من خلال اطّلاعنا ومطالعتنا في حياة العظماء، وسِيَر الصالحين، وترجمات العاملين الربّانيين، لاحظنا أنّهم يُكرِّرون كلمة تكاد تكون لازمة عندهم جميعاً، وهي أنّنا في سباق مع الزمن، أو أنّنا نسابقُ الزمن ولا نريدُ له أن يسبقنا، أو نريدُ أن نترك بصماتنا على الزمن ولا ننتظر أن يترك الزمنُ بصماته علينا.
فما هي حقيقة مسابقة الزمن، وهل يمكن للإنسان فعلاً أن يسابق زمنه فيسبقه؟
في الاعتبارات المادّية للزمن، لا أحد يسبق الزمن ولا أحد يتمكَّن من تخطّي خُطى أجله، ولا يستطيع أن يخرج دائرة عمره الموهوب له.. أمّا في الاعتبارات المعنوية للزمن، فنعم، يمكن للإنسان أن يسابق زمنه فيسبقه في (الزمن النوعيّ) أو ما اصطلحنا عليه بعصارة الزمن، إذ قد ترى أو تسمع مَن يُحدِّثك عن أنّه يعمل في اليوم (24) ساعة، وبعضهم مَن يقول إنّه يعمل في اليوم (36) ساعة، وهؤلاء لا يكذبون، ولا يغفلون حساب ساعات النوم، ولا يتحدَّثون عن الحساب الرقميّ للوقت، هم يتحدَّثون عن الزمن النوعيّ المكثَّف المضغوط الذي تُعتصر كلّ آناته آناً فآناً، وثانية ثانية.
هم قد يختصرون ويقلِّلون من ساعات نومهم وترفيههم ليضيفوها إلى أجندات عملهم؛ لكنّهم كذلك يضاعفون الجهد والعطاء ضمن أوقات عملهم المخصَّصة أو المرجوة للإنجاز، فلا تُفاجئ حين تسمع بأنّ فُلاناً كسر الأرقام القياسية في إنجاز عمل يستغرق غيره سنوات، أنجزه هو في شهور، أو يعمله غيره في شهور، أكمله هو في أيّام.
إنّ هؤلاء ليسوا بشراً أو مخلوقات من كوكب آخر، هم يحملون وعيين أساسين: (وعي الذات) و(وعي الزمن).
في وعي الذات يُربّون أنفُسهم ويُروِّضوها على العطاء المُبكر مخافة أن يأتي الموت أحدهم وهو لم ينجز كلّ المشاريع التي كان قد خطَّط لها، أو يباغته الأجل وهو بعدُ لم يستكمل أو يستخرج الطاقات الدفينة في داخله، هم أعرف بما يمتلكون، وبما يمكن أن يفعلوه إن مَنّ الله تعالى عليهم ببضع سنوات إضافية.
وفي (وعي الزمن) هم حَمَلةُ ثقافة ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ (الزلزلة/ 7)، وثقافة ﴿فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة/ 105)، وثقافة ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ (الإسراء/ 19)، وثقافة ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة/ 11)، وثقافة ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الملك/ 2)، وثقافة ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (الواقعة/ 10-11)، وثقافة ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ (الصافّات/ 61)، وثقافة ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (البقرة/ 148)، وثقافة ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ (المطفِّفين/ 26)، وثقافة ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ (المطفِّفين/ 26)، وثقافة «إنّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما»[1]، أي ينخران ويهدمان من أعماركم، فابنوا بهما بناءً لا يعتريه الهدم!
[1]- هداية العلم في تنظيم غرر الحكم، سيِّد حسين شيخ الإسلامي، باب اللام، رقم الحكمة3705، ص555.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق