◄سُئل الإمام الصادق (ع) عن الله تعالى فقال لسائله: يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟
قال: بلى.
قال له الإمام الصادق (ع): فهل كُسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟
فقال: بلى.
قال له الصادق (ع): فهل تعلق قلبك هناك انّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟
قال: بلى.
قال (ع): فذاك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي وعلى الإغاثة حيث لا مغيث.
في هذا الحوار القصير الذي جرى بين الإمام الصادق (ع) وبين أحد السائلين نعرف عدّة أمور هامّة:
أوّلاً: نعرف التوجُّه الطبيعي إلى الله تعالى. فإنّ الروح الإنسانية جزء من عالم الوجود، فلو افتقرت لشيء ما بصورة جدية وحقيقية فإنّ جهاز الكون الكبير لا يهملها ولا يدعها لشأنها... انّ من يبحث عن شيء كالنجاة من ورطة فإنّه سيعثر عليه في النهاية. انّ الجواب يتجه للمشكلات، والماء يتجه للموضع المنخفض لا تبحث عن الماء بل دع نفسك تظمأ فحيئذ سيصل إليك الماء من كلّ جانب وسوف يصل إليك بصورة أكيدة إذا كنت مضطراً إليه.
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل/ 62).
ثانياً: ونعرف من خلال الحوار الممتع الهام بين السائل والإمام انّ الذي يحول بين الإنسان وتوجهه إلى ربه وتعلقه به إنما هي الذنوب التي تشكل حاجزاً وحائلاً دون الاتصال الحبيب. يقول القرآن الكريم: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (الأنفال/ 24)، ويقول: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين/ 14).
ثالثاً: ونعرف من خلال الحوار بين الصادق (ع) والسائل انّ الإنسان ينبغي أن يكون متوجهاً إلى ربه متعلقاً به في العسر واليسر، والشدة والرخاء لأنّ التوجه نحو الله في حالة الشدّة والعسر فقط لا يعد كمالاً لاضطرار الإنسان إلى هذا التوجه بعد انقطاع الأسباب.
إنّ المتوجّه في هذه الحالة لا يحتاج إلى دعوة خاصة لأنّه مقهور مجبور مضطر إلا انّ الحالة الثانية حالة التوجه إلى الله والتعلق به في حالة اليسر والرخاء هي التي تعد كمالاً للنفس وارتقاء حيث يسمو الإنسان باختياره وينقطع بإرادته من كلّ الأسباب.
إنّ الدعاء في كلّ الأحوال يعبّر عن جانب عن افتقار الإنسان وحاجته ويعبر من جانب آخر عن الغنى المطلق لله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15).
إنّه أصدق تعبير عن علاقة المحتاج الفقير الضعيف بالغني القوي العزيز، والاقتراب منه.
"الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ويحييني والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ربّ هب لي حكماً والحقني بالصالحين وإجعل لي لسان صدق في الآخرين وإجعلني من ورثة جنة النعيم".
ويقول الإمام الصادق (ع): عليكم بالدعاء فإنكم لا تقربون بمثله.
ويقول: الدعاء مخ العبادة. لأنّه يقرب من المدعو ويحكم الصلة به والعلقة ليتكامل ويتسامى نحو القمة السامقة نحو المطلق المتصف بصفات الكمال والجمال.
إنّ الإلحاح في الدعاء في الليل والنهار في العسر واليسر في الصغائر من الأمور والكبائر يقوي الارتباط بين المخلوق الفاني والخالق الباقي.
يقول الحديث الشريف: "لا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعو بها. انّ صاحب الصغار هو صاحب الكبار".
ويقول حديث آخر: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض".
إنّ النتيجة الحتمية والثمرة الطبيعية من الدعاء الصادق المخل بشرطه وشروطه هي الإجابة، يقول القرآن العظيم: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60)، ويقول الحديث الشريف: "ادع ولا تقل انّ الأمر قد فرغ منه، انّ عند الله منزلة، لا تنال إلّا بمسألته ولو انّ عبداً سد فاه ولم يسأل لم يعط شيئاً فاسأل تعط، انّه ليس باب يقرع إلا يوشك أن يفتح لصاحبه".
وإذا كانت الإجابة هي الثمرة الطبيعية للدعاء المخلص في سائر الأيّام فإنّ هذه الإجابة تكون يقينية مؤكدة في شهر رمضان بشكل أكثر.
يقول الصادق الأمين في خطبته التاريخية التي استقبل بها الشهر الفضيل المبارك: "ودعاؤكم فيه مستجاب"، ويقول أيضاً: ".. ارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلاتكم فإنّها أفضل الساعات ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده يجيبهم إذا ناجوه ويلبيهم إذا نادوه ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه..).
إنّ أبواب الجنان في هذ الشهر مفتحة.. وأبواب النيران مغلقة والشياطين مغلولة وكلّ الظروف والأجواء مهيئة لاستقبال دعوات الداعين ومناجات القاصدين، فأي عذر لدينا في عدم التوجه إلى ربّ العالمين ونحن في ضيافته وهو أكرم الأكرمين، وغافر ذنوب المذنبين ومعين الضعفاء والمساكين، وناصر المظلومين.
انّ الإنسان الصائم يخرج من الدورة التربوية في الشهر العظيم وجوداً ربانياً جديداً قد انسلخ من ماضيه ببركة هذا الشهر. يقول سيد الساجدين الإمام زين العابدين (ع): "اللّهمّ اسلخنا بانسلاخ هذا الشهر من خطايانا وأخرجنا بخروجه من سيئاتنا"، وكيف يصبح الإنسان بعد انسلاخ وزوال الخطايا والسيئات.
إنّه يصبح كيوم ولدته أُمّه يقول الإمام علي الرضا (ع): "انّ شهركم هذا ليس كالشهور، انّه إذا أقبل إليكم أقبل بالبركة والرحمة وإذا أدبر عنكم أدبر بغفران الذنوب" "انّ شهر رمضان شهر عظيم يضاعف الله الحسنات ويمحو فيه السيئات ويرفع فيه الدرجات".
فما أعظم هذ الفرصة الإلهية التي أتيحت لنا بدون استثناء لصناعة أنفسنا وتغييرها على عين الله وفي ظلال نهجه الكريم مستثمرين ضيافته لنا في سيد الشهور.
إنّ استثمار هذه الفرصة الثمينة يكون بتوفير الشروط الضرورية لاستجابة الدعاء، فالسميع العليم يقول لنبيه الكريم: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186).
فأوّل هذه الشروط اللازمة لإجابة الدعاء هو الإيمان بالله والاستجابة له آمراً وناهياً. ومن الشروط أن تتملك الإنسان الرغبة والطلب الجدي حيث تصبح كلّ شرائح وجوده وخلاياه معبرة عن طلبه. ومن الشروط اللازمة هي الثقة بالاستجابة، وفي الحديث: "إذا دعوت فظن حاجتك بالباب" ومن شروط الاستجابة للدعاء: أن تكون شؤون الداعي كلّها متناغمة مع الدعاء. فالقلب لابدّ أن يكون نظيفاً وطاهراً ولم يسلك لعيشه طرق الحرام ولا يحمل على عاتقه وزراً ومظلمة لأحد.
وفي الحديث انّ رجلاً قال لرسول الله (ص): أحب أن يستجاب دعائي.
فقال (ص): "طهِّر قلبك ولا تدخل بطنك الحرام".
وعن الإمام السجاد (ع): "انّ الذنوب التي ترد الدعاء سوء النية وخبث السريرة والنفاق مع الإخوان وترك التصديق للإجابة وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها وترك التقرب إلى الله عزّ وجلّ بالبر والصدقة واستعمال البذاء والفحش في القول"، ومن شروط الاستجابة للدعاء أن لا يكتفي بالدعاء وحده لتحقيق المطالب، بل لابدّ أن يقرن بالعمل والسعي والجد.
يقول أمير المؤمنين (ع): "الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر" وروي جعفر بن إبراهيم عن أبي عبد الله الصادق (ع):
قال: أربعة لا تستجاب لهم دعوة منهم: رجل جالس في بيته يقول: اللّهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك في الطلب.
إنّ هذه الشروط عندما ما تكتمل فإنّ الإجابة ستكون لا محالة، وليس معنى الإجابة كما قد يظن هي تحقيق المطلوب في هذه الحياة ذلك انّ البعض من الناس يعرف من حتمية الإجابة هذا المعنى وهذا غير سليم فإنّ واحدة من صور الإجابة هي تحقيق المطلوب في هذه الحياة وهناك صورتان تضمان إلى هذه الصورة، الأولى تأخير المطلوب إلى الآخرة والثانية هي أن يدفع من السوء مثلها، يقول الحديث الشريف: "ما من مسلم دعا الله تعالى بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا استجلاب إثم إلّا أعطاه الله تعالى بها إحدى خصال ثلاث:
1- إما أن يعجل له دعوته.
2- وإما أن يؤخرها له في الآخرة.
3- وإما أن يصرف عنه السوء مثلها.
وحسبنا من الدعاء انّه يشدنا ويربطنا بربنا ويقربنا إليه وحسبنا منه انّه يربينا على المثل والقيم الإلهية أفراداً وجماعات وحسبنا انّه السلاح الذي يفتقده أعداؤنا حيث يدخلون معنا في معاركهم بغير سند حقيقي يدعمهم.. واستماع إلى هذا العاشق الإلهي العظيم، إلى سيد الساجدين وزين العابدين حيث يقول في واحدة من أدعيته الرائعة:
وسيرنا في أقرب الطرق للوفود عليك
فقد انقطعت إليك همتي
وانصرفت نحوك رغبتي،
فأنت لا غيرك مرادي
ولك لا سواك سهري وسهادي
ولقاؤك قرة عيني
ووصلك مني نفسي
وإليك شوقي... وفي محبتك ولهي.
والى هواك صبابتي...
ورضاك بغيتي....
ورؤيتك حاجتي...
وجوارك طلبي...
وقربك غاية سؤلي...
وفي مناجاتك روحي.. وراحتي...►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق