ينتقل الإمام زين العابدين (ع) في هذا المقطع من دعائه في مستحبات هذا الشهر حيث يوجّه المؤمنين إلى أهمية الأرحام ويحثّهم على صلة أرحامهم القريبة والبعيدة.
فهذا الشهر المبارك فرصة لصلة الأقارب وتقوية أواصر المحبّة والمودّة بين الأفراد، فهو فرصة لبرّ الوالدين، والأخوة والأخوات، والأعمام والأخوال، والعمّات والخالات، وأولادهم ومتعلقيهم، حيث ينبغي أن يكون لدعوات الإفطار وللزيارات بعد الإفطار دورٌ كبيرٌ في تجديد صلة المودّة والمحبّة ووصلها من جديد سيّما إن كانت قد تعرضت للتصدّع والانقطاع بفعل الشيطان وكيده، فهذا الشهر هو شهر طاعة الرحمن ومخالفة الشيطان والقضاء على حيله ومكائده والتصدّي لهوى النفس وما يزيّنه الشيطان لها من دواعٍ وأسباب لقطع العلاقة أو برودتها.
قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) (الرّعد/ 21).
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1).
حيث إنّ الله جعل صلة الرحم من الواجبات الإسلامية التي يجب رعايتها بل ومن الأشياء التي يسأل عنها العبد يوم القيامة.
كما بيّنت الروايات الشريفة عن النبيّ (ص) وأهل بيته أهمية هذا الأمر وكونه من الواجبات والأمور الإسلامية المهمّة التي يجب رعايتها وصونها.
عن الإمام الصادق (ع) في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ) (النساء/ 1)، قال:
"هي أرحامُ الناس، إنّ الله عزّ وجلّ أمر بصلَتِها وعظَّمَها، ألا ترى أنّه جعلها مِنهُ؟".
وعن أمير المؤمنين (ع) قال: "وأكرِمْ عشيرَتَكَ، فإنّهم جناحُكَ الذي به تَطيرُ، وأصلُكَ الذي إليه تصيرُ، ويَدُكَ التي بها تصولُ".
أي إنّ الأهل والأقارب لا يمكن الاستغناء عنهم أبدا حتى وإن بدى للإنسان إنّه ليس بحاجة لهم فالحاجات المعنوية أهمّ من الحاجات المادية ومهما كان الإنسان مستغنياً فإنّ المواقف الاجتماعية كالأعراص والأحزان والمناسبات الاجتماعية التي تستلزم وجود الأقارب تجعل الإنسان لا يستطيع أن يتخلّى عن أهله وأقاربه.
ثمّ أوضحت هذه الروايات ما يترتب من آثار إيجابية عند صلة الرحم على الفرد خاصة والمجتمع عامة كما يلي:
1- تعجيل الخير والثواب:
فكلّ عمل له جزاء دنيوي وأخروي ولكنّ بعض الأعمال لها عقوبات دنيوية معجّلة (كالظلم) وبعضها الآخر له خيرات وبركات معجّلة كصلة الرحم وهو ما بيّنه النبيّ (ص) في حديثه حيث قال:
"إنّ أعجَلَ الخير ثواباً صلةُ الرَّحِمِ".
2- زيادة العمر:
وهي الثمرة الثانية لصلة الرحم فكلّ من وصل رحمه كانت له هذه الصلة زيادة له في عمره لطفاً من الله ورحمة جزاء له على هذا العمل الصالح.
وعن رسول الله (ص) قال: "إنّ المرء ليصلُ رَحِمَهُ وما بقي من عُمُرِهِ إلّا ثلاثةُ أيّامٍ، فيُنسِئُهُ اللهُ (أي يمدّ الله في عمره) ثلاثين سنةً، وإنّ الرجل ليقطَعُ الرَّحِمَ وقد بَقيَ من عمرِهِ ثلاثون سنةً فيُنصَيِّرُهُ اللهُ إلى ثلاثة أيّام".
وعنه (ص) في حديث آخر قال: "صِلَةُ الرَّحِمِ تَزيدُ في العُمُرِ، وتَنفِي الفَقرَ".
3- سعة الرزق:
وهي البركة الأخرى المترتبة على صلة الرحم بسعة الأرزاق والبركات فإنّ من شأن الخُلق الحسن والعلاقات الطيبة مع الناس سيّما الأرحام والمؤمنين أن تؤدي إلى فتح أبواب الرزق والخير سواء من خلالهم أو عبر طريقهم أو هبة وعطاء من الله لعبده على هذا العمل الصالح.
عن رسول الله (ص): "مَن سرَّهُ أن يُبسَطَ في رزقِهِ، ويُنسَأ في أجلِهِ، فليَصِلْ رَحِمَهُ".
وعن رسول الله (ص) في حديث آخر قال: "إنّ القوم ليكونون فجرةً، ولا يكونون بَرَرَةً فيَصِلون أرحامهم فتنمي أموالهم، وتطول أعمارهم، فكيف إذا كانوا أبراراً برَرَةً".
ولهذا نجد أنّ بعض العشائر في الريف أو في المناطق الجبلية يتّسمون بطول العمر ودوام الرزق الإلهي رغم ظروفهم المادية الصعبة وذلك لكونهم يصلون أرحامهم ويهتمّون بروابطهم الاجتماعية والإنسانية.
4- دفع البلاء وميتة السوء:
وهي من الألطاف الإلهية المشمولة بصلة الرحم كجزاء على فعل الخير، حيث يدفع الله البلاء عمّن يصل رحمه ومنها ميتة السوء أو الميتة في المواقف والأماكن المشينة لصاحبها كما في الروايات التالية:
عن رسول الله (ص) قال: "صلةُ الرحم تُهوِّنُ الحساب وتَقي ميتَةَ السَّوءِ".
عن الإمام الباقر (ع) قال: "صِلةُ الأرحام تُزكِّي الأعمال، وتُنمي الأموال، وتدفَعُ البَلوى، وتُيَسِّرُ الحساب، وتُنسِئُ في الأجَلِ".
5- عمارة الديار أو العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الطيبة:
من شأن صلة الأرحام أنّها تكسب صاحبها العلاقات الأخوية والمحبّة في القلوب مع الأرحام عند تفقّدهم وقضاء حوائجهم والوقوف معهم في الشدائد والأفراح ممّا يجعل العلاقات بين أفراد الأسرة والعشيرة تزدهر بالمحبّة والودّ والوقوف جنباً إلى جنب في كلّ المجالات والأحوال.
عن رسول الله (ص) قال: "صِلَةُ الرَّحِمِ تَعمُرُ الدِّيار، وتزيدُ في الأعمار، وإن كان أهلُها غيرَ أخيارٍ".
وعن الإمام الباقر (ع) قال: "صلةُ الأرحام تُحسِّنُ الخُلُقَ، وتُسَمِّحُ الكَفَّ (أي تبسط الكفّ بالعطاء)، وتُطيِّبُ النفسَ، وتزيدُ في الرّزقِ، وتُنسِئُ في الأجل".
6- الحساب الهيّن والعصمة من الذنوب:
إذ إنّ صلة الرحم والعلاقات الجيِّدة تؤدي إلى تجنُّب الوقوع في الغيبة والنميمة والأذى والحسد والبغض للآخرين وبالتالي تجنّب الإنسان الذنوب وتبعاتها لأنّ القلوب متحابّة متسامحة بخلاف القلوب المتباغضة المتشاحنة التي تجرّ الإنسان إلى الوقوع في المعاصي والآثام.
عن الإمام الصادق (ع) قال: "إنّ صلة الرحم والبرَّ، ليُهَوِّنانِ الحساب، ويعصمان من الذنوب، فصلوا أرحامكم، وبرُّوا بإخوانكم، ولو بحُسنِ السَّلام وَرَدَّ الجوابِ".
وبالمقابل فقد حذّرت الروايات الشريفة عن قطع صلة الرحم وما يترتّب على ذلك من تبعات وهي:
1- تعجيل الفناء:
إنّ قطع الرحم بذاته سيئة من السيئات يحاسب عليها الله فكيف إذا اجتمع معها الدخول في الحرام والإثم من هتك الحرمات والإفتراء والكذب لأجل تبرير قطع العلاقة والقاء الذنب على عاتق الطرف الآخر ولذا حذّرت الروايات من قطع الرحم على كلّ حال ولأي سببٍ.
عن الإمام الصادق (ع) قال: "الذنوب التي تُعجِّلُ الفناء قطيعَةُ الرَّحِمِ".
وفي حديث آخر قال (ع): "اتَّقوا الحالقة، فإنّها تُميتُ الرِّجال، قيل: وما الحالقةُ؟ قال (ع): قَطيعَةُ الرَّحم".
2- سلب الأموال والنعم:
هي من العقوبات التي تترتب على قطع الرحم حيث تسلب البركة من الأرزاق والعافية من البدن وأمثالها من النعم والألطاف الإلهية بسبب العصيان والإثم سيّما على الطرف الظالم للآخر.
عن الإمام الباقر (ع) قال: "وجدنا في كتاب رسول الله (ص)، إذا قَطَعوا الأرحامَ جُعِلَتِ الأموال في أيدي الأشرار".
3- نزول النقم:
فإنّ الشرارة الصغيرة قد تحدث ناراً كبيرة يصعب إطفاؤها وقد يكون أوّلها قطع العلائق الرحمية بين طرفين ثمّ يعقبها الوقوع في المشاكل والنكبات الفردية أو الجماعية من خلال ما يترتّب على هذه العلاقات المقطوعة من المشاحنات والسلبيّات التي تتوسّع عن دائرتها الصغيرة وتعمّ في نتائجها الكبيرة وتنتهي بانتقام الله وغضبه وخصوصاً على الطرف المعتدي.
عن أمير المؤمنين (ع) قال: "حُلول النِّقَمِ في قطيعَةِ الرَّحِمِ".
4- التعرض للعنة الله وغضبه:
حيث تشمل القاطعين للرحم والمانعين عن وصله فمن استطاع أن يصل رحمه وأن يقضي حوائجهم ولم يفعل ذلك فإنّه يتعرض إلى حلول لعنة الله وغضبه ويجد نتائج الظلم وتبعاته في الدنيا قبل الآخرة.
قال تعالى محاسباً على قطع الرحم عن المقدرة: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (محمّد/ 22).
من أجل ذلك كانت الروايات صريحة بعدم الابتداء بقطع العلاقة مع الطرف الآخر من الأرحام حتى لو شملتها العناوين الدينية أو التأديبية فإنّ ذلك ممّا يؤدي إلى غضب الله وسخطه بل وتؤكّد على صلة القاطع رغم قطيعته.
عن رسول الله (ص) قال: "لا تقطع رحمك وإن قَطَعَتكَ".
عن أمير المؤمنين (ع) قال:
· "صِلُوا أرحامكم وإن قَطَعُوكُم".
· "وعن أبي ذرٍّ أوصاني رسول الله (ص) أن أصل رحمي وإن أدبَرَتْ".
وعن الإمام الصادق (ع) في بيان العلاقة السليمة والمواصلة عليها رغم جحود الطرف الآخر من الأرحام قال (ع): "إنّ رجلاً أتى النبيّ (ص) فقال: يا رسول الله، إنّ لي أهلاً قد كُنتُ أصِلُهُم وَهُم يُؤذُونِّي، وقد أرَدتُ رفضَهُم.
فقال له رسول الله (ص): إذَن يرفِضَكُمُ الله جميعاً.
قال: وكيف أصنَعُ؟
قال (ص): تُعطي من حَرَمَكَ، وتَصِلُ مَن قَطَعَكَ، وتَعفو عمَّن ظَلَمَكَ، فإذا فعلت ذلك كان الله عزّ وجلّ لك عليهم ظهيرا".
بل حتى الاختلاف في الرؤى والأفكار والمذاهب والعقائد والاتجاهات لا تشكل أرضية أو سبباً وجيهاً لقطع الروابط الرحمية في المنظور الإسلامي.
عن أبي بصير قال سألتُ أبا عبدالله الصادق (ع) عن الرجُلِ ليَصرِمُ ذوي قرابَتِهِ ممّن لا يعرِفُ (أي على غير المذهب الذي هو عليه)، فقال له (ع): "لا ينبغي له أن يصرِمَهُ".
وعن الإمام الصادق (ع) – لمّا سألَهُ الجهمُ بنُ حميدٍ: تكونُ لي القرابَةُ على غير أمري (أي على غير مذهبي)، ألَهُم عليَّ حَقٌّ؟
فقال (ع): "نَعَم، حَقُّ الرَّحِمِ لا يَقطَعُهُ شيءٌ، وإذا كانوا على أمرِكَ كان لَهُم حَقّانِ: حَقُّ الرَّحِمِ، وحَقُّ الإسلام".
فإذا كان الاختلاف في المذهب لا يُعدّ مبرّراً لقطع العلاقة مع الأرحام فكيف يكون الاختلاف في الرأي لقضية سياسية أو اجتماعية أو شخصية مبرّراً لذلك؟ بل كيف إذا كان الاختلاف هو بسبب المزاج أو الطبيعة الشخصية بين الأفراد؟
ولذا فإنّ أقلّ حقّ للأرحام هو صِلتهم بالسلام أو التفقد لأحوالهم من حين لآخر ولو عبر وسائل الاتصال المباشر لتجنب عقوبة الله ونقمته ولنيل رحمته ورضاه.
عن رسول الله (ص) قال: "صِلوا أرحامَكُم ولو بالسَّلام".
وعن الإمام الصادق (ع) قال: "صِلْ رَحِمَكَ ولو بشربَةٍ من ماءٍ، وأفضَلُ ما تُوصَلُ به الرَّحِمُ كَفُّ الأذى عنها".
وهل هناك فرصة أعظم من شهر البركة والرضوان؟ فالفائز مَن سبق إلى وصل رحمه وشدّ أواصر القرابة معهم ليفوز بعظم الثواب في هذا الشهر العظيم.
(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) (الرّعد/ 21). ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق