• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الفكاهة أفضل أنواع الدفاعات النفسية

الفكاهة أفضل أنواع الدفاعات النفسية
ظهرت عبارة "آليات دفاعية" للمرّة الأولى في عام 1894 في مقالة لسيجموند فرويد بعنوان "العصاب النفسي الدفاعي". في تلك الحقبة، لم يأتِ أبوالتحليل النفسي على ذكر سوى تسع آليات هي: النكوص، التسامي، التكوين العكسي، الإسقاط، الإنقلاب ضدّ الذات، التحويل إلى الضد، التماثل، الإلغاء الرجعي، الإنعزال. استمرت إبنة فرويد، آنا، في الإتجاه ذاته وأغنت أعمال والدها حينما نشرت الكتاب الأوّل المكرس حصراً لهذا الموضوع. ومنذ ذلك الحين ازداد الإهتمام بالإجراءات الدفاعية النفسية التي يمتلكها البشر ازدياداً مطرداً. وأكّد عالم النفس الأمريكي جورج فايان، وهو الرائد في الدراسات المعاصرة التي تحدّثت حول هذا الموضوع، قائلاًً في عام 1993: "لقد آن الأوان أن يُنظر إلى الأنا ودفاعاتها كوجوه من الواقع النفسي والبيولوجي والإجتماعي وليس كمواضيع خاصة بالتحليل النفسي". إنّ دراسة الأعمال التي أجريت حول هذا الموضوع تدل على أنّ الأبحاث الأكثر حداثة تتصل اليوم بمواضيع مختلفة، ومنها: أصل وظهور هذه الآليات منذ سنوات الطفولة الأولى، تطورها في خلال حلفاء الحياة، طرائق استخدامها المختلفة لدى الرجال والنساء، إلخ. وقد طال البحث كذلك استقرارها أو تبدلها خلال الحياة، كما كان ثمة اهتمام بطريقة العمل الدفاعية خلال الأمراض البدنية وفي حالات الإضطرابات النفسية وأيضاً طيلة فترات المعالجة. كما أثارت معرفة ركائزنا الدفاعية اهتماماً متزايداً في الكثير من المجالات: العلاقات الإنسانية، سواء في الحياة الإجتماعية أو المهنية أو الأسرية، الوقاية والتربية الصحية، الطب والإضطرابات البدينة والنفسية. وفي مجال الحياة الخاصة، سمح التعرُّف على "مواردنا الدفاعية" بتقديم اقتراحات في طريقة إدارة الأزمات الشخصية المتصلة بالنزاعات البشرية والإنفصالات والحداد، كما أنّ الدراسات حول تنظيم العمل وإدارة أو اتخاذ القرارات وتقنيات إدارة الضغوط لم تعد قادرة على الإستغناء عن معرفة الإستراتيجيات الدفاعية التي تتم دراستها في الحياة المعنية. للأسف، مازال الكثيرون منّا يجهلون أي وسائل دفاعية نقوم بتجنيدها في الحياة الخاصة، وما إذا كانت الأفضل والأكثر ملاءمة للأوضاع، أو كيفية تغييرها. وإذا كنّا نعلم أنّ الهرج والمرج هما وسيلة لإخفاء الحزن وأنّ المزاج يمكننا من التعاطي مع الآخر في حالة خلاف معه، وأن واحدة من وسائل الحكم هي التفريق بين الناس وأفضل طريقة للدفاع هي الهجوم. فمن يعلم، في المقابل، أنّ هذه الوسائل الدفاعية تستند إلى 27 ركيزة نفسيّة بإمكاننا أن نستعين بها في حياتنا اليومية؟ يقوم هذا الكتاب بوصف الركائز السبع والعشرين التي إذا ما استخدمت في موقعها وبشكل معقلن وملائم يمكنها أن تكون مفيدة جميعها لحل المشكلات وتخفيف المصاعب والإستدارة على العقبات. إنّ بعض الوضعيات التي نعيشها اليوم تستلزم الإستفادة من المروحة الواسعة الموضوعة في تصرفنا. وإذا ما واجهنا مشكلة لا نعرف كيف نحلها، يجب أن نعرف كيف نضعها جانباً لفترة ما أو حتى كيف نعالجها بفكاهة، بدل أن نسترسل في نزعتنا الطبيعية التي تقودنا إلى الهرب منها، كما أننا نميل إلى استخدام عدد محصور فقط من وسائل الحماية مهما كان السياق الذي نعيش فيه. بيد أن هذه الطريقة المحدودة في الرد تدل على أسلوب متصل في أغلب الأحيان بعادات مكتسبة لا تنفعنا في كل الوضعيات. فنحن بإستطاعتنا على الدوام أن نصور وسائل دفاعنا أو نختبر بعضاً من تلك التي نجهلها. هذا ما يقودنا إلى تجميع هذه الموارد السبع والعشرين الدفاعية في مستويات مختلفة تبدأ من الأكثر متعة وفائدة بينها والتي يمكن استخدامها في غالبية الحالات وصولاً إلى تلك التي لا تستخدم إلا في حالات الدفاع ضدّ الإنهيار. ثمة بالتالي تدرُّج في أهمية وفائدة هذه الإمكانيات. وفي ما عدا الوضعيات الخاصة التي تستلزم وسائل خاصة، يمكن أن نؤكد، بشكل عام، أنّه حتى نحسن العيش مع الذات ومع الآخرين، ثمة بعض استراتيجيات أفضل من سواها على المدى الطويل. ويمكن أن نتعرّف على تلك التي علمتنا الخبرة فعاليتها وتلك التي نستخدمها بشكل غير مناسب. إنّ الأعمال الكثيرة التي كرست لدراسة هذه الوسائل الإنسانية لحماية الذات أمام مصاعب الحياة تسمح بتمييز ثلاث مجموعات منها: تضم المجموعة الأولى أفضل سبع وسائل للدفاع حينما نشعر في حياتنا اليومية، بأنّنا محرجون أو ضائعون أو عاجزون. ومما لا جدال فيه أن هذه الوسائل الأنجع والأكثر فعالية تقدم إحساساً بالرضا أكثر منه بالضيق، وهي: الفكاهة، التوقع، القدرة على الإستعانة بالأخرين، هي وسائل سهلة الإستعمال ويمكن القول إنّها تساعدنا على الخروج من مأزق مع المحافظة على ماء الوجه، هي تحمينا كما تشكل بالنسبة إلينا مصدر متعة أو نجاح. أذكر بداياتي كمحاضر، وبالأخص خلال اجتماع كنت أتحدّث فيه عن الأبحاث الجديدة حول النوم. من المؤكد أنني كنت شديد التوتر فاتبعت طريقة في الكلام تميل إلى الزيادة في "الدكترة". فبدأ الحضور يشعر بالنعاس شيئاً فشيئاً. وعند الإستراحة، اقترب منِّي الأستاذ الذي كان قد دعاني، وقال لي بإبتسامة فيها الكثير من المودة: "هل تعرف جملة بيار داك الشهيرة؟"، وإذ نظرت إليه بإستفهام ومفاجأة، أردف قائلاً: "كل الناس يتكلمون خلال نومهم، ما عدا المحاضر، فهو يتلكم خلال نوم الآخرين"، وفهمت فوراً الرسالة وطفقت أضحك من نفسي، ما جعلني أسترخي ليجري الجزء الثاني من المحاضرة بشكل أكثر تشويقاً. تضم المجموعة الثانية آليات دفاع تجبرنا على أن نتحمّل وزر ما يجري من دون أن ندرك هذا الأمر. وحتى نخرج ما يطرح مشكلة حقيقية، تحمل هذه الدفاعات فائدة لا جدال فيها ولكنها تحمل معها كلفة أكيدة. فبعضها يجبرنا على أن "نلف وندور" لنتمكّن من الخروج من مشاعر مزعجة. وفي هذا السياق، يُشكِّل الكبت آلية الدفاع الأكثر شهرة: نحن ننسى ما سبب لنا صدمة أو أزعجنا بشدة، ما يسمح لنا ألا نظل متوقفين عندما حصل. المشكلة هي أننا نحتفظ بالذكرى في مكان ما من نفوسنا وهذه الذكرى قد تظهر مجدداً عند وقوع أي حادث يشبهها بعض الشيء. أمّا المجموعة الثالثة، فتتألف من إستراتيجيات "الملاذ الأخير" ضدّ الإنفجار أو الإنهيار. هي مفيدة كسياح نهائي ضدّ التسلط الخارجي أو الداخلي الذي يتهددنا. ونحن نجدها حينما نكون أمام وضع لا يطاق. وتقودنا هذه الإستراتيجيات الدفاعية إلى الرغبة اللاواعية في فقدان أي اتصال مع الواقع وإلى إنكاره في مجمله. نحن نجدها في الوضعيات الإستثنائية كالحداد على شخص عزيز جداً، حيث لا نجد أمامنا سوى إنكار موت مَن نحب. وتعتبر استراتيجيات المجموعة الأولى أفضل أساليب الدفاع عن النفس. فمعايير النجاح في الحياة ترتكز عامة على القدرة على مواجهة الهموم مع الإبتعاد عن الطريق الذي يمكن أن يقود نحو الضغط المفرط الذي يمارس على النفس فيؤدي إلى فقدان متعة العيش مع الآخرين. هذه الدفاعات "الناجحة" لن تجعل كل شيء يختفي، كما العصا السحرية، ولا تخدّر ما يؤلم ولكنها تسمح بتهدئة التوتر وبتحجيمه بشكل فيه أكبر قدر من المتعة. وتحمي الدفاعات الموجودة في المجموعة الأولى (رفاه الفرد) حتى لو أنّها ليست بالضرورة عفوية وهي تجعل استخدامها لطيفاً وممتعاً وحتى جذاباً بالنسبة إلى الآخرين. فهذه الموارد تحمل معها القدرة على التأقلم بقدر الإمكان مع الوضعيات التي نواجهها. فمن الأفضل أن نتعامل بنوع من الفكاهة مع شخص يفهمها وألا نستعملها مع مَن لا يطيقها ويعتبرها اعتداء عليه. من الأفضل أن نفكر أو نضع جانباً مصاعبنا حينما نملك بعض الوقت أمامنا ولا نكون مجبرين على حل مشكلة بشكل طارئ. ومن الأفضل أن نعرف كيف نؤكد ذاتنا، بما فيه رفض ما هو مقدم لنا إذا كان هذا الرفض لا يضعنا في وضعية صعبة مع الشخص الذي طلب منّا أمراً ما وكان قادراً على أن يمارس سلطة علينا. الجدير بالذكر أن هذه الدفاعات تكون فعالة مع الوقت، حينما نتمرّس في تطبيقها فتقدم الإحساس بالسلام الداخلي المطلوب ما يجعلنا نستعملها مجدداً ونوطدها ونحسن التعاطي بها على المدى الطويل أكثر فأكثر، وبالأخص في الوضعيات التي نرى فيها فائدة منها. وهكذا نتعلم كيف نتبع استراتيجية واضحة لا لبس فيها ونشعر بأننا واثقون من أنفسنا.

ارسال التعليق

Top