• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

لا وجود للكسالى

أني كوردييه

لا وجود للكسالى
                        الانطلاقة السيئة قد تجر نفسها مدى الحياة كم من أطفال يمرون من مدرّب إلى مدرّس إلى معالج ثمّ يخرجون من المدرسة وقد ألصقت بهم صفة الفاشل، حتى ولو بصورة ملطفة؟ عند إحصاء الأسباب الاجتماعية والثقافية والأسرية والتربوية التي تقف وراء هذه المشكلة، نلاحظ أنّه لا يمكن التعميم، وأنّ الاصغاء الحقيقي إلى الأطفال يثبت لنا أنّ الكسالى والفاشلين لا وجود لهم. لا يمكن أن يكون للفشل الدراسي سبب واحد فقط، بل ثمة تضافر أسباب متعددة على الدوام تجتمع وتتداخل في ما بينها. وهذا التفاعل مع آثاره المرتدة يشبه نوعاً من حلقة مفرغة يصعب وربما يستحيل في وقت من الأوقات الخروج منها. فلنأخذ مثالاً: طفل من وسط ثقافي واجتماعي متدن. في هذا النوع من الأسر، لا يترك الصراع على البقاء في الحياة اليومية مجالاً كبيراً للتوظيفات الثقافية أكثر مما يؤمنه التلفزيون. كثيراً ما نلاحظ نوعاً من اللامبالاة بنشاطات الأطفال المدرسية بدافع من جهل أو تعب أكثر منه بدافع من عداء. ونادراً ما يشترك الأهل في الاجتماعات مع الأساتذة أو في اجتماعات الأهل في ما بينهم. ويلاحظ أنّ التعبير اللغوي في وسط من هذا النوع كثيراً ما يكون فقيراً بالمفردات والتراكيب ولا يمكن للأطفال سوى الاعتماد على المدرسة للتآلف مع لغة سليمة تكون مباشرة هي اللغة المكتوبة. وهذا في حد ذاته مشكلة، ففي هذا السياق، يكون الطفل الذي يدخل المرحلة الابتدائية من دون أن يمر بمرحلة الروضة أو أنّه قد مرّ فيها مرور الكرام، في وضعية أدنى من رفاقه. فالتأخر الذي يعاني منه في اختزان مجموعة المعلومات التي يختزنها طفل خلال تبادلاته مع وسط محفز، وقلة التدريب على عمليات التجريد والتفكير ستؤدي مباشرة إلى صعوبات في تعلم القراءة والكتابة. قد يقتصر الأمر على مجرد تأخر بسيط وفارق بينه وبين الأطفال الآخرين الأوفر حظاً منه في انطلاقاتهم. وقد يكون الأمر أكثر خطورة إذا كانت المتطلبات الدراسية تتخطى إلى حد بعيد قدرات التعلم الفورية لدى الطفل، فينشأ عند ذاك شعور بالفشل. نحن نعلم أن ثمة ضغطاً يمارس منذ السنة الأولى في المرحلة الابتدائية من أجل اكتساب المعارف بين الأطفال. وإذا ما استمر موقع الفشل الذي يشعر به الطفل فإنّه سيؤدي به إلى موقع اقصاء ورفض. إن من "لا يلحق بالركب" كثيراً ما يترك لمصيره، وفي السابق كان يحشر في آخر الفصل هذا لأنّ الفصل يجب أن "يتقدم" والبرنامج يجب أن يحترم وأن يتقن جميع الأطفال القراءة والكتابة قبل نهاية السنة الأولى من المرحلة الابتدائية. وإذا كانت المدرّسة لم تعد تستعمل الكلمات المهينة لوصف من يفشل في هذا المجال، إلا أن قسوة الأطفال مع بعضهم بعضاً لا تزال كما في السابق، وسيسمع الطفل المتأخر دراسياً عبارات جارحة من رفاقه. وإذا ما أضيف إلى هذا انتقادات المعلم الذي يشعر بأنّه عاجز أمام طفل يفشل في التعلم، فإنّ الإحساس بالعار سيكون من نصيب هذا الطفل. ولا شيء أسوأ من هذا الإحساس لمن لا يملك بعد وسائل الدفاع عن نفسه. وما من شيء أسوأ من الإحساس بالاحتقار والذل والعار لدى الطفل، حين يشعر بأنّه مختلف عن الآخرين أو فقير أو بشع أو غبي، فمن الأفضل في هذه الحالة أن يكون شريراً وأن يثور على وضعه. لقد تخيلنا سياقاً اجتماعياً وثقافياً لانطلاقة سيئة في الحياة، وكان باستطاعتنا أن نتخيّل أسباباً أخرى حديثة. فبعض الأطفال يجدون أنفسهم في الوضعية ذاتها بسبب خوف من المعلّمة، فقد قال لي أحدهم يوماً: "شعر المعلمة أحمر كشعر الأسد". وبعضهم الآخر قد يمرون بحالة نكوصية فور وقوع حادثة صادمة في حياتهم كولادة أخ صغير أو دخول المستشفى أو طلاق الأهل أو مرض الأُم أو وفاة قريب، وقد يكون السبب أيضاً إعاقة حسية غير مكتشفةن كقصر النظر أو ضعف السمع. ماذا سيجري بعد هذه الصعوبة الأولى؟ الفرضية الأولى: لن يبقى الطفل سلبياً. أمام هذا الوضع المتسم بالفشل والاقصاء، يرد الطفل باضطرابات سلوكية. فتعويض فشله، يسعى إلى أن يلاحظه الآخرون عبر إنجازات غير مدرسية، فهو قد يضحك الآخرين في الفصل مثلاً، أو يراكم "الانحرافات السلوكية" ليحوز إعجاب رفاقه ويستعيد بعض الهيبة. أما الادانة التي ستطاله فهي ستزيد لديه الإحساس بالظلم، كما يسميه، ويزيد من خطورة أفعاله الانحرافية إلى هذا الحد أو ذاك. وفي حال استمر هذا السلوك فهو سيزيد حالة الرفض، لننتقل من الرفض المدرسي مع الثورة التي تليه إلى الرفض الاجتماعي ومواقف التهميش والانحراف الحقيقي ليصير الشاب صاحب "سمعة" قد علقت به ويصعب عليه الخروج منها. الفرصية الثالثة: كل شيء يترتب لنكون متفائلين حقاً يتسم النظام المدرسي بليونة أكبر حيث أن أحكام القيمة تصبح نسبية. لم يعد مفهوم الفشل مرتبطاً بالزمن، لأنّ الزمن لم يعد مطبوعاً بتلك الحواجز التي يجب عبورها، من قراءة وكتابة وغيرها، لم تعد البرامج تدار بطريقة هوسية، وبدل عبارة "يمكنه أن يقدم أداء أفضل" التي تكتب باستمرار على بطاقة الدرجات، يتم التشديد على إنجازات الفرد. لقد جرى استبدال الخشية من الفشل بالتشجيع على الجهود المبذولة والتقدم المحرز. لا يزال في هذه الفصول بعض امن ذاك المرح المتصل بالتعلم عبر اللعب الذي عاشه الطفل في مرحلة الحضانة. وإذا كان الأهل والمدرسون أقل قلقاً، سيكون الطفل أكثر استعداداً في دوره الجديد كتلميذ. بعض المدارس في الأرياف والتي لا تحوي سوى فصل واحد لا تعرف معنى الفشل المدرسي. وبما أنّه لا يوجد فصل واضح بين قسم وآخر، يمكن لكل تلميذ أن يسير بحسب إيقاعه الخاص، مع الزمن الذي يلائمه، فيتمتع بحرية أكبر خلال التعلم وبضغوط أقل ما يسهم في اندماج الطفل في سياق النظام.   - رد فعل الأهل: الخيبة والغضب: حين يظهر الأهل خيبتهم وحتى غضبهم عند رؤية النتائج المدرسية السيئة، قد يرى الطفل في هذه الإدانة نوعاً من حرمان من الحب. وهكذا يدخل في حلقة جهنمية غير تلك التي جئنا على وصفها، إذ يعاني من حالة اكتئابية كثيراً ما تكون أعراضها بدنية. يمرض بأمراض حقيقية، وليس مجرد وجع بطن، كالتهابات أذن ولوزتين واضطرابات معوية، فحين يقلق الطفل أهله بهذه الطريقة، يتأكد من أنهم يحبونه. أما الحالة النكوصية الناجمة عن المرض والغياب عن المدرسة سيفاقمان التأخر الدراسي. وحين يعود الطفل إلى الفصل تتضاعف المشكلات ويشعر كما لو أنه غريب بين رفاقه لأنّه يجهل ماذا حصل خلال غيابه وهذا ما يفاقم احساسه بالاقصاء. اللامبالاة: في المقابل، حين لا يهتم الأهل البتة بنتائج طفلهم الدراسية، قد يشعر هذا الأخير بأن موقفهم هو عبارة عن قلة حب واهتمام. وقد يتعلق الأمر أحياناً بأهل منفصلين يفضلون تجاهل ما يجري في الفصل. ويرمي كل منهما على الآخر مسؤولية مراقبة الفروض والدروس وتوقيع بطاقة الدرجات، هذا لأن كل واحد منهما يود أن يبقى الطرف اللطيف الذي لا يغضب أبداً منا لطفل. فهما يخشيان من فقدان حب ولدهما لو أنهما عاملاه بصرامة وطلبا منه العمل بجدية. قد يدفع هذا التساهل الشديد الطفل نحو مضاعفة وضعيات الفشل لحمل أهله على الرد. وفي كثير من الأحيان، قد تنتهي المشكلة بتوضيح يقوم به الأهل بينهم وبين طفلهم.

ارسال التعليق

Top