قسّم القرآن الكريم الذنوب إلى قسمين: كبائر وصغائر، وقد جاء هذا التقسيم في العديد من الآيات، منها هذه الآية: لأنّ المراد من (سيئاتكم) في قوله تعالى: (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (النساء/ 31)، المراد منها ما عدا الكبائر باتفاق المفسرين، والمعنى من اجتنب كبائر الذنوب محونا عنه صغائرها.
ومنها قوله تعالى في الآية 32 النجم: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ)، واللم هي الصغائر.
ومنها قوله سبحانه في الآية 49 الكهف: (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا).
ومنها الآية 7 من سورة الحجرات: (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)، وهي صريحة في أنّ المنهيات أقسام ثلاثة: الكفر، وهو الجحود والإنكار، والفسوق وهو اقتراف الكبائر، والعصيان وهو الصغائر.
وبهذا يتبين معنا أن قول من قال: كلّ الذنوب كبائر، ولا صغائر فيها، لأنّ معصية الله في شيء كبير، مهما كان ذلك الشيء، إنّ هذا القول مخالف، لظاهر القرآن، بالإضافة إلى أنّ الشرائع الوضعية تقسّم الجريمة إلى جنحة وجناية، أجل يمكن نفي الصغائر.
ومهما يكن، فإنّ الكتاب العزيز لم يضع حدّاً فاصلاً بين الكبيرة والصغيرة، ولذا اختلف الفقهاء في معنى الكبيرة، فذهب جماعة إلى أن كلّ ما جاء في القرآن مقروناً بذكر الوعيد فهو كبيرة، وما عداه صغيرة، وخير الأقوال قول من قال: إنّ الذنوب جميعاً في نفسها كبائر، كما قال من نفى الصغائر من الأساس، وإنما تقسّم الذنوب إلى كبائر وصغائر بمقارنة بعضها إلى بعض، مثلاً، النظر إلى الأجنبية بريبة ذنب كبير في نفسه صغير بالنسبة إلى القبلة، والقبلة صغيرة بالنسبة إلى الجنس، وكذا الأكل على مائدة عليها خمر كبير في نفسه، صغير بالقياس إلى شرب الخمر.
وتجدر الإشارة إلى أن للذات الفاعل وسوابقه وظروفه ودوافعه تأثيراً بالغاً في جعل الذنب كبيراً أو صغيراً على حد تعبير الفقهاء، وجناية أو جنحة على حد تعبير المشرعين الجدد، فعلينا أن نضفي على الذنب صفة الشدة أو الضعف أن ننظر إلى الفاعل، هل فعل لعدم فطنته وضعف إرادته، كما لو لبس عليه غاو أثيم، أو فعله لحاجة ماسة، أو لأنّه مولع بالإساءة إلى الناس، كما هو شأن الكثيرين.
وقد تواتر عن الرسول (ص) أنّه قال: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار".
وعن الإمام الصادق (ع): "إنما خلد أهل النار في النار، لأنّ نياتهم كانت في الدنيا أن يعصوا الله أبداً لو خلدوا فيها، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة، لأن نياتهم أن يطيعوا الله أبداً، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء".
وقال الشيخ مغنية رحمه الله: "وبسطنا القول في تأثير النية عند تفسير الآية 144 من سورة آل عمران "لكل امرئ ما نوى".
وقال رحمه الله: "ومن المفيد أن نذكر خبراً عن الإمام الصادق (ع) يعدد فيه أنواع الكبائر".
روي أن عمرو بن عبيد دخل على الإمام، وسأله عن الكبائر في كتاب الله فقال: "إن أكبر الكبائر الشرك بالله، لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (النساء/ 48)، وقال: (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) (المائدة/ 72)".
وبعده اليأس من روح الله، لأنّ الله يقول: (لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف/ 87).
ثمّ الأمن من مكر الله، لأنّ الله يقول: (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف/ 99).
ومنها عقوق الوالدين، لأنّ الله تعالى جعل العاق جباراً شقياً في قوله: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِياً) (مريم/ 32).
ومنها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، لأنّه تعالى يقول: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا) (النساء/ 93).
وقذف المحصنات، لأنّ الله يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور/ 23).
وأكل مال اليتيم، لقوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء/ 10).
والفرار من الزحف لأنّ الله يقول: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال/ 16).
وأكل الربا، لقوله سبحانه: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة/ 275)، وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه) (البقرة/ 279).
والسحر لأنّ الله يقول: "ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق".
والزنى، لأنّ الله يقول: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) (الفرقان/ 68-69).
واليمين الغموس[1]، لأنّ الله يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ) (آل عمران/ 77).
والغلول[2]، قال تعالى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران/ 161).
ومنع الزكاة، لقوله جلّ وعزّ: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) (التوبة/ 35).
وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، لأنّ الله يقول: (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة/ 283).
وشرب الخمر، لأنّ الله عدل بها عبادة الأوثان.
وترك الصلاة متعمداً، أو شيئاً مما فرض الله، لأن رسول الله (ص) يقول: "من ترك الصلاة متعمداً فقد برئ من ذمة الله، وذمة رسوله، ونقض العهد".
وقطيعة الرحم، لأنّ الله يقول: (أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد/ 25).
فخرج عمرو بن عبيد وله صراخ من بكائه، وهو يقول: "هلك من قال برأيه، ونازعكم في الفضل والعلم يا أهل البيت".
المصدر: كتاب دروس من القُرآن
[1]- اليمين الغموس هي الكاذبة التي تغمس صاحبها في النار.
[2]- الغلول ذو الحقد والغش.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق