«عليك بالصوم فإنه جنّةٌ من النار»
حالة عبادية صامتة
أراد الله تعالى في الصوم أن يعيش الإنسان في داخل نفسه الرقابة على حركته بين يدي ربه بعيداً عن الناس، لأن الفرق بين الصوم وبين الصلاة والحج وغيرها من العبادات هو أن الصوم لا شكل له ولا مظهر في حركة الإنسان، بينما الصلاة شكلها في قيامها وركوعها وسجودها، بحيث أنك عندما تصلي فإنك تعطي في صورة الصلاة انطباعاً أمام الناس، وهكذا بالنسبة إلى الحج. ومن هنا، فإن مسألة الصلاة قد يدخل فيها الرياء والنفاق وكذلك الحج، أما الصوم لا يدخل فيه ذلك لأنه ليس له حالة يمكن للإنسان أن يستعرضها أمام الناس، إلا إذا قال «إني صائم».. ولذلك، ورد في الحديث القدسي: قال الله تبارك وتعالى: «كل عمل ابن آدم هو له غير الصيام هو لي وأنا أجزي به»، لأن الصيام يمثل هذه الحالة العبادية الصامتة بين الإنسان وبين ربه. وعلى ضوء هذا، عندما يعيش الإنسان هذه الحالة الروحية التي تدفعه إلى أن يكفّ عن طعامه وشرابه ولذاته، فإن معنى ذلك أنه يقوّي في داخل نفسه إرادته في أن يترك ما حرّم الله تعالى عليه، حتى لو لم يشعر به أحد. ثم أن التشريع استهدف بالصوم جانبين: الجانب الأول هو الجانب الروحي الذي يذكّر الإنسان بالآخرة، ونحن نعرف أن الإنسان كلما استغرق في ذكر الآخرة أكثر كلما انضبط في ما يقبل عليه من النتائج في أعماله بين يدي الله تعالى أكثر، لأن الغالب منا أننا نغفل عن ذكر الآخرة، ولذلك فإننا نستعجل أرباح الدنيا ونتفادى خسائرها ونعطيها كل اهتماماتنا العقلية والشعورية والعملية، أما مكاسب الآخرة وخسائرها فإننا نواجهها باللامبالاة. ولذلك، فإن الغالب منا أمام غفلاتنا هو أنه إذا دار الأمر بين أن يخسر أحدنا شيئاً في الآخرة أو يخسر شيئاً في الدنيا فإنه يغلّب خسارة الآخرة على خسارة الدنيا، أو إذا دار الأمر بين أن يربح شيئاً في الآخرة وشيئاً في الدنيا فإنه يقدّم ربح الدنيا على ربح الآخرة. ولذلك، نجد أن الله تعالى اهتم في القرآن الكريم بالحديث عن الآخرة وأهوالها وحساباتها حتى يظل الإنسان واعياً للآخرة، لأنه كلما ازداد وعي الآخرة في مشاعره أكثر كلما انضبط في الدنيا بما يريد الله تعالى له أن ينضبط أكثر. والجانب الآخر هو الجانب الاجتماعي الذي يتصل بعلاقة الإنسان بالفئات المحرومة. في الجانب الأول نقرأ في الخطبة المروية عن النبي (ص) في آخر جمعة من «شعبان»: «اذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه»، وكأنه ينبغي للإنسان أن لا يتملّى من الطعام والشراب كثيراً، بل أن يتناول في سحوره ما يتحسس به بعض الجوع والعطش، حتى إذا أحسّ بالجوع والعطش ذكر الموقف يوم القيامة، «يوم يقوم الناس لربّ العالمين»، «يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله»، وفي الآخرة لا يوجد مطاعم أو سبيل ماء، ليس هناك إلا رحمة الله عزّ وجلّ.. ويوم القيامة قد يطول الحساب فيه وقد يقصر، ولذلك فالذين عملوا السيئات ولم يتوبوا فإن حسابهم سوف يطول، وبذلك سوف يطول جوعهم وعطشهم، أما الذين تابوا إلى الله تعالى توبة نصوحا وعملوا الصالحات في موقع الإيمان، فإن موقفهم لن يكون طويلاً. إسكات الشهوات - وفي الحديث: «فإن قال: فلم أُمروا بالصوم؟ قيل: لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش، فيستدلوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً بما أصابه من الجوع والعطش، فيستوجب الثواب، مع ما فيه من الانكسار عن الشهوات لأن الإنسان قد يقبل على الشهوات أكثر وهو شبع، أما عندما يجوع فإنه يخف ضغط الشهوة عليه، من هنا يُطلب من الشباب الذين لا يجدون فرصة للزواج أن يصوموا، باعتبار أن الصوم يكسر حدّة الشهوة في الجسد وليكون ذلك واعظاً لهم في العاجل، ورائداً على أداء ما كلفهم، ودليلاً في الآجل، وليعرفوا شدّة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا لأن كثيراً من الناس لا يشعر بجوع الجائعين وعطش العطاشى لأنه يملك إمكانات مالية فيؤدوا إليهم ما افترض الله تعالى لهم في أموالهم».
الشعور بالمساواة - وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (ع): «أما العلة في الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأنه لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، لأن الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله عزّ وجلّ أن يسوّي بين خلقه وأن يذيق الغني مسّ الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع».. وورد في النتائج التي يحصل عليها الإنسان بالصيام، سواء كان واجباً أو مستحباً: «عليك بالصوم فإنه جُنّة من النار - والجُنّة هي الدرع الذي يقي الإنسان في ساحة الحرب وإن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع فافعل». وفي الحديث عن رسول الله (ص): «لكل شيء زكاة وزكاة الأبدان الصيام».
ألطاف الصيام وبركاته - أما ما يعطي الله تعالى الصائم من ألطاف وبركات وضيافات، فقد ورد في الحديث: «نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف، إن للصائم عند إفطاره دعوة لا تُرد»، فعلى الإنسان أن يبدأ فطوره بما أهمّه من أمر، فإن الله تعالى بكرمه ولطفه يستجيب دعاءه. وفي الحديث عن رسول الله (ص): «الصائم في عبادة الله وإن كان نائماً على فراشه ما لم يغتب مسلماً».. أما الصائم الذي يترك طعامه وشرابه ولكنه يقضي يومه في المعصية في كلامه ومعاملاته، فقد ورد في الحديث: «ربّ صائم حظه من صيامه إلا الجوع والعطش، وربّ قائم حظه من قيامه السهر»، لأن جوهر الصوم هو التقوى فمن لم يتقِ الله فكأنه لم يصم، وجوهر الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر فمن لم ينتهِ عن الفحشاء والمنكر فكأنه لم يصلِّ..
وإن للقلب صوماً كما للجسد صوماً، وقد قال عليّ (ع): «صيام القلب عن الفكر في الآثام أفضل من صيام البطن عن الطعام»، أن يصوم عقلك فلا يتحرك في التخطيط للشر والإضرار بعباد الله وبما لا يرضي الله تعالى. وقال رسول الله (ص) لجابر بن عبد الله: «يا جابر هذا شهر رمضان، من صام نهاره وقام ورداً من ليله وعفّ بطنه وفرجه، وكفّ لسانه، خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر»، فقال جابر: يا رسول الله ما أحسن هذا الحديث! فقال (ص): «وما أشد هذه الشروط».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق