• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القيم الأخلاقية والأمن المجتمعي

أ. د. عمار الطالبي/ نائب رئيس جمعية علماء المسلمين بالجزائر

القيم الأخلاقية والأمن المجتمعي

◄يمكن القول بأنّ القيم الأخلاقية تمثل الأرضية المتينة التي تبنى عليها العلاقات الاجتماعية والسلوك الفردي والجماعي، فإذا أصابها خلل ما أثر ذلك أثراً سيئاً في معاملة الناس المختلفة، كما إنّ القيم الأخلاقية تكون أقوى وأعمق جذوراً وتأثيراً في النفس الإنسانية وسلوكها إذا ما أسندت إلى القيم الدينية، إذ أنّ القيم الدينية تضيف بُعداً آخر إلى بُعد القيمة الأخلاقية فيجتمع فيها بُعدان: بُعد أفقي إنساني، وبُعد رأسي علوي إلهي، فيكبح ذلك كله جماح غرائز الإنسان، ويوجهها إلى الخير، وإلى الطيب من القول، والعمل، وفي السلوك، ويتسع أفق الإنسانية فيها يصبح أفق الحيوانية الغريزية تحت تصرّف الجانب الخلقي الديني ويصدر الإنسان في سلوكه عن دوافع داخلية أخلاقية ملزمة له، عن قناعة لا عن عامل خارجي يخيفها ما دام قامئ، فإذا ذهب ذلك العامل عاد الإنسان إلى تصرفات تتنافى والقيم الأخلاقية الدينية، فأنت تلتزم بهذه القيم سواء حضر شرطي أو دركي أو غاب لأنّ لك رقابة ذاتية لا تحتاج إلى رقابة خارجية غيرية في ضبط سلوكك، لأنّ الأخلاقية تتمثل في أن تلزم نفسك بنفسك لا أن تراعي خوفاً يخفيك به شيء خارجي ويهددك بالعقاب، بل تشعر بأنّ الله هو الذي يراقبك وضميرك هو الذي يحاسبك (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (القيامة/ 14)، ولذلك فأنت تجهد نفسك تبعاً لمفهوم من مفاهيم الخير أو اجتناباً لمفهوم من مفاهيم الشر، معيارك في هذا المفهوم من مفاهيم الواجب، تراعيه، وتلزمه أو مفهوم من مفاهيم الشر تنكره وتتجنّبه، فهو عندك محظور، تقبل على ما هو خير، وتدبر عما هو شر، وتدفعه، فما أقبلت عليه إنما أقبلت عليه لأنّه من قبيل المعروف بالمعنى الشرعي، وما أدبرت عنه إنما أدبرت عنه لأنّه من قبيل المنكر بالمعنى الشرعي.

فأنت الذي تقرر هل تقبل أن تدين بريئاً، أو تخون صديقاً، أن تقتل طفلاً أو تعذّب إنساناً أو تغتصب، فالأمر يتعلق بك، كلّ خلق إنما هو علاقتك بالآخر، وإذا سلكت سلوكاً أخلاقياً فمعناه أنّك أخذت في حسبانك مصلحة الآخر، وإذا لم تفعل ذلك فأنت لم تراع إلّا مصلحتك، فلا أحد يقرر مكانك، وقيمتك تتوقف على قيمة الخير الذي تفعله، والشر الذي ترفضه، كلّ ذلك بإرادتك وضميرك.

فالأخلاق إنما هي مجموعة ما يفرضه الفرد على نفسه من داخله، وإن كان أصل مصدر هذه الأخلاق خارجياً جاء به الوحي من مصدر علوي، ولكنك إذا آمنت بذلك واقتنعت به أصبح ذاتياً في نفسك به إلى الخير وترتدع عن الشر، ولا يكون هذا السلوك مراعاة لمجرد سعادتك أو منافعك فقط؛ لأنّ ذلك لون من ألوان الأنانية، ولكن بمراعاة لحقوق الآخرين ومصالحهم أيضاً، لتبقى أميناً على معاني الإنسانية.

ولبّ الأمر وخلاصته في هذا المجال هو أن تجيب عن هذا السؤال: ماذ يجب أن أفعله؟

أمامك مجموعة من الواجبات تلزم بها نفسك، وتعترف بأنّها شرعية وأخلاقية، وإن كان مصدرها اجتماعياً ودينياً.

ومعنى هذا أنّ القانون الأخلاقي هو ما أفرضه على نفسي بعد أن اقتنع به باستقلال عن نظرة الآخر، وبقطع النظر عن عقاب وجواء إلّا جزاء الآخرة، أما إذا اتجهت إلى ما يجب على الآخر أن يفعله فقط فأنا هنا واعظ، فإذا قلت لإنسان كن كريماً، ولا تبرهن على أنّك نفسك كريم، فهذا عمل الواعظين، فالأخلاق هي التي لها قيمة في نفسك وفي سلوكك، لا في مجرد قولك وخطابك.

فالضمير هو الحكم، ولا تطلع على نيات الآخرين لأنّ الله وحده هو العليم بما تخفي الأنفس، وتكن الصدور، أما العقاب أو السجن، فذلك قائم على ما يتصوره الناس عدالة ترجع إلى قانون وإلى حكم القضاة، وتقارير الشرطة، فكم من فاضل بريء يقبع في ظلمات السجون وقيودها، وكم من مرتش محتال مخادع، يعيش في فضاء الحرية.

يمكن أن تكون متواقفاً في سلوكك مع قواعد المجتمع السوية وهذا واجب، ولكن لا يعفيك من أن تكون منسجماً مع ما يمليه عليك ضميرك، وهذا هو الجوهر حقاً وهو أمر عام يشمل كلّ فرد.

والواقع أنّه توجد أخلاق مختلفة تبعاً للتربية التي تلقاها هذا الفرد أو ذاك، وللمجتمع الذي نشأ فيه، والعصر الذي عاش أحداثه وتقاليده والأوساط التي يتردد عليها، وبصفة عامة يكون تبعاً للثقافة التي تربى عليها، ومن الصعب أن تجد أخلاقاً مطلقة، ولكن عندما أمنع نفسي من الوحشية والقتل والعنصرية فإنّني أعلم أنّها ليست مسألة اختيار يتعلق بذوق فرد ما وإنما هي شرط لبقاء الحياة، وكرامة المجتمع، وحياة كلّ مجتمع وكرامته بل ذلك شرط لبقاء الإنسانية قاطبة.

إذا كان الناس كلّهم يكذب بعضهم على بعض، فلا يصدق أحد منهم الآخر، ويصبح كلّ قول وكلّ خبر صحيح محالاً وعبثاً، وإذا كان كلّ فرد يسرق فإنّ الحياة في المجتمع تصبح مستحيلة أو بائسة، فلا تبقى ملكية، ولا شيء ليسرق، إذا كان كلّ إنسان يقتل فلا يبقى إلّا الخوف والعنف، ويصبح الناس ضحية للقتل، إذ أنّهم كلّهم قتلة فكيف يأمن الإنسان على نفسه أو ماله؟ إنّها خسارة للحضارة وللإنسان.

فهذه الافتراضات المناقضة للقيم مرعبة إذا سادت أدت إلى تدمير الإنسان، فالقانون في هذا السلوك الأخلاقي أن تسأل نفسك إذا عزمت على سلوك طيب أو شرير وأردته، ماذا يحدث لو أنّ الناس كلّهم يرتكبونه؟

إذا رأى شخص ابنه يرمي بقشور البطيخ في الشارع يقول له: إذا كان كلّ الناس يفعلون هذا فما أضخم ما يكون الوسخ في هذا الشارع، وما أعظم ما يسبّبه من الإزعاج لك ولغيرك من الناس. إذا تخيّلت أنّ كلّ الناس يكذبون على كلّ الناس، يقتلون كلّ الناس يسرقون يعتدون، كيف تتصور مجتمعاً بهذه الصورة؟ إذن ينبغي أن تمتنع عما تدينه إذا فعله الآخر، وتنكره، وتوجب على نفسك الالتزام بقانون يعم الناس في الوقت نفسه، فأنت تسلك سلوكاً وتحب في الوقت نفسه أن يصبح قانوناً عاماً تخضع له، لا لأهوائك ورغباتك الخاصة، وكلّ الناس يخضعون للقانون نفسه وهذا مضمون الحديث النبوي المشهور: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ومفهوم هلا يؤمن حتى يكره لأخيه ما يكره لنفسه، أي عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.

وهل هذا الخلق يحتاج إلى أساس يستند إليه غير ذاته؟ هل يحتاج إنقاذ طفل أخذ يغرق إلى شرعية في إنقاذه؟ وإذا اندفع ظالم يقتل، يعذب، يدمر إيحتاج إلى أساس شرعي كي نوقفه عند حده؟ لا يحتاج ذلك كلّه إلى برهان يجعله مشروعاً.

وهل يمكن أن يدعي إنسان ما أنّ الأنانية أسمى من الإيثار، وأنّ الكذب أفضل من الصدق، والخيانة فوق الأمانة، والوحشية فوق اللطف، والرحمة؟ إن قبلنا ذلك فقد قبلنا تناقضاً صارخاً، إنّ هذا مطبوع عليه الإنسان في فطرته وجاء الوحي فأكد ذلك، وخاطب الفطرة والعقل به، والعقل في هذا عون للفطرة، وأساس للتكليف في الشرع.

أساس ذلك كلّه تكريم الله للإنسان، والإحساس بالكرامة أن تحترم الإنسانية في نفسك وفي الآخرين من أمثالك، ولا يتم ذلك إلّا بمجاهدة الأهواء، ورفضها، ودفع ما يجعلك لا تفكر إلّا في نفسك وأنانيتك، وتعتقد أنّك وحدك الموجود، وتقطع صلتك بالله فتكون كما قال دوستويفسكي Dostoievski: "إذا لم تعتقد بوجود الله فإنّ كلّ شيء يصبح مباحاً".

ليست الأخلاق هي التي تؤسس الدين وتبرره كما يزعم فلاسفة التنوير، وإنما الدين هو الذي يؤسس الأخلاق ويبررها، ويعتقد الفيلسوف كنط أنّ الأخلاق تؤدي إلى الدين، إنّ الواجب يقتضي أن تكون إنسانياً لا أسيراً لغرائزك وخوفك، فالأخلاق تتمثل في هذا الإلزام الكلي الذي يشمل الأنا والآخر معاً، فالقيم الأخلاقية تتسع إلى أفق الإنسانية قاطبة، فلا تكون الجماعة منغلقة في نطاق ثقافتها الخاصة وقوميتها وتقاليدها الاجتماعية. بخلاف السياسة فإنّها سياسة لخدمة مصالح شعب معين ودولة معينة لا تعدوها، فالقيم الأخلاقية هي التي تجسد آدمية الآدمي، وهويّة الإنسانية، وتدعو للانفتاح على كلّ آدمي، فهي مواطنة عالمية وليست مواطنة لدولة معينة، وهذا ما ينم عن نضج الإنسان، وكماله الروحي.

ولكن السياسة أوقعت البشرية في خوف من الأسلحة النووية في الحروب، وتسرب الإشعاع، والانحباس الحراري وتلوث البيئة وما إلى ذلك من أنواع الخوف والقلق وانعدام الأمن.

ومفهوم الرحمة في الإسلام من المفاهيم الكلية التي تتجاوز الإنسان والحيوان إلى كلّ الموجودات فهي رحمة كونية (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف/ 156).

وفي حديث: "إنّ رحمتي تغلب غضبي" فهذه الرحمانية لا تعدل قيمتها قيمة في حياة الإنسان، ولهذا ذهب طه عبد الرحمن. إلى القول: "إنّ الأصل في كلّ شيء هو الرحمة بحيث تكون هي أوّل الأشياء على الإطلاق ويأتي اسم "الرحمن" بعد اسم الجلالة "الله" مباشرة في البسملة، وقد يرادفه كما في قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الإسراء/ 110)، فكلّ شيء إنما هو أثر من آثار رحمة الله، والمؤمن يتشبه بأخلاق الله، ويتخلق بالإحسان الذي يعم كلّ شيء وعليه يتأسس كلّ خلق، وكلّ سلوك رباني جدير باستخلاف الإنسان لكن هل القيم الأخلاقية وحدها كافية لأن يسود الأمن؟ إنّ الإنسان بجانب كونه حيواناً اجتماعياً لا يحيا حياة إنسانية إلّا في مجتمع، فإنّه أيضاً حيوان أناني شديد الحب للخير لنفسه، ولذلك احتاج الناس إلى تدبير آخر نسميه سياسة وسلطة يقول الله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (الحديد/ 25). فبجانب الكتاب والميزان أي الأحكام والقانون من أجل سيادة العدل أشارت الآية إلى الحديد، إلى استعمال السلطة التي تردع الذين هم أسرى لأهوائهم وأنانيتهم لا يراعون قانوناً ولا خلقاً ولا ديناً، فيقطعون السبيل، ويعتدون، ويسفكون الدماء لذلك كلّه احتاج الناس إلى سبيل آخر بعد القيم والقوانين وهو السلطة التي تستعمل القوة والحديد لإلزام هؤلاء بالقانون.

وغاية التدبير السياسي معالجة التنازع بين الناس، وصراع المصالح المختلفة بطريقة نتفادى بها العنف والخوف وسفك الدماء، ومعنى هذا أنّنا نحتاج إلى دولة كي يصبح الناس غير خاضعين للحالة الطبيعية الخارجة عن كلّ قانون وكلّ شريعة وكلّ قيمة أخلاقية، تضمن أن يتحاكم الناس إلى القانون والعدل، وهذا معنى السياسة التي تدير هذا التنازع، وتمنعه من أن يصبح عدواناً وعنفاً. فالسياسة بهذا المعنى إنما هي إدارة سلمية للصراع لا حرب فيها ولا عنف يقوم به أحد الأطراف أو جميعها، وتعالج هذا على صعيد المجتمع كلّه فهي فن حياة متوازنة في دولة واحدة، يقتضي هذا سلطة وحكماً تعالج بهما المواجهات، وتسوى على أساس قانون يحسم به النزاع، وعدم اتفاق المصالح والآراء بين الأحزاب، وفئات المجتمع المختلفة ولا سبيل لغير هذا إلّا العنف والمقاتلة. والسياسة إنما غايتها تدبير ذلك كلّه تدبيراً متوازناً يتلافى به أن تقع الفوضى والعدوان وسُبل العنف.

فلا وجود لسياسة دون سلطة معترف بها تضمن هذا التوازن، وتمنع العدوان على الأشخاص وحقوقهم.

والواقع أنّ السياسة تفترض الخلاف والصراع بين المصالح، وتناقضها، أما إذا حصل اتفاق الناس على كلّ شيء كاتفاقهم على أنّ الصحّة خير من المرض وأنّ العلم خير من الجهل، فلا نحتاج إلى سياسة، فالسياسة تجمعنا مع اختلافنا وتعارضنا، ولكنها تجعلنا على أحسن ما يمكن من الجمع، وهكذا باستمرار دون توقف، ولا يرفع كلّ خلاف بين الناس رفعاً مطلقاً ولذلك خلقهم الله. فالخلاف مقبول ولكن يتجاوز عنه، وله حدود، والسياسة مثل البحر في مده وجزره فهي معركة، ولكنها السلام الممكن، والأمن النسبي وهي ضد الحرب، وضد الحالة والوحشية الطبيعية: كلّ حرب على كلّ، فلا أحد يعيش وحده، ولا أحد يمكن أن يحيا في عداوة للناس جميعاً مخالفاً لهم في كلّ شيء.

إنّ السياسة في جوهرها حياة مشتركة لا تخلو من خلاف، ولكن تحت سلطة دولة ومراقبتها إنّها فن استعمال السلطة ولا سبيل للحياة المشتركة في هذا العالم غير ذلك، إنّها تدبير الحياة المشتركة والمواجهات بين فئات المجتمع ومصالحها، ونشاط المواطنين لإقامة هذه الحياة إنما يكون بأدائهم واختيارهم لمن ينوب عنهم في إدارة هذه السفينة المشتركة، فهل يحسن أن يتخلى المواطن عن واجبه ليترك المجال لمن يقر مكانه ممن لا يراعي إلّا مصالحه من الوصوليين، ثم يكون مما يرى أنّه لا يحقق مصالح المجتمع، ولا يضمن حقوق المواطنين؟ فعدم المبالاة السياسية ليست عُذراً بل هي تخل عن المسؤولية وخطأ وإهمال للواجب، وتضييع لمصلحة المجتمع، ولا يطمئن أحدنا في أن تسود الأخلاق سيادة مطلقة، وأن يلتزم كلّ الناس بالقيم إذ لو فعلوا ذلك ما احتجنا إلى دولة ولا قانون ولا شرطة ولا جيش، فالقول بالاعتماد على القيم الأخلاقية وغيرها من القيم وحدها لمقاومة البؤس وضياع المصالح إنما هو وهم وخرافة، أما القيم وحدها فقد تنحرف عنها الجوانب الحيوانية من الإنسان وتخترقها، لذا جاءت ضرورة السياسة والسلطة، وتنظيم اختلاف المصالح بين الناس لا يتأتى إلّا بسلطة تكون وكيلا عن أفراد المجتمع تدفع عدوان بعضهم على بعض، فتتحقق مصالح الناس، وبذلك تشبع أنانيتهم أيضاً في حدود أنانية الآخرين، لأنّه يتعذر محو الأنانية ومنافعها، فتعارض الأحزاب والفئات الاجتماعية والطبقات المختلفة والإيديولوجيات المتنوعة والآراء والأولويات ليس معناه تعارض الخبيث والطيب والخير والشر فلكلّ وجهة نظر، وبرنامج له ما يبرره ولذلك تكون وظيفة السياسة هي إحداث التوازن حتى لا ينقلب إلى عنف فالقيم تدعو إلى العدل والحرّية ولكن سؤال السياسة كيف يمكن ذلك في الواقع مع اختلاف الآراء والمصالح والاتجاهات نحن في حاجة إلى الأمن والعدل والحرّية والأخوة والمشاريع الجيدة، والسياسة هي التي تحاول تحقيق ذلك في حدود الإمكان، فإنّ الناس ليسوا ملائكة، ولا يكفي أن نتمنى العدل والمساواة والسلام وغيرها من القيم، ولكن بالعمل للدفاع عنها وتحقيق ما يمكن تحقيقه منها، ويكون ذلك بالتدبير السياسي ولذلك نجد أرسطو يرى أنّ الإنسان حيوان سياسي؛ لأنّه بدون السياسة لا يحقق إنسانيته أي اجتماعيته وعضويته في مجتمع لتتحقق إنسانيته في أمن من شرور، الأشرار وحماية من حيوانية الإنسان وأنانيته، التي يحملها بين جنبيه، وهذه هي الواقعية والنظرة السديدة التي تتفق مع طبيعة الإنسان؛ ولذلك وصف بأنّه ظلوم جهول من حمله للأمانة إذا انحرف واتبع هواه واتخذه إله، فأصبح عبداً له لا يقوى على التحرر من سلطانه.

لذلك كلّه دعت الضرورة لوجود سلطة قانونية شرعية يختارها الناس حتى يعلم مَن يحكم ومَن يطيع، ومَن يعمل لتنفيذ القانون، وطاعة السلطة إنما تكون عن اختيار وحرّية في انتخاب من يحكم، ومن يمنع أن يكون بعض منهم يحارب بعضاً آخر، بعد هذا يجب أن يطاع صاحب السلطة، وقد حدد هذا المبدأ القرآن الكريم (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) من أصحاب السلطة السياسية والتشريعية والتنفيذية، ومبدأ الاهتمام بالحياة السياسية العامة المشتركة مبدأ مهم "مَن لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم" حتى لا يترك الأمر لمن لا يحسنه، وللمفسدين ومَن لا يعمل لصالح الأُمة، وإقامة نظامها، والدفاع عنها، ومسؤولية الدولة الكبرى حفظ الأمن وتنظيم توازن الأنانيات، حتى لا يعدو بعضها على بعض، ولتفادي المواجهات العنيفة والفوضى بحثاً عن المصلحة العامة وانتظامها وتوازنها، والقيم الأخلاقية قد لا تكون لها في بعض صورها صفة الإلزام الذي هو سمة القانون الذي تفرضه السلطة التي خولها المجتمع ذلك، وعقد لها عقد الوكالة الملزمة، وإذا انعدم القانون انعدمت الحرّية كما يقول جون لوك، فالدولة تحد من الحرّية بلا شك، ولكن تحد أيضاً من حرّية الآخر لتتعايش الحرّيات في حدودها، فلا يضيق عليها عنف يصدر من الآخرين، وهو ما يحدث عندما يغيب القانون وتغيب السلطة مراقبتها، فلا تتجاوز هذه الحرّيات حدودها، مما يسبب العنف والخوف، فالقانون هو الذي يتيح لهؤلاء وهؤلاء الحريّة وتصالحها وتوازنها فلا تتعارض يهدم بعضها بعضاً آخر بالعنف والتقاتل.

وكما تكون الوضعية بين أفراد المجتمع الواحد والأُمّة الواحدة، تكون بين الأمم التي تنحرف عن القيم وتنحو نحو الظلم والاستبداد ومنطق القوة مع الأمم الأخرى، والسلم في العالم إنما يتحقق أيضاً بالتوازن بين المصالح لا بالحرب والعدوان. والسياسة الخارجية الدولية بين الأُمم إنما تقوم على المد والجزر بين هذه المصالح المتبادلة، ويؤدي هذا الاختلال في التوازن بين المصالح إلى النزاع وإلى الحروب؛ ولذلك وجدت هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن لإعادة هذا التوازن والحفاظ على السلم العالمي بقدر الإمكان، ولكن رغم كلّ الجهود التي بذلت وتبذل فإنّ التوازن بين المصالح يبقى فيه نوع من الاختلاف، نظراً لوجود دول كبرى قوية وأخرى دون ذلك، ولم تستطع المناداة بالقيم وحقوق الإنسان أن تتحقق في هذا المجال، لاختلال توازن القوى الاقتصادية والعلمية، فأصبح الميزان راجحاً في جانب القوى سياسياً لا أخلاقياً في كثير من الأحوال، ومجريات العالم تتحكم فيها القوى العظمى بموازينها والإخلال بموازين الأُمم الضعيفة في غالب الأحوال، ولعلّ هذا قدر الإنسان في التاريخ، فالحروب إنما هي تغلب الجانب الحيواني المتوحش، وسلوكه الأعمى إلّا على مصالحه وحدها، والسياسة تبدأ عند نهاية الحرب، فمتى يتحقق المبدأ الأخلاقي القرآني: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)؟ ولعلّ السلوك في العلاقات الدولية، وهيئات الأُمم المتحدة أن يقترب من هذا المبدأ فيسير على بصيرة منه، ويعدل عن المظالم الفادحة والحروب المدمرة للإنسان والحضارة بغض النظر عن كلّ قيمة أخلاقية.►

 

المصدر: مجلة رسالة التقريب/ العدد 67 لسنة 2008م

ارسال التعليق

Top