أسرة
عند استقراء مسار المجتمع البشري، ومتابعة السير التأريخي لحياة الإنسان على هذه الأرض نجده حركة مليئة بالتطور والنمو والتراجع والتغيير.. وإنّ كل ذلك يجري انطلاقاً من اختيار الإنسان وإرادته، واستخدامه لعقله وغرائزه ومشاعره.. سواء في الاتجاه السلبي أو الإيجابي..
والمجتمع كما هو واضح مجموعة من الأفراد تربطهم روابط مادية وإنسانية فتتشكل صيغة المجتمع ببنيته ومؤسساته وأنشطته.. وللمجتمع وسائل وأدوات مادية يستخدمها في مختلف مجالات الحياة كوسائل الانتاج الزراعي والصناعي والاتصالات والطب والنقل والحرب، وحفظ الأمن، وتوفير الاحتياجات الخدمات المادية المختلفة، والتعامل مع الطبيعة والفلك.. إلخ.
وكما للمجتمع أوضاع مادية، فإنّ له أوضاعاً إنسانية، مثل نوع السلوك الإنساني، الفردي والاجتماعي، كعلاقات الأسرة والقبيلة والدولة، ونوع المؤسسات الاجتماعية، والأنشطة السياسية، والقانون والأعراف والأخلاق والتقاليد والعقيدة والفن واللغة والأدب.. إلخ.
وكل هذه الأوضاع الاجتماعية مرت بتحولات وتطورات وتغيير.. ففي الجانب المادي من حياة المجتمع نشاهد تطوّراً مذهلاً، فقد استطاع الإنسان أن يكتشف قوانين الطبيعة والمادة الحية، ويقتدم في العلوم والمعارف، ويستخدمها في تطوير حياته المادية.. وهذا التطوُّر التقني الهائل هو نتاج حركة وتطور العلوم الإنسانية في مجالاتها المادية المختلفة: الزراعية والصناعية والطب والنقل، وغزو الفضاء، وأجهزة الاتصال ونقل المعلومات، ووسائل الحرب والدمار.. إلخ.
وكما نما وتطور الجانب المادي من المجتمع، وبهذا المستوى الهائل والمذهل من التقدم والتطور، نما الجانب الإنساني من حياة الإنسان الفردية والاجتماعية.. فقد تطور ونما مستوى التفكير والنضج العقلي عند الإنسان، كما نمت وتطورت اللغة والآداب والفنون.. وزخر المجتمع بألوان العقائد والأفكار والتقاليد والقوانين ونظم السياسة، واشكال العلاقات الإنسانية، والسلوك الفردي والاجتماعي التي مرت بمراحل من التطور والتغيير..
فقد حصل التطور والتغيير في وضع الدولة والنظم السياسية والاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، كالإقطاع والرأسمالية والاشتراكية والإسلام.. وحصل التغيير في عقائد الإنسان من عبادة الله وعبادة الأوثان والكواكب والخرافات والسحر، واضطهاد المرأة وتحريرها، والدعوة إلى الاباحية، وعبادة الحكام، وتطور وضع الدولة ومهامها ومسؤولياتها، كما خضعت الأعراف والتقاليد والأخلاق والقوانين إلى التغيير والتحول نحو الأفضل والأسوأ..
ومما ينبغي تشخيصه ان تطور الأوضاع المادية والمدنية، ومستوى الانتاج والثروة، يؤثر تأثيراً بالغاً في تغيير الوضع الاجتماعي، وتشكيل المجتمع وأوضاعه القانونية وعلاقته بالدين والرسالة الإلهية، كما أن هناك أوضاعاً كثيرة، وسلوكيات اجتماعية، وعلاقات إنسانية تغيرت نتيجة للتغيرات المادية والمدنية في المجتمع..
وهذه التغيرات والتحولات الاجتماعية السلبية والإيمانية تحتاج إلى دراسة وتحليل، وفرز ما يصح تغييره، عما لا يصح تغييره.. كما أن ذلك يستلزم تحديد ما هو ثابت، وما هو متغير في حياة الإنسان لنتعامل معه وفق الرؤية الإسلامية، وهي رؤية علمية عقلانية في نهاية التحليل.. إنّ دراسة مثل هذا الموضوع تستلزم أن يدرس على الأسس الآتية، فهي:
1- أنّ للإنسان تكويناً جسدياً ونفسياً وعقليّاً ثابتاً.. فللإنسان حاجة للطعام والشراب والدواء، والجنس والسكن، والأمن والدفاع عن النفس.. إلخ. وترتكز في أعماق ذاته غرائز ومشاعر التدين، وحب الاجتماع والتكاثر، والخوف والغضب.. إلخ.
ويتميز الإنسان بامتلاكه العقل القائم على أسس وقوانين يعمل وفقها.. منطلقاً من غريزة حب الاستطلاع، وفهم ما حوله، والتعرف على المجهول واكتشافه.. وكل هذه الثوابات وأمثالها هي قضايا تكوينية، شأنها شأن قوانين الكيمياء والفيزياء والفلك.. فهي بمجموعها تكوّن وضع الإنسان منذ تشوئه على هذه الأرض، وحتى منتهى وجوده.. فهي الحقائق الثابتة يوم كان الإنسان يعيش بدائياً ساذجاً في الغابات والكهوف، ولا يعرف من الحياة المدنية والاجتماعية شيئاً، تقوده الغريزة، وتوجهه الفطرة والتكوين الطبيعي.. وهي الحقائق ذاتها قائمة وثابتة في أعماق الإنسان، وهو في أرقى وضعه المدني والتقدم العلمي والتقني..
2- إن حياة الإنسان لا تحقق بقاءها، ولا تستقر أو تنتظم إلا بإشباع تلك الحاجات والتعبير عنها.. وان آلية هذا الإشباع، وطرق ووسائل توفير الحاجات، والتعبير عن الدوافع الغريزية هي المتغيرة المتحركة.. وان منطلق التغيير هو العقل والنفس واكتشاف المجهول.. فلكي يشبع الإنسان حاجته من الطعام والشراب، وتوفير الغذاء، كان يلجأ إلى الطبيعة فيجد فيها ما يحتاجه جاهزاً، ومع تزايد الحاجات، وجد نفسه مضطراً إلى العمل والكسب بيده..
وحين تزايد مجموع الأفراد، ونمت غريزة حب السيطرة والاختصاص بالأشياء واقتنائها بدلاً من وضعها الحر المباح للجميع في عالم الطبيعة.. بدأ الخلاف والصراع على احتواء المكاسب المادية.. وصاحب ذلك نمو قدرة الإنسان العقلية وتفكيره..
ويوضح القرآن انّ الناس قبل حصول هذه الظاهرة كانوا أُمّة واحدة، تحكمهم الفطرة، وتوجه حياتهم الغريزة.. وحين حصل الخلاف والنزاع على المكاسب المادية، وبدأ مستوى إدراك العقل الإنساني يتصاعد، وأصبح قادراً على استقبال التوجيه العقلي بدأت بعثة الأنبياء لإنقاذ الإنسان من شرور الخلاف، وتعريفه عن طريق النبوة بخالق الوجود، وبنظام الحياة الذي يحسم الخلاف..
إنّ القرآن يوضّح هذا التغيير والتطور، والانتقال في حياة المجتمع الإنساني الأوّل من حالة الوحدة والانسجام إلى حالة الخلاف والصراع، ومهمة بعثة الأنبياء لحسم هذا النزاع، وتطور الخلاف حول القضايا المادية إلى خلاف في العقيدة.. فقد بدأ الصراع والخلاف على القضايا والمكتسبات المادية، فبعث الله النبيين لحسم هذا الصراع والخلاف، كجزء من الدين الذي حمله الأنبياء، القائم على أساس التعريف يخالق الوجود وبعالم الآخرة، وبقانون لتنظيم الحياة، وحسم الخلاف.. فانقسم الناس إلى قسمين: قسم صدّق الأنبياء وآمن، وقسم كذّب وكفر.. وهكذا كانت انطلاقة التغيير في المجتمع، قال تعالى:
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[1] (البقرة/ 213).
(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (يونس/ 19).
3- وجود أفكار وعقائد وقوانين ونظم وأعراف وتقاليد اجتماعية لتنظيم الوضع الاجتماعي، وحل مشاكل الإنسان، وتوفير حاجاته المادية والنفسية والعقلية.. ولهذه القوانين والنظم والاعراف مصادرها التي نشأت منها.. فبعضها جاءت به الشرائع الإلهية التي بشر بها الأنبياء، وبعضها نشأت نتيجة لتصورات الإنسان ومستوى فهمه للطبيعة والحياة.. وهي متأثرة بطبيعة البيئة التي يعيش فيها، ومستوى الإدراك الذي يحمله.. لذا فهي تتفاوت بين الواقعية والعلمية والوهم والخرافة والتخلّف..
4- الوسائل والآليات التي يملكها الإنسان في كل عصر للإنتاج والخدمات، وتنظيم المجتمع والنشاط والعلاقات الإنسانية، كوسائل الانتاج الزراعي والصناعي، ووسائل الطب والعلاج، وطرق تنظيم الدولة والمال والاقتصاد.. إلخ.
