• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قصة الحج.. بين المشاهد والشهادة

أسرة البلاغ

قصة الحج..  بين المشاهد والشهادة

قصة الحج

بين المَشاهِد والشهادة

 

 

 

تنويه: هذا ليس كتاب مناسك، ولا هو كتاب إرشاد ديني،

هو كتابٌ في ثقافة الحج

 

 

 

 

لجنة التأليف - مؤسسة البلاغ


 


 

 

 

الفهرست

أضواء من (سورة الحج) ...................................................... 9

1- قُطّاع الطُّرق إلى الله تعالى ..................................................................... 9

2- تطهير البيت ............................................................................................ 10

3- من كلّ المسافات البعيدة ........................................................................ 11

4- شهادة المنافع ............................................................................................. 12

5- غسيل العمر ............................................................................................ 14

6- مهمّة تعظيم الشعائر .................................................................................. 15

7- حلاوة الإستهلال بالتسمية ...................................................................... 17

حكمة الحـج ....................................................................... 19

1- الحج.. ينفي الفقر ..................................................................................... 19

2- الحج.. سببٌ لرحمة الله ومعراجٌ إلى جنّته .............................................. 19

3- الحج.. علامةٌ للتواضع .............................................................................. 21

4- الحج.. تسكينٌ للقلوب ............................................................................. 21

5- الحج.. إختبارٌ للطاعة ............................................................................... 21

6- الحج.. صحّةٌ وسعةٌ وصلاحٌ وكفاية ......................................................... 21

7- الحج.. وفادةٌ إلى الله تعالى  .................................................................... 22

دلالات الحـج .................................................................... 23

الحج.. دلالة الزمان ........................................................................................ 23

الحج.. دلالة المكان ......................................................................................... 24

الحج.. ساحة محشر مُصغَّرة ........................................................................... 27

الحج.. إسراءُ الحاج ومعراجه ......................................................................... 29

الحج.. تلازم المادّي والمعنوي ....................................................................... 31

الحج.. دورة رياضيّة في التواضع .................................................................. 33

الحج.. وأسنانُ المشط ................................................................................. 36

الحج.. فرصة التوبة الذهبيّة .......................................................................... 38

من فوائد الحـج ................................................................. 41

1- البُعد الأخلاقي ........................................................................................ 41

2- البُعد الثقافي ............................................................................................ 42

3- البُعد السياسي ....................................................................................... 43

4- البُعد الإقتصادي .................................................................................... 44

- رمزيّة الحج من خلال وثيقتين ................................................................... 46

الوثيقة الأُولى: حواريّة الإمام زين العابدين(ع) مع صاحبه (الشبليّ) ..................... 46

الوثيقة الثانية: وصيّة الإمام الصادق(ع) إلى كلّ حاج ........................................... 58

يوم نموذجي للحاج ......................................................................................... 63

خدمة الحاج ................................................................................................... 68

من قصص الحـج التربوية ........................................................ 71

1- بيت الله في قلوب المساكين!! ............................................................... 71

2- كلكم أفضل منه!! .................................................................................... 71

3- سيِّد القوم خادمهم!! ............................................................................... 72

4- "لبّيك" من أعماق القلب!! .................................................................... 73

5- قضاء حاجة المؤمن أحبّ من الطواف!! ................................................ 74

6- حاج ينقذ قاتل أبيه من القتل!! .............................................................. 75

7- إلى متى تدوسون هذا البيدر؟! ............................................................. 76

8- حمل أُمُّه على ظهره ................................................................................. 78

9- اليأس من رحمة الله!! ............................................................................. 78

10- "أللهمّ قني شُحَّ نفسي"!! ....................................................................... 79

11- الرفق بالحيوان!! .................................................................................. 79

قاموس الحاج ................................................................... 81

خلاصة وإستنتاجات .......................................................... 127

ملحق الأدعية المنتخبة ........................................................ 133


 

 


 

أضواء من (سورة الحج)

أن تكون هناك سورة قرآنية كاملة للحج -أي قائمة بذاتها وتحمل عنوانه-، فهذا بحد ذاته مادة ثقافية رصينة يُستعان بها في فهم مرامي الحج ودلالاته وأبعاده، وهذه بعضها:

 

1- قُطّاع الطُّرق إلى الله تعالى:

قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الحج/ 25).

- يجب أن يبقى السبيل إلى الله مفتوحاً دائماً، ولكن الظالمين من قُطّاع الطُّرق إلى الله يَصُدُّون ويمنعون الناس عن ورود هذا السبيل والتزوُّد منه وإعماره، كما يَصُدُّون القاصدين الحج وتجديد العهد مع هذا السبيل عند زيارتهم للبيت الذي يُمثِّل رمز التوحيد.

هؤلاء هم أعوان الشيطان وجنوده لأنّهم يمارسون نفس مهمّته في قطع طريق الصلاح عمّن يروم الصلاح مخافة أن يزداد الصالحون فيغبِّروا على الشياطين سياستهم.

إنّ الصدّ عن سبيل الله ليس هو منع الحاج -لسبب أو لآخر- من أن يَؤمَّ البيت الحرام، بل هو كل عقبة توضع في طريق الإيمان والعمل الصالح، سواء أكان الصادّ أو المانع والمعيق والمعرقل إنساناً فرداً، أو جهة سياسية أو إعلامية أو دينية، ولا ميزة للمقيم في البلد الحرام على القادم إليه من مكان بعيد، فالكل في حرم الإله سواءُ.

 

2- تطهير البيت:

قال تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (الحج/ 26).

- كان الأمر الثاني لإبراهيم (ع) بعد بناء البيت هو تطهيره وما حوله من أي نجس ظاهر (قذارة) أو باطن (شِرك)، أي تحويله إلى مكان للطهر والعبادة حتى تتوجّه إليه الأبصار والقلوب فتسكن وتفيء إليه، لأنّها تجد في ظلاله واحتها العامرة بالطُّهر والنَّقاء والصَّفاء.

فالأفئدة التي تهوي إلى البيت لا تطمح إلى التمسُّح بحجارته، وإن كانت حجارته تكتسي وتكتسب (روحها) من (روحانيّة) المكان، بل لتغسل أرواحها في فيض طهارته وغمرة خلوصه.

وإنّما جاء الحجيج مكّة لينشدوا مكاناً يتّسمُ بالطُّهر دوماً، ومحيطاً يشعُّ بالصَّفاء من كل زواياه وأركانه، فلا يخالطه شِرك، صغيرٌ أو كبيرٌ، ولا تُدنِّسه القذارات بمختلف أنواعها.

إنّها -مع الفارق بالقياس- جاءت إلى (الميقات) لتلتقي ربّها في (البقعة المباركة).. وقد لا تجد على النار هدى، ولا تسمع من جانب الوادي الأيمن النداء، لكنها ستجد شهاباً قبساً تستدفئ به في أيام البرد التالية والخالية من أشعة ذلك المكان الشمسيّ المتدفِّق بالنُّور حتى في أحلك لياليه.

تأمَّل في حالات الحاج: (الطواف)، (القيام)، (الركوع) و(السجود).. وارمق بطرفك الملأ الأعلى لتستجلي صور أصناف الملائكة في مقارنة بين موقفك وموقفهم: "منهم سجودٌ لا يركعون، وركوعٌ لا ينتصبون، وصافّون لا يتزايلون، ومُسبِّحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العين، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان"[1].

هل يمكنني كحاج وفدتُ على الله أن أتخلّى عن بشريتي للحظات لأعيش ملائكية الملائكة في ذلك المكان الذي يسبحُ فيه الطُّهر، وترفّرف في أرجائه أجنحةُ الصفاء؟!

يقول الإمام علي (ع): "نعم، بإمكان الإنسان أن يرتقي في تكامله إلى مقام أعلى من مقام الملائكة".

 

3- من كلّ المسافات البعيدة:

قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (الحج/ 27).

- (الفج العميق) هو الطريق البعيد، وحينما يشتد أوّار الشوق تقترب المسافات.. تذوب.. تتلاشى.. يُصبحُ البعيدُ مثار أنس لأنّه يثبت بالدليل أنّ الحبيب يُقصَد أينما كان، وعلى أي جناح، بل يُستعذَب فيه العذاب!

يروي (أبوالفتوح الرازي) في تفسيره أنّه رأى في الحج شيخاً هزيلاً بدت عليه آثار السفر، فسأله: من أين أنت؟ فأجاب: من فج عميق طال قطعه (خمسة أعوام)!! فأصبحت شيخاً هزيلاً من شدّة تعب السفر وآلامه، فقال له (الرازي): والله لهي مشقة، فقال الشيخ:

زُرْ مَنْ هويتَ وإن شقت بك الدّارُ

وحالَ من دونهِ حُجبٌ وأستارُ

لا يمـــنـــعــنّك بُــــعـــدٌ مـن زيـــــارتــــهِ

 

إنّ المحـــــبَّ لمــن يهــواهُ زوّارُ!!

4- شهادة المنافع:

قال تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ (الحج/ 28).

- أن تشهد يعني أن ترى بعينك.. وأن تشهد يعني أن تحضر بنفسك، فشهدَ الجمعةَ يعني حضرها.. هنا شهادة عينيّة ومثول بين يدي المنافع الدينية والدنيوية، سواء ما يُحقِّقه الحج من فرص وإمكانات التعارف، وسبل تبادل المعارف، وآفاق التعاون والتشاور والتزاور، والتلاقح في الأفكار والرؤى والمشاريع، والإسهام في مدارسة وحل المشكلات ومواجهة التحدِّيات من خلال هذا المؤتمر العالمي السنوي الذي لا نظير له في كل مؤتمرات العالم ومناسباته العامّة.

والمنافع الدنيوية -بهذا المعنى- منافع أُخرويّة أيضاً، فكلُّ ما فيه صلاح الأُمّة هو أُخروي وإن كان في ظاهره مادّياً. وأمّا المنافع الروحية، فهي أكثر من أن تُحصى، فحسب الحاج أنّ روحه تعرج إلى الآفاق العليا في رحلة التسامي على (الذات) و(الملذّات) والأطر الضيقة والأنانيات والأنظمة والسياسات.

هنا، حيث لا رتابة في البرنامج الإستهلاكي اليومي، فرصتي أنا الحاج القادم بمحض إرادتي وقناعة عقلي وقلبي، أن أتحرَّر من المصغِّرات والهوامش والتوافه والمتع الهابطة الرخيصة.. جئت (لأُحلِّق)، فهل أنا مستعد لإتخاذ جناحين ينطلقان بي إلى الرحابةِ، وإلى حيث لا يحدّ فضائي مدار؟

إذا كان قراري الذي عقدت عليه نيّتي: أن أعود إلى (هويتي)، وأن أعود إلى (أصالتي)، وأن أعود إلى (نبعي الصافي).. يمكن أن أرود بأجنحتي الآفاق التي تُنقِّي فطرتي، وترتقي بي في فضاءات الأنس بلقيا الحبيب.. (سباحة) و(سياحة) فيما وراء الحدود.

إنّ نداء التلبية: "لبّيك أللهمّ لبّيك" يمكن أن يُترجَم إلى حركة ربّانيّة ليس من (الميقات) فقط، بل منذ اللحظة التي يعكف الحاج فيها على الإعداد لرحلته للقاء ربّه، ولا تنتهي بنهاية طريق عودته، بل إلى يوم يودع في أحضان أُمّه الأرض.

أمّا أضحيتك التي تُذكِّرك بما رزقك الله من (بهيمة الأنعام) والتي تطعم منها البائس الفقير الذي قد لا يذوق اللحم إلا في المناسبات الكريمة، فهي (فداؤك).. وهي تجربتك الواعية للتصدُّق على المحتاجين التي قد تقترن بتجربتك الأُولى عند الولادة عندما عقّ أبواك عنك.. لقد افتدوك بالعقيقة ولم تكن تعي بعدٌ معنى الإنفاق في سبيل الله، ومابين التجربتين يمكن أن تنفي الطمع والبخل لتتذكّر أنّ لك في مالك وطعامك شركاء.. يفنى الطعام عندك ويبقى ثوابه عندَ مَنْ أوصاك بهم فلبّيت.

سأل النبي (ص) إبنته الزهراء (عليهاالسلام) ذات يوم بعد أن نحر ذبيحة ووزّع لحمها على الفقراء: "كم بقي منها؟ قالت: ذهب كلّها ولم يبق إلا كتفها، فقال (ص): ذهبَ كتفُها وبقي كلُّها".

 

5- غسيل العمر:

قال تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (الحج/ 29).

- لا يكفي أن أغسل يدي ووجهي بالماء والصابون وأُعطِّر جسدي بالطيب (خارج وقت الإحرام) لأبدو قبالَ المرآةِ وأصحابي نظيفاً.. فإنّ الذي دعاني أن أُطهِّر ثوبي دعاني بالمعية والملازمة أن أُطهِّر قلبي، وأُنظِّف مشاعري، وأغسل روحي من أدرانها، ونفسي من أمراضها: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ (المدَّثِّر/ 4-5).

إنّ (التفث) المادي سهلٌ إزالته، فالشفرةُ قد تكفي لحلاقة رأسي، ولكن أنّى لي بحلاقة أخطائي وذنوبي ومآثمي وتقصيراتي؟!

والطِيب قد يُخفِّف رائحة العرق في جسمي، لكن رائحة معاصيّ في نفسي مَنْ يعرفها؟

والدين الذي نهاني عن كل المنفرات البصرية والشمّية والسمعية، دعاني أن أكفّ عن منفراتي السلوكية.. والخطايا وإن كانت لا تُشمّ لكن رائحتها أزعج للروح!

هنا.. في هذا المنتجَع.. في هذا المغتسل الروحيّ.. يمكنني أن أقوم -ولأوّل مرّة ربما- بإجراء غسل كامل لأثواب عمري التي لَوَّثتها السيِّئات.. فأنا موعود في هذا المكان بإمكانية أن أعود كيوم ولدتني أُمّي: خالياً من الدنايا، عارياً من الخطايا، فهل سأقوم بغسل العمر هنا لأرجع إلى صفائي الأوّل ونقائي البدائي خفيفاً مترنِّماً: هكذا ينجو المخفّون!

 

6- مهمّة تعظيم الشعائر:

قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج/ 32).

- شعائر الله تعالى عظيمة بذاتها، فكل أحكام ومناسك وتعاليم الحج صادرة عن العظيم عظَّمها بإنتسابها إليه، وبما ترمز إليه من معانٍ وقيم، من طواف حول البيت (الكعبة المحترمة)، ومن سعيٍ بين الصفا والمروة، ومن نحرٍ للأضحية، ومن رميٍ للجمرات، ومن وقوف في عرفات ومزدلفة ومنى، فماذا يعني تعظيم العظيم؟!

تعظيمه يعني إستشعار عظمته وسمو مكانته، وموقعه في عقلي وحياتي أنا الحاج الذي آلى على نفسه أن يحترم ويجلّ ويُقدِّر ويُعظِّم (المكان) و(المكانة) و(المُمكّن).

إنّ التسمُّر عند شكل وسطح وظاهر الشعيرة والمنسَك من غير أن أنتقل به إلى حيث ينطبع به سلوكي، فأكون مُعظِّماً لكل شعائر الله آخذاً بحلاله تاركاً لحرامه، هو أشبه بالإنشداد إلى معالم سياحية تلتقط لها بعض الصور التذكارية ثمّ تودعها لتنام هناك بين صفحاته، كما يرقد الميت في قبره!

ولذلك فحقيقة التعظيم تستدعي أن أُعظِّم العظيم الذي لا أعظم منه، وأنْ (أُعظِّم البشر) أكثر من تعظيمي (للحجر).. ألم يقف النبي (ص) يوماً في قبالة الكعبة ليخاطبها: "أنت عظيمة لكن حرمة المؤمن عند الله أعظم منك"!!

ألم يقل (ص): "لئن تُهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من أن يراق دمُ امرئٍ مسلم"!!

ألم يقل (ص) لرجل مرَّ به وهو يسوقُ بُدنة (ناقة سمينة يُريد أن يُضحي بها) وكان مُجهَداً من السير خلفها: "اركبها"! فقال: يا رسول الله، إنّها هدي! فقال (ص): "إركبها ويلك"! أي أن كونها هدياً لا يمنع من استخدامها وسيلة للركوب، فإذا ما حان وقت التضحية ضحّيت بها!

إنّ التعظيم يقتضي أن أنتقل من (الرمز) الجامد إلى معانيه المتحرِّكة في مجاري حياتي.. وذلك هو معنى الحج الأكبر!

 

 

7- حلاوة الإستهلال بالتسمية:

قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (الحج/ 34-35).

- في أدبنا الإسلامي: كلُّ عمل لا يُبدأ فيه باسم الله فهو أبتر، أي ناقص ومجتزأ ومقطوع، فلماذا كانت الأعمال التي نغفل فيها عن ذكر الله بتراء؟!

لقد كانت السفينة التي صنعها نوح (ع) سفينة إلهيّة، والمهمّة التي كانت تنتظرها مهمّة ربّانية، وربّانها منتدب من قبل الله لقيادتها في الطوفان، فلماذا ابتدأ نوح (ع) بالبسملة، قائلاً: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ (هود/ 41).

ولقد كانت الرسالة التي وجّهها سليمان (ع) إلى بلقيس رسالة توحيدية تنطلق من موجبات الدعوة إلى الله، فلماذا استهلها سليمان (ع) ببسم الله الرّحمن الرّحيم؟!

إنّ التسمية هي بدء العمل، فحركة البدء بكل عمل مبارك ونافع وغير مخلّ بشرع الله بالتسمية تحمل معنى (المباركة) و(المشروعية) و(الإذن) من الله والشروع بعينه وعنايته، إنّها أشبه بصفّارة الحكم التي تعطي إشارة البدء بعد أن تستكمل الأوّليات وتُستوفى المقدّمات.

فالتسمية عند الذبح -مثلاً- تحيل العمل من مجرّد قتل إلى عمل عبادي يُذكِر أنّ الذابح هو (عبد الله)، والذبيحة (نعمة الله)، وإنّ الله سخَّر هذه لذاك، وإنّه استحلّ ذبحها بإذن الله وانتفع من لحمها بما أباحه الله، فاستحقّ الشُّكر لله، وقد أدّى ذلك بالتسمية.

وكما إنّ البدء بالتسمية والإستهلال بحلاوتها يضفي على العمل صفة البركة ويُذكِر بالمُنعِم، فإنّ ختام العمل الصالح يجب أن يُستلهم من وحي أجواء الحج، حيث نتذكّر أنّ إبراهيم (ع) وإسماعيل (ع) بعد أن فرغا من بناء الكعبة وبنائها إمتثالاً لأمر الله، رفعا أيديهما بالدُّعاء: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (البقرة/ 127).

فأنت -يا رب- دعوتني لحج بيتك، وقد لبَّيت، لكنني لا أستطيع التكهُّن كم أنّ عملي مقبول عندك؟ وكم حجّي مرضيّ لديك؟ فأنا دائماً في حضرتك وفي جنب طاعتك رهن تقصيري، فتقبّل منِّي واجبر لي نقصي يا أكرم مسؤول.


 

حكمة الحـج

خيرُ ما يُمكن إستخلاص حكمة الحج منه، أقوال العارفين بالأسرار وهُم النبي (ص) وآل بيته الأطهار (ع)، وإليك بعضاً منها:

 

1- الحج.. ينفي الفقر:

قال النبي (ص): "الحج ينفي الفقر"، وعنه (ص): "حجّوا تستغنوا".

 

2- الحج.. سببٌ لرحمة الله ومعراجٌ إلى جنّته:

يقول الإمام علي (ع): "ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم -صلوات الله عليه- إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع، ولا تُبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً (استقامة لأمرهم)، ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حَجَراً، وأقلّ نتائق (أوعية) الدنيا مدراً (طيناً)، وأضيق بطون الأودية قُطراً، بين جبال خشنة، ورمال دمثة (ناعمة)، وعيون وشلة (قليلة الماء)، وقرى منقطعة (بعيدة) لا يزكو ولا يمشي بها خف ولا حافر ولا ظلف.

ثمّ أمر آدم (ع) وولده أن يثنوا أعطافهم (يتجهوا) نحوهِ، فصار مثابةً (ملجأ) لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوى إليه ثمار الأفئدة من مفاوز (تلال رملية) قفار سحيقة (بعيدة)، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتى يهزوا مناكبهم ذللاً، يُهلِّلون لله حوله، ويرملون (يسعون) على أقدامهم شعثاً غبراً له، قد نبذوا السراويل (الثياب المخيطة) وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله الله سبباً لرحمته، ووصلة إلى جنّته.

ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنّات وأنهار وسهل وقرى، جمّ (كثير) الأشجار، داني (قريب) الثمار، ملتفّ البُنى (المباني)، متصل القرى، بين بُرّةٍ (حنطة) سمراء، وروضة خضراء، وأرياف (بساتين) محدقة، وعراص (مساحات) مغدقة، ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر الجزاء على حسب ضعف البلاء.

ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها، بين زمردة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفَّفَ ذلك مصارعة الشك في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج (مضطرب) الريب من الناس، ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بألوان المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبُّر من قلوبهم، واستكاناً للتذلُّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتحاً (مفتوحة) إلى فضله، وأسباباً ذللاً (ميسَّرة) لعفوه"!!.

 

3- الحج.. علامةٌ للتواضع:

وقال الإمام علي (ع) أيضاً: "وفرض عليكم حج بيته الحرام الذي جعله قبلة للأنام يردونه ورود الأنعام، ويألهون (يشتاقون) إليه ولوه (حنين) الحمام، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته وإذعانهم لعزّته".

 

4- الحج.. تسكينٌ للقلوب:

قال الإمام الباقر (ع): "الحج تسكين القلوب".

 

5- الحج.. إختبارٌ للطاعة:

قال الإمام الصادق (ع): "هذا بيتٌ استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وقد جعله محلّ الأنبياء، وقبلة المصلِّين له، وهو شعبةٌ من رضوانه، وطريق يؤدِّي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، ومجتمع العظمة".

 

6- الحج.. صحّةٌ وسعةٌ وصلاحٌ وكفاية:

يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع): "حجّوا واعتمروا، تصحّ أجسامكم، وتتسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتُكفوا مؤونة الناس ومؤونة عيالاتكم".

7- الحج.. وفادةٌ إلى الله تعالى:

يقول الإمام علي بن موسى الرضا (ع): "علّة الحج الوفادة إلى الله تعالى، وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف، ليكون تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل، وما فيه من استخراج الأموال، وتعب الأبدان، وحظرها عن الشهوات واللذّات، ومنفعة مَنْ في شرق الأرض وغربها، ومَنْ في البرّ والبحر، ممّن يحج وممّن لا يحج، ومَنْ تاجر، وجالب، وبائع، ومشترٍ، وكاسب، ومسكين، وقضاء حوائج أهل الأطراف والمواضع الممكن لهم الإجتماع فيها، كذلك ليشهدوا منافع لهم".

من هذه الأسرار والحكم التي تنطوي عليها فريضة الحج، يتضح أنّه اختبار لطاعة العباد في المقام الأوّل، وإذلال للجبابرة والمستكبرين والمتكبِّرين وعلامة على التذلُّل والتواضع لله سبحانه، وسبب لرحمة الله وغفرانه، وجنّته ورضوانه، وتسكين للقلوب المضطربة، والنفوس المثقلة، والأرواح المتعبة، ومع ذلك كلّه صحّةٌ للبدن، وسعة في الرِّزق، وصلاح وتقوية للدين والإيمان.

 


 

دلالات الحـج

الحج.. دلالة الزمان:

تتجلّى قيمة الزمان في الحج -في بعض ما تتجلّى به- بالقَسَم بـ (الليالي العشر) التي قيل إنّها ليالي ذي الحجة، أي الليالي الأولى منه، وفي يوم الوقوف في عرفة، ويوم الأضحى (يوم النحر) وليالي التشريق.

فهي ليالي عبادة وتقرُّب إلى الله تعالى، هي مواعيد موحّدة لإلتقاء الحُجّاج على أزمنة موحّدة أيضاً، مثلما يلتقون على أصعدة وأماكن محددة كجزء من برنامج توحيدي يحقق على صعيد المناسك والشعائر المشتركة، والأزمنة الموحَّدة، والأمكنة الحاضنة، أُمّة التوحيد في ملتقاها السنويّ بموسمها الموحَّد.

والزمان -بكلّ مفرداته- زمان الله وأحد مخلوقاته يطيعه في كلّ ما أمره، لكنه تعالى شاء لطفه أن يخصِّص أزمنة بعينها لتكون فرصاً لمزيد من التقرُّب والإقتراب منه، كما في السَّحَر والفجر وليلة الجمعة، وكما في الأشهر المعظَّمة: رجب وشعبان ورمضان، وكما في ذي الحجة، وكل يوم رفعت فيه للإسلام راية، ووقعت له فيه واقعة، فكان يوماً من أيام الله التي يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يذكِروا بها.

قال تعالى مخاطباً موسى (ع): ﴿وَذَكِّرهُم بِأَيَّامِ اللهِ﴾ (إبراهيم/ 5).

إنّ إقسام الله تعالى بمفردات ووحدات الزمن كلّه دلالة على أنّ كلّ (وحدة) زمنية هي (فسحة) و(فرصة) و(صفحة) و(مناسبة) ينبغي أن تُتحيَّنَ للتقرُّب إلى الله أكثر فأكثر في خدمة العباد وفي إعمار البلاد، وإنّ الخاص أو المخصَّص من تلك النفحات الزمانية كـ (ليلة القدر) مثلاً، هي (مُنح) و(مواهب) وقتية يضاعف اللهُ فيها الأجر والبركات، ويرفع فيها المقام والدرجات، ويغفر فيها الخطايا والسيِّئات.

وبناءً على ذلك، كان استحضار الحاج لنصيحة أو وصيّة النبي (ص) لأبي ذر الغفاري (رض) في ضرورة اغتنام فراغه قبل شغله، منبِّهاً في أهميّة اغتنام كل دقيقة، بل كل لحظة من لحظات الحج ليترك فيها (بصمة) عبودية لله تعالى.

 

الحج.. دلالة المكان:

القَسَمُ بـ (البلد) الذي هو البلد الحرام في (سورة البلد)، قسمٌ بالمكان المميّز ذي الخصوصية الفائقة، وإلا -فكما في الزمان- الأرض كلّها لله، ولكن حينما تحتشد على بقعة مخصوصة من الأرض حزمة من الأحداث الجليلة، تكتسب تلك البقعة قيمتها وشرفها وقدسيتها ومكانتها التأريخية ممّا وقع عليها من أحداث، رَحَلَ أشخاصها وبقي مسرحها شاخصاً حاكياً يحدِّث أنّ (الطاقة لا تفنى)!

فكما كانت البقعة من الوادي الأيمن من الشجرة في (سيناء) مباركةً لخطاب الله موسى (ع) بالنبوّة عندها، كانت (مكّة) البيت الحرام ومهبط الوحي، و(المدينة المنوّرة) ملتقى الأحداث الإسلامية الجسام، مباركتين، مقدّستين، لإنتساب الأولى لمقام الجلالة، وانتماء الثانية لمنوّرها النبي الأعظم (ص).

ومن هذا الإدراك الواعي لحقيقة المكان، كان (مجمع البحرين) حيث التقى موسى (ع) والخضر (ع) رمزاً لمحطة أو مدرسة ربّانية، لم يكن موسى (ع) تلميذها الوحيد، ولم يكن الخضر (ع) مُعلِّمها الأوحد، فحينما يكون ثمة معهد تعليمي وتربوي وفقهي للإسلام، فهناك (مجمع البحرين).. وبمعنى آخر، فإنّ المكان يمكن أن يتسع لأكثر من مكان، كما أنّ للزمان أن يتسع لأكثر من زمان، وكما يمكن لهما -أي للزمان والمكان- أن يتأنسنا ويتروحنا، ومن هذه اللفتة الموحية استمدّ (شوقي) قوله البليغ في عمقه وإيحائه:

قد يهونُ العمرُ إلا ساعةً           وتهونُ الأرضُ إلا موضعا

إنّ كلّ بقعةٍ في (مكّة) أو في (المدينة) وكل موطئ قدم فيهما، شاهدة على (رمز توحيديّ) من نوعٍ ما، أو على (حدث إسلامي) من جنسٍ ما، أو على (شاهد تأريخي) ذي دلالة ما، فأنّى اتّجهت قيمة مَعلَم ربّاني، وأنّى سلكت فثمة رائحة محمدية، وأنّى رميت ببصرك فأُفقٌ رحبٌ ومدىً أرحب للواء الإسلام:

أيّامَ كانَ الفتحُ ملعَبَهُ      أنّى يحطُّ جَناحَهُ المَطَرُ

وموضعُ البيت العتيق[2] في جغرافية الكون، حتى وإن تغيّر شكل بنائه من الطوب إلى حجر الجرانيت، إشارة إلى ثبات المكان بين تقلّبات الأمكنة، أي إنّ كلّ مَنْ طاف بالبيت منذ آدم (ع) وإلى آخر آدميّ يُتاح له الطواف فيه يدور حول نفس الموضع.

فأنت فيما تُنقِّل قدميك على بلاط الحرم المرمريّ، تستشعر (وحدة الوطء) لذات المكان الذي وطأته الأقدام الشريفة أقدام الأنبياء والأوصياء والأولياء والصُّلحاء، أي إنّ هناك إندغاماً بين المكان والزمان أو ما يصطلح عليه بـ (الزمكان)، ومن دار فانية محفوفة بالمكاره إلى دار خالدة جامعة للسعادات، يتحقق بملامسة الأقدام بعضها بعضاً، وتعبير الملامسة هنا ليس أدبياً أو خيالياً، وإنّما هو ترجمة لإندغام الزخم الزمني على البقعة الواحدة الموحِّدة، ولو تواعدنا لاختلفنا في الميعاد.

إنّ دعاءك وأنت تُثبِّت قدميك عند الوضوء "أللهمّ ثَبِّت قدمي على الصراط يوم تزلّ الأقدام، واجعل سعيي فيما يرضيك عنِّي يا ذا الجلال والإكرام" يُستجاب هناك، إذ يندمج السعيان: سعيك وسعي كل هذه السلسلة التأريخية المباركة والمواكب السعيدة، فأنت -بين الصفا والمروة- لا تستذكر أو تستحضر (هاجر) (ع) فقط، بل كل الذين سعوا منذ أوّل (ساعٍ) وأوّل (سعي) وأوّل (مسعى).. حاملاً (خوفكَ) و(رجاءَك)، مهرولاً من (قضاء) الله إلى (قدره).. ومن (فقرك) إلى (رحمته).. ومن (ضيقك) إلى (سعته).

ولن تتخلّف حركتك على ربى عرفات عن هذا المدار، فأنت تقف لا مع جحافل الحجيج في موسمك فقط، بل تتلاقى كلُّ المواسم في ذلك الموقف لتنبعث شحنة روحانية تختزل الزمن كلّه على الرقعة التي وقف عليها جميع الموحّدين، وربما لا نغالي إذا قلنا إنّ للمكان (ذاكرة) و(أرشيفاً) و(حافظة) و(محفظة) تُحفَظ فيها الصورُ والأسماءُ والمواقف، وإلا كيف يبكي المكانُ الذي يفتقدُ مؤمناً عَبدَ الله عليه؟ وإلا كيف تشهدُ الأماكنُ لمن اتخذها مسجداً؟ وإلا كيف تشهد البقعُ على ما جرى عليها؟ وإلا كيف تُسبِّحُ الأمكنةُ وتؤوّب مع المسبِّحين والأوّابين؟

إنّنا نحنُ وليس (عرفات) مَنْ لا يفهم لغة المكان، فعرفات عارفة مَنْ هي ومَنْ عليها، ولماذا شرَّفها الله، وإنّ ذاكرتها لحيّة حتى لو أنّ الله أمكنها من النطق لحدّثتنا عن خزينها التأريخي الحافل ومواسمها (الثريّة) التي تتعالى عن (الثرى) لتصل بمن يشاء إلى (الثريا).

 

الحج.. ساحة محشر مُصغَّرة:

﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ (هود/ 103).

وفي (عرفة) حيث يقف الناس على الثرى الطاهر وقفتهم الواحدة الموحّدة، يمكن أن ترسم في ذهنك صورة لمحشر مصغّر، وأن تحقِّق إستدعاءً إختزالياً لمشهد ساحة المحشر، فالحجيجُ في نفيرهم وأكفانهم (ثوبي الإحرام) وفي شعث شعورهم، وإقبالهم على الله، وفيما تطفح به جوانحهم بالرحمة الواسعة والمغفرة الشاملة، تراهم كما هم وقد دعا الداعي ونادى المنادي ونفخ النافخ في الصور أن قوموا يا أهل القبور.. يومها لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه.

فهل يمكن أن تفسح لخيالك أو ترهفه ليرى في (عرفة) ساحة المحشر، وأنّ (الموقف) هناك كـ(الموقف) في الآخرة، وأنّك أتيت ربّك حاملاً ثقلك على ظهرك مستجيراً برحمته طامعاً بغفرانه؟!

وطالما أنّ الموقف في عرفة ليس موقف عبادة مخصوصة، لك أن تستحضر المحشر: في صراطه، وميزانه، وحسابه، وجوعه وعطشه وأهوال مواقفه. ألا يستحق ذلك أن تسترق من زمن الوقوف في عرفة وقتاً لـ(تلتقي) فيه بالله تعالى تبثه همومك وأحزانك كلّها متوسلاً ضارعاً باكياً بين يديه؟

أيُّها القادمُ من فج عميق: إنّ أكداس الأخطاء والخطايا التي ارتكبت فيما مضى من أعمارنا ليس لها من (ممحاة) سوى الدموع المتدفقة من قلبٍ فاض خشية وحبّاً لله، فسال على الوجنتين حبات ساحنة من صدق وصفاء، لتأتي العينان يوم الفزع الأكبر قريرتين.

في الحديث: "كلّ عين يوم القيامة باكية، إلا عين فاضت من خشية الله في جوف الليل".

 

 

الحج.. إسراءُ الحاج ومعراجه:

كان الإسراءُ النبويّ حركة في المكان من (مكّة) إلى (بيت المقدس).. وكان المعراج حركة في المكان من (قبة الصخرة) إلى (السماوات العُلى).. وكان الإسراء والمعراج حركة مكثفة للزمان المضغوط في ظرف ليلة واحدة.

هنا.. في الأرض التي انطلقت منها حركة الإسراء يمكن أن تعيش إسراءك الذاتيّ، فأنت القادمُ من أقاصي الأرض للقاء الله، المهاجر من بيتك إلى بيته المتنعِّم بوفادته وضيافته، أسريت بروحك وبدنك وكلّ مشاعرك وكل تاريخك تاركاً ديار الصبا والأهل والأحبّة، مخلِّفاً وراءك موطن الذكريات، قاصداً البيت المعمور، لم يكن إسراؤك هذا حركة في المكان وحسب، وليس انتقالة مكانية من (موطن الإقامة) إلى (محلّ الضيافة).. هو هجرة إلى الله، فكأنّك تُردِّد مع إبراهيم (ع): ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (العنكبوت/ 26).

والهجرة إلى الله -وإن اتخذت المكان صفة للمسرى بترك وطن والحلول في آخر- لكنها هجرة أوسع في الآفاق والمديات من طيّ أرضٍ وسماء.. هي (عودة) إلى الله، و(هجران) للسيِّئات، ونبذ للشياطين والطغاة، وخلع للنزوات والشهوات، ولقاءٌ بكل الصالحين الذين حملوا مثلك نيّة التقرُّب إلى الله بما يقربُ -مع الفارق بالقياس- من لقاء النبي (ص) بأنبياء الله في مشهد صلاتيّ نبويّ جامع خاشع رائع!

والحجُّ.. معراجك أيضاً.. فحيثما حطَّ بك الرحالُ فأنت على (جناح) الرحمة يقلّك في سير وصعود تكاملي، منذ أن تخلع ثوب الدنيا لتلبس ثوب الآخرة محرِّماً على نفسك ما حرَّمه الله عليك (ملبِّياً) لندائه.. وإذ تهتف: "لبّيك ذا المعارج لبّيك" تسمو بمشاعرك الهاتفة إلى مراقي القرب وإلى حيث تريد أنت لا حيث يأخذك المكان.

وأراك وقد وطأت قدماك حرم البيت الحرام (بيت الضيافة الربّانية) الذي لا تنفد موائده، تعرج إلى مقام التكريم وإن كانت قدماك ما تزالان تلامسان بلاط الحرم، فإذا شرعت بالطواف فعندها يمكن أن تلغي حواجز الزمان والمكان، إذا تحررت من (أناك) الصغيرة لتندك في الملأ الأعلى رافعاً صوت العبودية بأعلى طبقاته: "إلهي كفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، وكفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب"، مسلماً قيادك إليه.

إنّ واحدة من غايات الإسراء والمعراج هي كسر الحدود والحجب وتحطيم الزمن الرتيب، والإمام علي بن الحسين (ع) يُقدِّم لنا معراجنا بقوله: "إنّ الراحل إليك قريب المسافة"، فإذا كانت صلاتي معراجاً تحرُّرياً وإنعتاقياً لا يُحرِّرني من جغرافيتي الضيقة فقط وإنما من إطار أنانيتي الضيق أيضاً، فإنّ طوافي وسعيي وأضحيتي ووقوفي يمكن أن تكون معراجاً يُحرِّرني من أناي لأكون إنسان الله وعبده وعامله وجنديه وخادمه.

 

الحج.. تلازم المادّي والمعنوي[3]:

لو تأمَّلتَ -يا ضيف الله- في كلّ منسك من مناسكك، وكلّ موقف من مواقف حجّك -جعله الله مبروراً- لرأيت أنّ ثمة تلازماً بين ما هو مادّي في الحج وما هو معنوي، وبين ما هو حسِّي وما هو روحي، وإذا لم يتأكّد لك ذلك بعد، فأصحبنا في هذه الجولة الميدانية:

- عند لبس ثوبي الإحرام، يستحب لك أن تدعو بالقول: "الحمدُ لله الذي رزقني ما أواري به عورتي وأؤدِّي به فرضي، وأعبد فيه ربِّي، وأنتهي فيه إلى ما أمرني".

(المادّي) هنا ثوب الإحرام.. و(المعنوي) أداء الفرائض والعبادة والإنتهاء إلى ما أمر الله.

- وعند الغسل، يستحب لك أن تقول: "بسم الله وبالله أللهمّ اجعله لي نوراً وطهوراً وحرزاً وأمناً من كلّ خوف، وسقاءً من كلّ داء، أللهمّ طهِّرني وطهِّر قلبي واشرح لي صدري وأجرِ على لساني محبّتك ومدحتك والثناء عليك فإنّه لا قوّة لي إلا بك، وقد علمت أنّ قوام ديني التسليم لك، والإتّباع لسنّة نبيّك (ص)".

فها أنت تربط بـ (المادّي)، وهو الغسل، كلّ (معنوي) من تطهير القلب وشرح الصدر وجريان المحبّة على اللسان.

- وعند دخولك المسجد الحرام، تقول: "أللهمّ إنِّي أسألك في مقامي هذا في أوّل مناسكي أن تقبل توبتي وأن تتجاوز عن خطيئتي، وتضع عنِّي وزري".

فتوجّهك إلى الكعبة، حركة مادّية لكنك تنطلق منها إلى طلب التوبة والتجاوز عن خطاياك ووضع أوزارك، وكلّ ذلك معنويّ.

- وحينما تطوف وتصل إلى الحجر الأسود (وهو مادّي)، تخاطب الله وتقول: "أللهمّ أمانتي أدَّيتها، وميثاقي تعاهدته فاشهد لي بالموافاة"، والأمانة والميثاق معنويان، فانظر كيف اقترن المعنوي بالمادّي.

- وعندما تشرب من ماء زمزم، يستحب لك أن تقول: "أللهمّ اجعله علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء وسقم".

والماء -كما هو معلوم- مادّة، فما هو الرابط بين الماء وبين العلم النافع والرِّزق الواسع والشفاء من كل داء، فإذا عرفنا أنّ ماء زمزم لما شرب منه، أي للغرض الذي يراد من وراء شربه، زال العجب.

- فإذا وقفت على (الصفا) وهو مرتفع صخري، تقول: "أللهمّ اغفر لي كلَّ ذنب أذنبته قط، فإذا عدت فعد عليَّ بالمغفرة، فإنّك أنت الغفور الرحيم، أللهمّ افعل بي ما أنت أهله، فإنّك إن تفعل بي ما أنت أهله ترحمني".

فالوقوف ليس مجرّد (وقوف) مادّي مكانيّ، وإنّما هو (وقفة) مع الذات المعترفة، والمسترحمة، والمستعطفة.

وهكذا بما لا مجال للإستطالة فيه، فحسبك هذا دليلاً وأنموذجاً، ولكي تعيش حالة الإرتباط بين المَنسك ومعناه، تذكّر أنّ لكل مادّي وقفة كان أو حركة أو لمساً أو رجماً أو ذبحاً أو حلقاً، ما وراءه من المعنويات.

 

الحج.. دورة رياضيّة في التواضع:

لو لم يكن في الحج إلا تمرينك على التواضع لاستحقّ أن تقطع من أجله المسافات، كيف لا ومَنْ تواضع لله رفعه؟!

إنّ التواضع أحد أهم رياضات الحج، ولذلك تراه ملحوظاً أو حاضراً في رحلة الحج كلّها.. إنّه أفضل حالة صقل للذات المتضخِّمة.

ففي خلعك لزينة اللباس وملحقاته، والإكتفاء بثوبي الإحرام الشبيهين بثوبي الكفن، ورضوخك أو قبولك لـ (الزي الموحَّد) الذي كنت لا تقربه وأنت تتجوّل في سوق البزّازين لإنتقاء القماش المميَّز واللون المتفرِّد والتصميم المختلف لتظهر أمام الناس كشخص مختلف، درس أوّل للتواضع بين يدي المعلِّم الكبير (الحج)..

في محفل الحج الجميع سواسية.. هاهنا يُلغى الإختلاف ويسود الإئتلاف بين المئات الغفيرة والآلاف.. فأنت في الحج أحد عباد الله ولست المميَّز ببذلَتك وطاقمك الفاخر.. وأنتِ -يا ضيفة الله- بثيابك العادية لستِ في حفلةٍ لعرض الأزياء.

وإذا جئتَ لتطوف انخرطت بين الجموع والصفوف بين عامّة الناس وسادتهم، وحاكمهم ومحكومهم، وكبيرهم وصغيرهم، وقويهم وضعيفهم.. لا تنتظر حتى يصفو لك الجو، ويفرغ لك الطواف، أو ينفرج الناس لك سماطين لتطوف بإرتياح.. أنت واحد من هذه الجموع شأنك شأنهم.. فرد في هذا التيار أو الفلك الدائر، لقد خلعت عناوينك لتكون (ضيف الله) فقط، ومن أدب الضيافة الإلهيّة أن تتواضع وتتخشّع بين يدي مضيّفك.. تحرَّر من عقدة (الفوق الإستعلائية) واخفض جناح الذلّ.

وإذا انفتلت إلى الصلاة خلف المقام، فقد يؤذي جانبك الزحام، ولكنك لستَ أفضلَ من هذا الذي يقف يُصلِّي إلى جانبك الأيمن أو الأيسر ولا الذي أمامك أو خلفك، فلا تتأفَّف وتذكَّر ساحة المحشر حيث ترتطم الأجساد ببعضها البعض وتتماوجُ تماوجَ أمواج البحر.

وإذا هرولتَ بين الصفا والمروة، فانس شيئاً إسمه (الوقار) فالذلّةُ بين يدي الله هي الوقار.. وإذا وجدت أيّة صعوبة في التغلُّب على ذاتك المتكبِّرة، فاعرف أنّ وقارك الموهوم وكبرياءك المزعوم لم يُخلعا بعد، فانزعهما وطأ عليهما برجليك وأنت تهرول.. ومن حُسن حظّك أنّك لست الوحيد الذي يصنع ذلك.. هناك مجتمع من المتواضعين.. فتعلَّم التواضع ممّن حولك إذا لم يداخلك بعد.

وإذا ضاق بك المكان في (عرفة) ولم تجد مَنْ يُوسِّع ويفسح لك كما يوسَّع ويفسح لمركبتك وهي تخترق شوارع المحلّة أو حيث تعرف فتهاب، فلا تحجز خيمة منفردة، أو كأنك تحجز جناحاً في فندق، وكأنّك تريد أن تنقل معك أجواء ناديك البيتي إلى هنا.. كُنْ كأحدهم!

وإذا بتّ في العراء في (مزدلفة) بعيداً عن غرفتك المكيّفة وسريرك الوثير ووسادتك الناعمة، وعن الضوضاء والضجيج، فقل: يا نفسُ ذقتِ ذاك طويلاً فتذوّقي هذا لتتوازني ولا تتكبّري، وعيشي ولو لليلة واحدة ما يعيشه المحرومون، عساك أن تتفقّدي شؤونهم عندما تعودين، أو عساك تشكرين ما أنت فيه من نعمة.

وإذا انحنيت تجمع الحصى كأنّك طفل يلعب بالتراب، أو عندما ترجمها في منظر قد يبدو لهو أطفال فهو غير لائق بمقامك أو هيبتك أو شخصيتك أو عنوانك، فاكسر ذلك الشعور بأن تمارسَ إلتقاط الحصى ورميها بكل شغف واهتمام.. انسَ أوارمِ خلفكَ ذاك الذي كان يطلب من مستخدمه أو أحد أولاده القيام بالأعمال الصغيرة لأنّها لا تناسب ولا تليق بمنزلته.

وإذا حدّثتك نفسك -عند الحلق- إنّ الشعر تاج جمالك فكيف تحلقه؟ فقل لها: أن أخلع تاجي بنفسي طائعاً مختاراً خيرٌ لي من أن يخلع وأنا مكرَه، وإنّ قيمة الإنسان (بشعوره) لا (بشَعره)، وبما في داخل رأسه لا بما على رأسه.

وإذا حاججك شخص فلا تأخذك العزّة بالإنتصار للرأي فتجادله بالقسم المغلظ لإثبات أنّك على صواب، وأنّك لا يمكن أن تُخطئ أو فوق أن تخطئ.. سامح.. واغضض.. وتنازل.. واعترف ولا تكابر.. فأنت في دورة رياضية ومقدّمة لحياة جديدة عنوانها: (التواضع).

 

الحج.. وأسنانُ المشط:

يُولد أحدنا فيلفُّ بـ(خِرق القوابلِ) كما يوصف في بعض الأدبيات، فـ (اللفّة) هي أوّل ملابس الطفل، وما من طفل إلا وقد لُفّ بثوبٍ أبيضٍ وقماط، أي إنّنا عند البدء متساوون من حيث المظهر والهيأة العامّة، وبياض اللفّةِ ينسجم -إلى حدٍّ كبير- مع بياض فطرتنا ونقاء سريرتنا.

وفي الحج نخلعُ ما اعتدنا عليه من ألبسة الدُّنيا وزينتها وما نختارُه من أزياء لنرتدي ثوبي الإحرام الأبيضين وكأنّنا نعود إلى (أيّام اللفّة) وبدايات الصفاء وبواكير الفطرة النقيّة، وعندما ترمي بطرفك في بحر الحجيج الهادر لا ترى إلا أمواجاً من بياض مُتدفِّق يوحي أو يرمز إلى محاولة العودة إلى مرحلة ما قبل (التلوُّث).

وعندما يُسجّى أحدنا على دكّة المُغتَسل ويفرغ غاسله من تغسيله يُلفُّ بقطع الكفن البيضاء، لتكون نهايته لفّةً بيضاء، كما كانت بدايته لفّة بيضاء، والبياض هنا لا يرمز إلى حالة الصفاء فقط، بل إلى حالة (الصغريّة) التي يكون عليها الطفل عند ولادته، حيث لا يملك بعدُ من دنياه شيئاً، والتي يكون عليها الميت حيث لم يعد يملك من دنياهُ شيئاً.

بين اللفّتين.. بين لفّة الطفل الرضيع ولفّة الميت المسجّى سلسلة من التلوّثات.. يأتي الحج ليقطعها.. يدخل كحاجز يفصل بين تلوّث ما بعد الطفولة وبين حماية مرحلة ما بعد الحج، ونقطة السيطرة التي يرتفع فيها الحاجز لدخول عالم النقاء من جديد هي أثواب الحج البيضاء.

ذات يوم وقف النبي (ص) ليخاطب كلَّ مَنْ يبلغه خطابُه وليس المستمعين له في ذلك الحين فقط، قال: "الناسُ سواسيةٌ كأسنان المشط، ولا فضل لعربي على أعجميّ ولا لأعجميّ على عربيّ إلا بالتقوى"، وكان بذلك يترجم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات/ 13).

والإسلامُ لا يرفعُ الشعار ويتركه من دون تطبيق وإلا كان شأنه شأن كل الشعاراتيين الذين قد يحسنون القول لكنهم قد يسيئون الفعل، فكان من ممارساته العمليّة الموفّقة هذا البرنامج الوجوديّ الشامل الذي يتساوى فيه أبناء آدم في آدميتهم حينما يقفون بين يدي الحج متساوين كيوم ولدوا، أو كيوم يموتون.

والمساواة في الحج ليست في المظهر (الثياب البيضاء) فقط.. هي في (العمل) أيضاً، فالكل يلبّون، والكل يطوفون، والكل يسعون، والكل يقفون المواقف ذاتها، والكل يرجمون، والكل يضحّون، والكل يحلقون.

حتى في يوم العيد، أو ما يُسمّى بـ (يوم الزينة)، ترى المسلمين في بلدانهم يخرجون بلباسهم الجديد، وترى الحجيج يخرجون بثياب إحرامهم البيضاء. فهذا أوّل عيد يخرج فيه المسلمون بلباس واحد لا يمتاز فيه غنيّهم عن فقيرهم، فالعيدُ في (منى) عيد المساواة الحقيقيّة.. لا يخجل فيه مسلم يرتدي لباساً متواضعاً من مسلم يرتدي لباساً فاخراً، بل لعلّهم وهم يتصافحون ويتعانقون لا يلتفت أحدهم إلى ما يلبسه الآخر.. لأنّ النظر في ذلك اليوم نظر الصفحة التي نفضت تلوّثها وإلى الصفحة التي محت سطورها السوداء.

فبوركَ الحجُ من موسم للمساواة، وتباركَ الربُّ العظيم من (معلِّم) و(مربٍّ) و(مهذِّب) ومن مسوٍّ للناس -بلطف عنايته- كأسنان المشط، ولو ترك لهم العنان، أو الحبل على الغارب، لكانوا أشبه بالأدغال لا تنمو إلا عشوائياً، ولا همّ لها إلا أن يتطاول بعضها على أعناق بعض.

 

الحج.. فرصة التوبة الذهبيّة:

يُحقِّق الحج بإعتباره وفادة على الله الكريم في موسم الضيافة الرحمانية، حالة خصبة من الإستعداد الكامل لإعلان التوبة والإقلاع عن المعاصي، ويوفِّر فرصة ذهبية لكي يتوب ضيف الله إلى الله متاباً (توبة نصوحاً).

صحيح أنّ مَنْ حجَّ بنيّة مخلصة قاصداً القربة إلى الله تعالى يغفر الله له ذنوبه كلّها جميعاً حتى يعود كيوم ولدته أُمّه، لكن مطر الرحمة (شآبيبها) تحتاج من تربة الروح أن تفتح مساماتها لإمتصاص فيضها، وإلا فقد ينزل المطر فيرتطم بصخرة صلدة أو أرض سبخة، فإلى أين يذهب الماء؟!

إعلانُ التوبةِ.. أشبه بإعلان (الإعتزال) في دنيا اللاعبين، أي لا عودة للملعب بعدها.. هي آخر مباراة لعبها المعتزل وأنهى حياة اللعب إلى غير رجعة.. والتائب معتزل من دنياه اللاهية العابثة الضائعة المضيَّعة..

وقد يلعب المعتزل -بعد إعتزاله- لكن لا على نحو (الإحتراف).. فلقد أغلق ملفّ الإحتراف في قرار الإعتزال نهائياً.. وقد يعود التائب إلى بعض مخالفاته.. لكن قرار الإعتزال على (ساحة الموسم) قد يذكِّره بما عاهد اللهَ عليه، وبما يجب أن يبقى عالقاً حاضراً شاخصاً في ذاكرته حتى يوارى الثرى.

ولو أنّنا أردنا تقريب إنعكاس عملية التوبة على الروح من خلال مفاهيم علم التغذية، لرأينا أنّ في عملية بناء الجسم يُستعاض عن كلّ ما يتم استهلاكه بما يفد إليه من مواد جديدة، وتُسمّى هذه العملية بـ (الإستقلاب).

وبعد إعلان التوبة والإلتزام بجميع شرائطها: (ندم + عزم على ترك العودة + أداء حقوق الناس + أداء الفرائض المضيّعة + إذابة اللحم الذي نبت على المعصية بالأحزان + إذاقة الجسم ألم الطاعة).. بعد هذه السلسلة من التفاعلات، يبدأ جسم الإنسان التائب يتناغم مع روحه، فينساب في مجرى هذا التحوّل المنقِّي، فينصهر ما تَكَوَّنَ في جسمه بما وفد إليه عن طريق غير شرعي، ويحلّ محلّه ما يرد عن طريق شرعيّ[4].

ومن أجل أن تؤتي التوبة أُكلها كلّ حين، تحتاج إلى إستدامة.. باللجوء الدائم إلى الربّ العاصم، ربّ الرُّوح والرَّحمة والمغفرة، وإلى (تصفية حساب) و(براءة ذمّة) مع الذين لهم بذمّتنا شيء مادّياً كان أم معنوياً.


     


 

من فوائد الحـج

تمتاز مناسك الحج بعدّة أبعاد مهمّة، منها:

 

1- البُعد الأخلاقي:

فالحج -إن كان داعياً وملبّياً لشروطه- يُغيِّر الأخلاق نحو الأحسن، حيث يصرف الحاج عن الأُمور المادّية والإعتبارات الظاهرية، والألبسة الفاخرة، والأزياء المميّزة، ويبعده عن الملذّات الهابطة والأُمور التَرَفيّةِ التي اعتاد عليها قبل حجّه.

فالحاج في رحلة الحج الميمونة -كأولئك الذين يدخلون في دورة رشاقة لتخفيف الوزن- يدخل أحدهم المباراة وهو مثقل بأكداس اللحوم والشحوم والسموم والهموم، ويخرج منها إنساناً آخر.. إنّه -أي الحاج- يقوم ببناء ذاته من جديد فيسلخها عن بعض عاداتها ومشتهياتها وطقوسها، في عملية صوم يمارسها من خلال طقوس الحج ومناسكه، خصوصاً أثناء الإحرام الذي ينتزعه من ظلمات المادّة إلى نور الرُّوح.

فكلّ حاج يأتي إلى هنا يحمل في قرارة نفسه مشروع التوبة الكلِّية، وغسل أدران الماضي، وتنقية صحيفة الأعمال ممّا علق بها من سوادِ الآثام والذنوب والتقصيرات، ليحوِّله من (بذرة صالحة) إلى (شجرة طيِّبة).. أي إنّه -الحج- يضعك على سكة الصلاح.. وأمّا الخطوات اللاحقة في النمو والإنبات، فمسؤوليتك أنت.. تماماً كمحلات الغسل والتشحيم (التزييت).. التي تجعل الحركة سلسلة وإنسيابية بعدما تتكلس عجلات حركة الحياة ولا تعود تتحرّك إلا بصعوبة.

 

2- البُعد الثقافي:

في كلّ خطوة تخطوها، في أروقة ومنعطفات الديار المقدّسة سواء في مكّة وتوابعها أو في المدينة المنوّرة وضواحيها، تلتقي بأكثر من مسرح ثقافي ابتداءً من رحلة إبراهيم (ع) محطِّم الأصنام، وإسكان إسماعيل (ذبيح الله)، وأُمّه المسلمة أمرها إلى الله في الوادي غير ذي الزرع عند بيته المحرَّم، وما يتنافح من دروس الصبر والتحمّل والجهاد والتضحية والإندكاك التام في خط الله، إلى حركة النبي الأكرم (ص) في مكّة وليداً، وشاباً عفيفاً، وتاجراً صدوقاً، وراعياً للأغنام أميناً، وواضعاً للحجر الأسود عند إعادة بناء الكعبة وفضّ النزاع القرشيّ في أيّهم يحظى بشرف وضعه، وفي إطاحته بأصنام قريش، وإصداره العفو العام في يوم الفتح، وثباته في المشاهد كلّها: بدرٍ وأُحُدٍ والأحزاب وخيبر وحنينٍ وغيرهنّ، كلّ ذلك في عَرضٍ زمني حافل بالتشويق والإثارة، ومشاهد حيّة كأنّها تتحرّك أمامك، أو كأنّها انسلخت من مدارها الزمني لتدور في مدار موسمك الذي أنت فيه.

والثقافة في الحج حركيّة متحرِّكة، تنقلك إلى حيث أجواء المناضرات الفكرية والمعرفية التي كانت تدور ربما في نفس المكان الذي تجلس فيه أنت الآن، الأمر الذي لا يحصر الموسم بأطره العبادية، بل يفتحه على فضاءاته الثقافية التي تشمل مطارحات في العقيدة والشريعة والمفاهيم والسلوك، ولا تتحجّم في الممنوعات، فالحرِّيّة في السؤال والإعتراض والمناقشة بلا حدود.

هذا ما كان من حديث الأمس.. أمّا حديث اليوم، ففرص اللقاء بقادة الفكر الإسلامي ورموز الدين الشاخصة، ومنارات الثفافة والمعرفة، متاحة في كل مكان داخل الحرمين الشريفين وخارجهما.. وكما يتاح لك أن تتزوّد من أجواء الموسم العاطرة، لك أن تتزوّد من منتدياته الفكرية العامرة.

