لقد توجهت إلى مجموعات من البنين والبنات بالسؤال التالي: ما الذي يمنعك من تنفيذ ما يطلبه منك أبوك أو أمك؟ فقالوا أسباباً كثيرة منها: يأمرني بعنف، يجبرني على فعل ما لا أريد، يأمرني في وقت غير مناسب، لا يشكرني إن فعلت، لا يرد فلماذا أفعل إذاً، يأمرني بكثير من المحاضرات، يريدني أن أسير بالريموت كنترول، لا يقبل مني أن أقول لا، لا يسمح لي بمناقشته، يطلب في وقت غير مناسب، يقطع لذتي في مشاهدة التلفاز أو الكمبيوتر ليرسلني فيما يريد... وعندما تأملت تلك الردود وجدت أنّها تدور حول فكرة واحدة وهي أنّ الوالدين لا يساعدون أبناءهم على طاعتهم...
والسؤال الآن: كيف يساعد الآباء أبناءهم على طاعتهم؟
أبي.. هل كلّ أوامرك تحتاجها الآن؟
هذه مصيبة بعض الأُمّهات فطلباتها دوماً تحتاج سرعة في التنفيذ، فهي تريد كلّ شيء الآن ويا ويله مَن يتأخر ولو قليلاً، وهذا ما يجعل الطفل ينفر ولا يطيع، إنّ الطفل بحاجة إلى أن يدرك – من طريقة إلقائك للأوامر – متى تريد طاعة فورية ومتى يمكنه أن يتأخر ويأخذ وقته في التنفيذ، فأحياناً تطلب من الطفل تنظيف غرفته ولكن لا يضرك إن فعل ذلك على الفور أم بعد فترة، ولكن إذا كان لديك ضيوف وطلبت لهم شراء عصير لهم، فسيفهم أنّ صوتك أكثر جدية ولابدّ أن يستجيب بسرعة...
إنّ أجمل ما يميز التكاليف الإلهية (من صيام وصلاة وزكاة وغيرها) هو المرونة، ففي الصيام مثلاً مرونة شديدة (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (البقرة/ 184)، وهذه المرونة ساعدتنا على الطاعة، وشجعتنا على التنفيذ، بل تجد بعضاً ممن يطيقونه ويثقل عليهم، يسعون للصيام مع أنّهم في عفو وسعة، والعفو هو الذي شجعهم على التنفيذ، وهكذا يحتاج أطفالنا إلى مرونة في أوامرنا، فليس كلّ ما نحتاجه حضر وقته، وليس كلّ ما حان وقته حضر أهله من أبنائنا...
إنّ المرونة في التربية تعني تحلي الأب – أو الأُم – بالحكمة الكافية التي لا تجعله يكلف ابنه بما لا يطيق جسميّاً أو نفسياً، فلا يطالب ابنه بأداء الواجبات المنزلية بعد يوم عصيب تعرض له في المدرسة، يمكنك ساعتها أن تقول لطفلك: "أعتقد أنّك بحاجة إلى قسط من الراحة، لذا سوف أنظف حجرتك أو أرمي القمامة بدلاً منك؛ إن كنت ترغب في ذلك"،... إن استعدادك ورغبتك الصادقة في مساعدته ستولد لديه الرغبة في مساعدة أي شخص يحبه عندما يكون محتاجاً للمؤازرة النفسية والمساعدة، كما سيسعد هذا التصرف ذلك الابن لأنّ والده يشعر به، وقد يرحب بمساعدتنا له تماماً مثلما ترحب الزوجة بمساعدة زوجها عندما يقول لها: "لقد عانيت اليوم من العمل وشغل البيت، استريحي أنت وسوف أعد العشاء"... وكم سيكون طفلك سعيداً عندما تقول له "أرى يا بني أنّك مرهق بعد اللعب، سأساعدك في جمع اللعب لأنّي أشعر بك"، وكم ستسعد ابنتك إن قلت لها: "لقد أتعبنا فتاتنا الجميلة اليوم في عمل المنزل إضافة لمذاكرتها، لذا سأصنع الشاي بدلاً منها"...
حسب الطبيعة العمرية تكون التكاليف العملية:
قد يكون سبب عناد الطفل هو سوء فهم الوالدين لطبيعة مرحلة الابن العمرية، فالطفل مهنته في اللعب، ورغبته الدائمة في ممارسة مهنته يضايق أُمّه، فتتصادم معه وتظن أنّه يتعمد مضايقتها، لكن المسكين لم يقصد يوماً إزعاجها... وكذلك المراهق الذي ينام كثيراً ويأكل كثيراً نظراً لمرحلته العمرية ونموه المتزايد، فتنهاه أُمّه وتتصادم معه وتذمه على أفعال لا ذنب له فيها، ولذلك يستمر في فعلها، وتظن الأُم جهلاً أنّه يعاندها لكنه لم يفعل يوماً.
إنّ من أصول الدين الثابتة ألا نكلف مَن هم تحت أيدينا بعمل لا يطيقونه، روى البخاري ومسلم في باب "إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه، أنّ النبي (ص) قال: "إن إخوانكم خولكم (ملككم الله إياهم فهم تحت رعايتكم) جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم (وفي رواية: ولا يكلف من العمل إلّا ما يطيق)، فإن كلّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم"، ولقد أجمع العلماء على أنّه لا يجوز أن يكلفه من العمل ما لا يطيقه، فإن كان وفعل ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره... هذا مع المماليك والخدم فما بالك بابنك وابنتك، ويكفينا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن النبي (ص) أنّه قال: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم"، فهذه قاعدة تربوية رائعة ونحن بحاجة إلى تطبيقها مع أطفالنا...
كن حاضراً عندما يطلبك ليكون جاهزاً عندما تطلبه:
عندما يطلب منك ابنك شيئاً (كحدوتة أو حوار معك أو لعبة تلعبها معه) تكون دائماً مشغولاً أو تعبان، وفي الوقت نفسه تطلب منه دوماً طاعتك الفورية، والسؤال: أليس من حقّ طفلك هو الآخر أن يكون أحياناً مشغولاً (ولو باللعب فهي مهنته في هذه المرحلة) أو مرهقاً وتعبان ولا يستطيع تنفيذ أمرك؟
إنّنا لكي نعلم الطفل تنفيذ أوامرنا وتفضيلها على ما في يديه، لابد وأن نكون قدوة له، فنحن أحياناً نكون مشغولين لكنه عندنا أولوية وسنحاول جاهدين تلبية طلبه.
ومن الأفكار العملية التي ننصح بها الأُمّهات: لو طلب طفلكِ منكِ اللعب معه وأنتِ مشغولة، يمكنك أن تقولي له: أنا أعلم أنّك تريدني أن ألعب معك وأنا أيضاً أحب ذلك، ولكنني بحاجة لأن اتكلم على الهاتف أو أعد الطعام أو غيرها، وعندما انتهي من عملي سيسرني اللعب معك، لذلك سأضبط المنبه ليرن بعد عشر دقائق، العب وحدك الآن وعندما يرن الجرس يصبح بإمكاننا اللعب معاً"...
ويمكن للأُم إذا طلب منها طفلها اللعب معها وهي مشغولة أن تقول له: كم أكون سعيدة للعب معك، لكني مشغولة جدّاً بإعداد الطعام لكم وغسل ملابسكم، لكن ما رأيك أن أضبط المنبه ليرن بعد أربع دقائق نلعبها معاً، هيا نلعب بمرح وحب، وعندما يرن الجرس تقوم الأُم باحتضان طفلها قائلة: كم كان وقتاً جميلاً، لقد استمتعت باللعب معك، سنكرر ذلك معاً كثيراً إن شاء الله...
تقول إحدى الأُمّهات: عندما بلغت ابنتي الصغرى عامها الثاني، كان من المفترض أن ألقي خطاباً عن كوني كاتبة ومؤلفة أمام حشد يبلغ مائة من الحضور في مسقط رأسي، واضطررت إلى اصطحاب ابنتيّ معي، واستأجرت جليسة أطفال كي ترعى الابنتين (الكبرى ست سنوات والصغرى سنتان) وذلك في إحدى الغرف القريبة من القاعة التي كان من المقرر أن تقام فيها المحاضرة، وبعد مرور بضع دقائق من محاضرتي، إذا بنا نسمع صراخاً داخل القاعة، وإذا بابنتي الصغيرة تقتحم المكان وتندفع مباشرة نحوي وتلتف حول ساقي، وهنا تحركت بداخلي فطرة الأمومة...
فكرة جريئة ترى بها تميز طفلك:
قال رسول الله (ص): "رحم الله والداً أعان ولده على بره، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقبل إحسانه، ويتجاوز عن إساءته"...
إنّ مشكلة كثير من الآباء والأُمّهات أنّه لا يرى حسنات طفله أبداً ولا إحسانه، فطفله دائماً مخطئ متهم، ولكي تقبل من طفلك إحسانه وترى حسناته جرب "مبادلة" طفلك العنيد الذي لا يسمع كلامك بطفل آخر عنيد لأسرة أخرى لمدة يوم أو أقل، إنّ تعاملك مع طفل آخر عنيد قد يساعد في بعض الأحيان على أن تكون أكثر موضوعية مع طفلك، فتركز أكثر على ما يميزه من صفات، وعندما ترد الطفل لوالده تأكد من أن تتحدث أنت وهذا الوالد عن الأشياء التي أثارت إعجاب كلّ منكما في ابن الآخر العنيد...
لا بأس في ارتكاب الأخطاء أحياناً:
بالطبع هناك أوقات يفقد فيها الوالد السيطرة ويلقي الأوامر على طفله بصراخ وتبكيت وربما إهانة، والتربية الأبوية الناجحة لا تعني أن تكون مثالياً، ولكن المهم أن تحاول، وعندما ترتكب أخطاء وتفقد السيطرة على نفسك، فإنّ الحل هو الاعتذار؛ كأن تقول لطفلك: "إنّني أعتذر لأنّني صرخت في وجهك، فإنّك لا تستحق ذلك، كما أنّ الصراخ لا يعد وسيلة جيدة للتواصل، لقد أخطأت"... وهناك طريقة أخرى للاعتذار مثل قولك: "إنّني اعتذر عن غضبي معك، لقد كنت احتاج إلى تعاونك وطاعتك لي، ولكنني لم أقصد أن أغضب منك أو عليك، ولقد شعرت بالغضب لأنّ أشياء أخرى تضايقني، ولم يكن خطؤك هو ما جعلني أغضب"...
الخبير التربوي عبد الله محمد عبد المعطي
المصدر: كتاب أطفالنا كيف يسمعون كلامنا
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق