد على تحديد البرامج والآليات التي ينبغي وضعها واستخدامها. لكن دولة ولكل جماعة أهداف معيّنة تسعى إلى تحقيقها، لكن المشكلة الأساسية أنّ تلك الأهداف تكون واضحة لدى شريحة ضيِّقة جدّاً، قد لا تتجاوز القيادة، وبعض المخططين! إذن تكون البداية بوضع خطة حضارية إجتماعية، تتضمّن أبرز الأهداف الإجتماعية وأكثرها إلحاحاً. كل أشكال القصور والإنحراف موجودة في كل مجتمع على وجه الأرض، لكن بعضها لا يشكل في بعض المجتمعات مشكلة ملحَّة، أو ظاهرة عامّة، أو وضعاً استثنائياً، فعلى حين يعاني مجتمع من ارتفاع نسبة المدخنين، يعاني مجتمع آخر من انتشار البطالة أو الرشوة... وهناك أهداف اجتماعية ثابتة لكل الأمم، والكمال فيها دائماً نسبي، لذا فإنّها تحتاج إلى نوع من المجاهدة المتصلة، وذلك من نحو: توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في تسيير دفة الأمور العامّة، وتوسيع نطاق الإستفادة من خدمات التعليم والتدريب والصحّة والرعاية الإجتماعية، والإنفتاح، وحل المشكلات عن طريق التفاهم، وتدعيم التواصل الإجتماعي... بعد تحديد الأهداف بدقة ووضعها في سلم التنفيذ بحسب أهميّتها وإلحاحها، تأتي مرحلة نقل تلك الأهداف إلى الثقافة الشعبية، حيث تخفق كثير من الدول في تعريف مواطنيها بما يجب أن يعرفوه من قضايا ومشكلات. ولن يتحقق تثقيف الناس بدون تكاتف كل وسائل التثقيف الإجتماعي، حيث يُحاصَر الفرد من قبل المسجد والمنهج الدراسي والصحيفة والتلفاز والإذاعة واللوحات المبثوثة في نواصي الشوارع، والشعارات المثبتة على السيارات والجمل القصيرة المكتوبة على إيصلات الماء والهاتف والكهرباء، وحيث تُعقد الندوات والمحاضرات. ويضاف إلى هذا تشجيع الناس على نقد السلوكيات الخاطئة، والتصرفات غير اللائقة.. لاريب في أنّ تحقيق حملات التوعية والتثقيف لغاياتها سيكون مرتكزاً على درجة الوعي التي بلغها المجتمع، وقبل ذلك على درجة رضا الفرد عن مجتمعه، ومدى اعتزازه بالإنتساب إليه. إنّ هذا الذي ذكرناه من توعية الأمّة بأهدافها، ربّما كان الفرصة الوحيدة لتحقيق تقدّم، طال انتظاره!.   8- الأسر المحطَّمة تثبِّط الهمة، وتفسد الخُلُق: مهما كانت إرادة الفرد صُلبة ومهما كانت إمكاناته الفطرية ممتازة، فإنّ للظروف السيِّئة أثراً بالغاً في إفساده وإرباكه، وإجهاض إمكاناته... والظروف الحسنة المواتية هي التي تخفِّف من محدودية الإنسان، وهي التي تمكنه من توظيف جيِّد لإمكاناته ومواهبه. مدن (الصفيح) في عالمنا الإسلامي آخذة في الإنتشار عاماً بعد عام، وفي تلك المدن ترى العجب العجاب، حيث الزحام، والحرمان من الماء النقي والكهرباء والصرف الصحّي، فضلاً عن الطبابة والدواء. في تلك المدن يتوفّر شيء واحد هو البيئة المثالية للتحلل الأخلاقي والفساد السلوكي، وإدمان المخدرات والنزاع والشجار.. إنّها أفضل بيئة لقتل الهمة، حيث المحيط ذو سوية منخفضة، وطموحات محدودة. في هذا الوسط البائس ينشط أهل الخير لترقيع ما أفسده الوضع الصعب، لكن حملات الإنقاذ التي يقومون بها لا تؤتي إلا أقل القليل من الثمار لأنّها تعالج الآثار، وتهمل الجذور والأسباب التي تقف وراء تلك الحياة المهينة! ولضربةٌ واحدة على الجذور أنفع من ألف ضربة على الأغصان! وهكذا فالخلاص من المشكلات الأخلاقية قد لا يكون في بعض الأحيان عن طريق معالجات تربوية، وإنّما بأدوات اقتصادية وعمرانية ومعيشية.   9- حاجة المجتمع إلى الإجماع حيويّة: لا يستطيع الناس التعايش من غير معايير يتعاملون على أساسها، ولابدّ لهذه المعايير أن تكون مرتكزة على معتقداتهم ورؤيتهم للحق والباطل، والصواب والخطأ. وكما هو الشأن في كل العلوم، وكل المجالات العملية هناك أصول وفروع، وقطعيات وظنيات. وكما أنّه لا ينبغي الإختلاف في الأصول، كذلك لا ينبغي السعي إلى تحصيل الإجماع على الفروع، فذاك غير ممكن، وغير مفيد أيضاً. وطالما حاول بعض الدعاة والمصلحين قطع دابر الخلاف في مسائل استمرّ خلاف الأمّة فيها قروناً، ولم يحصلوا على أيّة نتيجة، لأنّ ذلك مخالف للسنن الربّانية، ومخالف لطبائع الأشياء أيضاً. ولو أنّ الداعية أو طالب العلم امتلك القدر الكافي من البصيرة ووضوح الرؤية لما ضيَّع الممكن في طلب المستحيل! إنّ التربية الإجتماعية يجب أن تتمحور حول توحيد الناس على الأصول والكليات، التي تمثل المقاصد الكلية للشريعة، من مثل حفظ الدين والنفس والمال والعرض، وما يستتبع هذه الضروريات من أدبيات وأخلاقيات ومسائل تكميلية. يجب علينا أن نركِّز في تربيتنا الإجتماعية على المتفق عليه ونجعل ذلك شغلنا الشاغل، فإذا ما امتثل الناس لما هو موضع إجماع، لم يضرهم الجنوح إلى قول إمام من أئمة الهدى في مسألة من المسائل، ولو كان في قوله شيء من التساهل والترخيص، إذ إنّ الإلتزام الصارم بالأصول، وبالمتفق عليه يكسو صاحبه حلية التقوى، ويصبغ سلوكه بصباغ عام خيِّر لا يؤثر فيه ما يقع من تباين نتيجة التقليد للآراء المختلفة. وفي واقعنا وتاريخنا الإسلامي أشكال من الشجار والقطيعة والتدابر بسبب سنّة من السنن أو هيئة من الهيئات، وقد حصل بسبب ذلك انشغال هائل عن قضايا كبرى، وأدواء دوية، تنخر في جسم الأمّة، وذلك كله من قلة الفقه وغبش الرؤية!.   10- ليس انخفاض الكفاءة الإجتماعية داءً لا دواء له: إنّ الدعم الذي يتلقّاه الفرد من مجتمعه يُخفِّف من ضغوط المشكلات والظروف المعيشية الصعبة، وإنّ ممّا يخفِّف الشعور بالغربة والخوف من المستقبل ما يوجه إليه الإسلام من تضامن أسري، وترابط قرابي، وتعاون أخوي. ولا يخفى أن ما يأمله المسلم اليوم من دعم اجتماعي آخذ في التراجع، نظراً لتعقد أنماط الحياة، وكثرة مطالبها ونظراً لما هبَّ علينا من رياح الغرب الذي فقد نظامُ القرابة فيه أكثر المعاني الإيجابية. وعلى كل حال، فلا ينبغي أن نظن أنّ مجرد العيش في مجتمع يجعل المرء يستحق المساعدة، فذاك كرم قد انتهى، وحلَّ محله ما نُسمِّيه بـ(المقايضة الإجتماعية)، فليس من حق الذي لا يصل رحمه ولا يعاون جاره ولا يزور زميله أن يتوقّع اليوم معاملة أفضل، وهذا يعني أنّ شرط نيل الدعم الإجتماعي هو التمتُّع بكفاءة اجتماعية عالية، مما يولِّد تبادلاً وتواصلاً وتعاوناً أكبر. إذا ما نظرنا إلى نشاط المسلم في الحياة العامة، وجدناه أقرب – على نحو عام – إلى السلبية والخمول والإنكفاء على الذات. وهذا ليس صدى لعقيدة المسلم ولا للمبادئ التي يؤمن بها، وإنّما هو رد فعل فطري، واستجابة غير واعية للظروف الصعبة التي يعيش فيها، إنّه ينكمش ويتكيس، كما تتكيس بعض البذور عند وجودها في ظروف غير ملائمة للإنبات!. إنّ جانباً من عدم اندماج الإنسان المسلم في الحياة العامة يعود إلى نوع من اليأس من جدوى المشاركة، ومن شعوره بعدم فاعليته، واعتقاده بأنّه ليس هناك أيّة ضمانات للحصول على ثمار جهوده. وهذا ما نشاهده واضحاً من إعراض أكثر الناس عندنا عن المشاركة في (الإنتخابات)، حيث يعتقد أنّ النتائج معروفة سلفاً، وأنّ مشاركته، ومشاركة غيره لن تغير من حقيقة الأمر شيئاً! وهذا موقف منطقي وطبيعي. إنّ تداعيات الواقع وإيحاءاته ومتطلباته هي مصدر تجديد الوعي، وإذا كان الواقع شيئاً، فإنّه لن يكون قادراً على الإرتقاء بوعي الفرد إلى الآفاق المأمولة، بل يدفعه إلى التقزم والإحباط. إنّ إلحاحنا الدائم على الناس بأن يكونوا رجال واجبات لا رجال حقوق، وأن يتجاوزوا السقف الحضاري لمجتمعاتهم سيظل محدود التأثير والثمار ما لم تحل مشكلة النظام الإجتماعي اقتصادياً وتربوياً وسياسياً، فهذا هو المحور الذي يجب أن تتركّز حوله كل الجهود. على سبيل المثال، إذا كان نظام تأجير المساكن ظالماً، ومائلاً لمصلحة المتسأجر – كما هو الشأن في عدد من الدول – فإنّ الظلم سوف ينتشر مع علم المستأجر أنّه جائر في موقفه، لكن مادام القانون يجيز ذلك، فإنّ الظلم سيقع، وإنّ الذين سيمنعهم الخوف من الله – تعالى – من الإتكاء على القانون الجائر سيكونون قلة قليلة!. إنّ فوائد كل الأفكار الإصلاحية ستكون محدودة جداً إذا كانت الفكرة لا تجد المجال الذي يجعلها تبلغ منتهاها، ويضعها على المحك النهائي، حيث يتم قبول الفكرة ورفضها لذاتها، لا لأي اعتبار آخر، وحيث يمكن لأصحابها أن يدعموها ويدافعوا عنها بالطريقة التي يرونها مناسبة. إنّ فقد المناخ الصالح للتجديد والتغيير وتلاقح الأفكار جعل صنيع كثير من الدعاة والمصلحين أشبه بصنيع الطائر الذي يبيض في غير عشه!! المصدر: كتاب مصدر إلى التنمية المتكاملة.. رؤية إسلامية

ارسال التعليق

Top