إنّ دراسة المتغير والثابت في المجتمع، ترتبط بهذه الحقائق مجتمعة.. إنّ الثابت من هذه الحقائق هو:
1- حاجات الإنسان التكوينية.. المادية والفكرية والنفسية والروحية؛ كالحاجة إلى الطعام والشراب والسكن والعلاج والجنس والأمن والحب والعبادة، والتفكير ومحاولة فهم العالم، والعيش ضمن مجتمع منظم.. إلخ.
فتلك الحقائق والحاجات ثابتة لا يطرأ عليها تغيير ولا تبديل..
2- القيم والقوانين والنظم التي تلبي الحاجات الإنسانية الثابتة فهي أيضاً ثابتة لثبوت موضوعاتها في الجانب الإنساني.
3- أما المتغير الذي لا يعرف الثبات، فهو الوسائل والأساليب والآليات..
فالإنسان لديه وسائل وآليات لانتاج الطعام والشراب والسكن وحفظ الأمن والعلاج والتنقل والاتصال، وتنظيم الدولة والمجتمع.. وتلك الوسائل والآليات متطورة ومتغيرة.. فالإنسان كان يعتمد الوسائل البدائية واليدوية في الانتاج الزراعي والصناعي والأدوية، وحفظ الأمن، والتنقل والاتصال، وتنظيم المجتمع.. إلخ.
وعلى مرور الزمن، ومن خلال العقل وغريزة حبّ الاستطلاع، واكتشاف المجهول، استطاع أن يكتشف قوانين الطبيعة والمجتمع، ويوظفها في الصناعة والتقنية، وفهم العالم المادي والنفسي والاجتماعي، ويصنع مختلف الآلات والوسائل التي يستخدمها في الانتاج الزراعي والصناعي والطب والفلك والحرب والمواصلات ونقل المعلومات.. وطبَّق أرقى الاكتشافات العلمية في تطويرها.. فصنع آلات الحراثة والحصاد والسقي المتطورة، وصنع السيارة والطائرة وزالباخرة المسيّرة بالطاقة الكهربائية والنووية، والكومبيوتر والانترنت، والتلفزيون والراديو والتلفون لنقل المعلومات، والكثير من الأجهزة الطبية والصناعية والحربية.. إلخ. وطور تنظيم المجتمع من القبيلة والدولة البدائية إلى الدولة المتطورة، لحفظ الأمن والدفاع، وتوفير الخدمات، وهي الحوائج الثابتة للإنسان..
من الحقائق الآنفة الذكر تنطلق الرؤية الإسلامية مُبينة في القرآن، والسنّة المطهرة، وفي دراسات وبحوث علماء الفقه وأصوله، والمفكرين والمنظرين الإسلاميين التي بنوها على القرآن والسنّة المطهرة.. فالإسلام، الرسالة الإلهية المشرّعة بعلم وخبرة وعدل وحكمة إلهية بالغة، قد جاءت لتنظم حياة الإنسان بما فيها من قضايا ثابتة ومتغيرة.. إنّ الرسالة الإسلامية عالجت جانب القيم والمبادئ، وتركت جانب الوسائل والآليات والأساليب لظروف الإنسان وإمكاناته العصرية..
حثّ الإسلام الإنسان على طلب العلم، واكتشاف قوانين الطبيعة، وتطوير حياته.. ومن يستقرئ القرآن الكريم يلاحظ أن هناك آيات هي بمثابة الأسس والأصول الثابتة وأُخرى بمثابة التشريع التنفيذي والبياني لها.. من أمثلة الأصول الثابتة قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود/ 1).
(وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ) (الرحمن/ 10).
(وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 56).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13).
وجاء في خطابه تعالى لآدم (ع): (إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) (طه/ 118-119).
وقال سبحانه: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش/ 3-4).
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم/ 21).
(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (الحشر/ 7).
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ...) (الزمر/ 9).
إنّ هذه الآيات تثبت أنّ الناس شركاء في هذه الأرض، وما فيها من خيرات، ولهم حق التنقل والعيش والسكن في أي مكان فيها، ويحرم عليهم الفساد في الأرض، والعبث فيها.. وانّهم سواسية في أصل الخلقة والإنسانية، ولا فرق بين إنسان وآخر في هويته الإنسانية، إنّما يأتي الفرق من اختيار الناس لنوع السلوك الذي يسلكونه، فمنهم من يسلك سلوك الخير والهدى والاستقامة.. ومنهم من يسلك سلوك الشر والضلال والفساد في الأرض..
وأنّ للإنسان الحق في أن يتوفر له الطعام والشراب واللباس والسكن والأمن والجنس.. إلخ، عن طريق جهده الخاص، أو عن طريق تكافل وتضامن الهيئة الاجتماعية معه في حال عجزه عن ذلك.. وأن طلب العلم واجب، فلا يستوي العالم والجاهل، وأنّ العلم دليل الناس إلى الإيمان والاستقامة.. وإذا كانت هذهالحقوق من القضايا الثابتة للإنسان، فإنّ القرآن جعل من التشريعات والقيم والموازين ما ينفذ به هذه المبادئ..
فشرع قوانين المال والتجارة، وحماية الملكية الخاصة، وتنظيم الزواج والأسرة، والعلاقات الإنسانية، والقضاء والدولة والسياسة.. إلخ. وأوجب طلب العلم.. ونادى بمكارم الأخلاق وتنظيم السلوك.. إلخ. شرَّع وثبّت كل ذلك لتحقيق الأهداف والمقاصد الأساسية الملبية للمتطلبات الثابتة في تكوين الإنسان واحتياجاته.. شرع القيم والموازين الثابتة التي لا تتغير، وهي موازين الحق والعدل، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90).
(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) (الإسراء/ 105).
وبهذه الموازين الثابتة، والمفتوحة والمصاديق.. موازين الحق والعدل، يقيس الإسلام ويزن كل أنشطة الإنسان، وأنماط سلوكه وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفردية.. إلخ.
إنّ مصداق الحق والعدل يتغير من ظرف لآخر، ولكنه بمفهومه العام أساس ومبدأ ثابت يجب تحقيقه في كل زمان ومكان.. من أمثلة مصاديق العدل المتغيرة أن.. من العدل والحق أن يتوفر للإنسان مستوى مناسب من العيش البدائي قبل مائة عام.. ومن العدل الآن أن يتوفر للإنسان أنماط مختلفة من مستوى العيش والخدمات والسكن والعلاج.. فبيت اليوم بخدماته ووسائله: من الماء النقي والكهرباء والتدفئة والأدوات المنزلية العصرية هو غير بيت الإنسان قبل مائة عام في الكثير من مستلزماته..
وتوفير وسائط النقل، وطرق المواصلات السريعة التي تتواكب وحركة الحياة العصرية هو غي ما كان الإنسان يحتاجه في ما مضى من الزمن. لذا فإنّه من الظلم وعدم أداء الحقوق للإنسان أن لا يتوفر له البيت العصري، ولا المستشفيات بتجهيزاتها العصرية، ولا تتوفر له وسائل النقل والتعليم العصرية.. إلخ.
أمّا القيم والقوانين والأفكار والأعراف والتقاليد، وأنماط العلاقات الاجتماعية، فهي تقسم إلى قسمين: قسم يمثل الحقائق العلمية، ويعبر عن الواقع الموضوعي.. وقسم منها نشأ نتيجة لجهل الإنسان وظروفه البيئية المتخلفة، أوغلبة هوى النفس والأنانية والنزعات والنزوات الغريزية المنحرفة.. كالأفكار والعقائد والتقاليد والأعراف الخرافية التي اعتقدها الإنسان.. والقوانين التي تكرس الظلم والتسلط، وهيمنة الأقوياء على الضعفاء.. وتقسيم البشرية إلى طبقات وأجناس مختلفة في الإنسانية والقيمة البشرية..
إنّه هذه اللون من القوانين والنظم والعادات والعقائد يبني مجتمعاً متخلفاً، ذلك لأنّ هذه الأفكار والقيم والقوانين والعقائد قائمة على أسس غير علمية ولا عقلانية، ولا تعبر عن الواقع الموضوعي.. إنّما مصدرها الجهل والخرافة والنزوات الغريزية.. والبناء الاجتماعي الذي يقوم على هذه الأسس المتخلفة، سيتعارض ويتناقض بطبيعته مع التحولات والمكتسبات والأوضاع العلمية والعقلية والمدنية القائمة على أساس العقل والعلم..
إنّ مثل هذه القواين والنظم والأعراف والعقائد، يجب تغييرها واقصاؤها، وبناء المجتمع على أساس العقل والعلم.. وتلك هي دعوة الإسلام، لذلك حمل على الذين يصرّون على التمسك بما وجدوا عليه آباءهم من جهل وخرافة وأعراف وتقاليد بالية، لا يقرّها العقل ولا العلم، ولا الحس الأخلاقي السليم..
والقرآن يرفض هذا التحجر والجمود، ويسجله بخطابه الموجه إلى تلك الأنماط البشرية:
(قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (الشعراء/ 74).
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) (لقمان/ 21).
وبذا يتضح المتغير والثابت بصورة موجزة، ورؤية الإسلام لحركة المجتمع وحدوث التغيرات فيه.
[1]- يراجع العلامة الطباطبائي، تفسير الميزان.
ارسال التعليق