 

3- البُعد السياسي:

على الرغم من محاولات البعض لفصل الدين عن السياسة وهذا عن ذاك، واعتبار المداولة السياسية، وتطارح هموم الأُمّة ومعاناتها الداخلية والخارجية أمراً مُخلاً بسلامة الحج وإنسيابية أداء مناسكه، إلا أنّ مَعلماً بارزاً من معالم الحج هو فرصة إلتقاء المسلمين -في هذا المؤتمر الفريد- للتعارف لا الإنساني أو الإجتماعي فقط، بل الذي يمتد ليشمل معاناة الشعوب وما تطمح أو تتطلّع إليه من حرِّيّة فكرية وسياسية ليتمكّن أبناؤها الأبرار من إدارة شؤونها وحل مشكلاتها، وتدارس سبل إمكانية النهوض بها أُسوة بالدول الراقية والأُمم المتطوّرة.

والسياسةُ في الحج أوسع نطاقاً وأرحب أُفقاً من مجرّد تبادل أخبار وتداول معلومات سياسية، هي هم واهتمام في كيفية الدفاع عن حقوق المسلمين في بلدانهم، وهي تطارح للآراء في كيفية تجاوز الأزمات الخانقة والأساليب التقليدية البائدة، زد على ذلك ما تُحقِّقه (شعائر) الحج من (مشاعر) الوحدة والتضامن والإرتقاء بمستوى الوعي والمسؤولية لكسر التقوقع الفطري والتخلُّص من سياسة الإستبداد المفروضة على شعوب يُعلِّمها دينها كيف تكون الحرّة الكريمة العزيزة المالكة لقراراتها ومقدّراتها وتطلّعاتها، وإنّ هذا الإحتشاد المليوني لو وعى مهمّاته الإدارية والتربوية والسياسية والنضالية والثقافية لفهم ما كان الإمام علي (ع) يرمي إليه بقوله: "الحج تقوية للدين"[5].

يقول أحد السياسيين الغربيين: "الويلُ للمسلمين إذا لم يعرفوا معنى الحج، والويل لأعدائهم إذا أدرك المسلمون معنى الحج"!!

 

4- البُعد الإقتصادي:

كيف يمكن للحج أن يُسهم في تقوية أُسس ودعم وتطوير وتنمية الإقتصاد الإسلامي، وإنقاذه من التبعيات المذلّة، والأزمات القاتلة، والإستهلاكية المقيتة؟

نحن نعلم أنّ موارد بلاد المسلمين وفيرة، وخيراتها -بفضل الله- كثيرة، ولكن القائمين عليها غير مؤتمنين، إذ رهنوا اقتصادها بعملية الإقتصاد الأجنبي، فإذا عصفت بالبنوك الربوية والإحتكارات الجشعة أزمة خانقة -كالتي يمر بها العالم اليوم- ضربت موجاتها لا سواحل اقتصادنا بل في العمق منه، وليست الصورة سوداوية بالمطلق، فلقد نجحت شركات ومؤسسات وهيئات إسلامية كانت تراعي التوازن في سياساتها الإقتصادية، ورأينا كيف أنّ المسلمين في بعض بلدان الغرب كانوا يشكِّلون (لوبي) إقتصادي استطاع أن يدوِّر المال بين أبنائه فلم تتأثّر أسواقهم تأثّراً كبيراً بما جرى.

ومن اللافت أنّ المشرِّع الإسلامي لم يمنع الحاج من ممارسة تجارته بعد أن ينهي مناسكه، كما لم يوقف عجلة الإقتصاد في يوم الجمعة إلا بمقدار التفرُّغ لأداء الفريضة الجامعة التي لها مردودات ربحيّة أكبر من مقدار ما يخسره التاجرُ في بيعه وشرائه.. ففي وقت مبكر، قال الإمام جعفر الصادق (ع) مشيراً إلى أهميّة البُعد الإقتصادي للحج: "ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد"، مستلهماً ذلك من شهود أو شهادة النافع في قول الحق سبحانه: (ليشهدوا منافع لهم) ممّا فسَّره المفسِّرون على أنّ من بينها المنافع المادّية والتجارية والإقتصادية، ويقول (ع): "فإذا أحلَّ الرجلُ من إحرامه وقضى، فليشترِ وليبيع في الموسم".

إنّها سوق تجارية حُرّة بقدر ما يتسع له صدر الموسم من صفقات بيع وشراء وتبادل تجاري ووضع الحجر الأساس لمشاريع إقتصادية مستقبلية.

 

 

- رمزيّة الحج من خلال وثيقتين:

الوثيقة الأولى: حواريّة الإمام زين العابدين (ع) مع صاحبه (الشبليّ):

-         "نصّ الوثيقة":

رُوِي عن الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) (ع) أنّه لمّا رجع من الحج استقبله أحد الحُجّاج واسمه (الشبلي)، فقال له الإمام (ع): "حججت يا شبلي؟

قال: نعم يابن رسول الله.

فقال (ع): أنَزلت الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب واغتسلت؟

قال: نعم.

قال (ع): فحين نزلت الميقات نويت أنّك خلعت ثياب المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟

قال: لا.

قال (ع): فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك نويت أنّك تجرّدت عن الرِّياء والنِّفاق والدخول في الشبهات؟

قال: لا.

قال (ع): فحين غسلت نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟

قال: لا.

قال (ع): فما نزلت الميقات، ولا تجرّدت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت!!

ثمّ قال (ع): حين تنظّفت، وأحرمت، وعقدت الحج، نويت أنّك تنظف بنور التوبة الخالصة لله تعالى؟

قال: لا.

قال (ع): فحين أحرمت نويت أنّك حرَّمت على نفسك كلَّ محرم حرَّمه الله عزّوجل؟

قال: لا.

قال (ع): فحين عقدت الحج نويت أنّك قد حللت كلَّ عَقدٍ لغير الله؟

قال: لا.

قال (ع): ما تنظّفت، ولا أحرمت، ولا عقدت الحج!!

ثمّ قال (ع) له: أدخلتَ الميقات وصلّيت ركعتي الإحرام ولبَّيت؟

قال: نعم.

قال (ع): فحين دخلتَ الميقات نويت أنّك بنيّة الزيارة؟

قال: لا.

قال (ع): فحين صلّيت الركعتين نويت أنّك تقرَّبت إلى الله بخير الأعمال الصلاة وأكبر حسنات العباد؟

قال: لا.

قال له (ع): ما دخلتَ الميقات، ولا لبّيت!!

ثمّ قال (ع) له: دخلتَ الحرم، ورأيتَ الكعبة وصلّيت؟

قال: نعم.

قال (ع): فحين دخلت الحرم نويت أنّك حرّمتَ على نفسك كلَّ غيبة تستغيبها المسلمين من أهل ملّة الإسلام؟

قال: لا.

قال (ع): فحين وصلت مكّة نويت بقلبك أنّك قصدتَ الله؟

قال: لا.

قال (ع): فما دخلت الحرم، ولا رأيت الكعبة، ولا صلّيت!!

ثمّ قال (ع): طفت بالبيت، ومسست الأركان وسعيت؟

قال: نعم.

قال (ع): فحين سعيت نويت أنّك هربتَ إلى الله، وعرف ذلك منك علاّم الغيوب؟

قال: لا.

قال (ع): فما طفت بالبيت، ولا مسست الأركان، ولا سعيت!!

ثمّ قال (ع) له: صافحت الحجر، ووقفت بمقام إبراهيم (ع)، وصلّيت به ركعتين؟

قال: نعم.

فصاح (ع) صيحة كاد يفارق الدُّنيا بها، ثمّ قال: آه، آه، وقال: مَنْ صافح الحجر الأسود فقد صافح الله تعالى، فانظر يا مسكين ولا تُضيِّع أجر ما عُظِّمت حرمتُه، وتنقض المصافحة بالمخالفة وقبض الحرام، نظير أهل الآثام.

ثمّ قال (ع): نويت حين وقفت عند مقام إبراهيم أنّك وقفتَ على كلّ طاعة وتخلّفتَ عن كلّ معصية؟

قال: لا.

قال (ع): فحين صلّيت ركعتين نويت أنّك بصلاة إبراهيم (ع)، وأرغمت بصوتك أنف الشيطان؟

قال: لا.

قال (ع): فما صافحت الحجر الأسود، ولا وقفت عند المقام، ولا صلّيت فيه الركعتين!!

ثمّ قال له: أأشرفت على بئر زمزم، وشربت من مائها؟

قال: نعم.

قال (ع): نويت أنّك أشرفت على الطاعة، وغضضت طرفك عن المعصية؟

قال: لا.

قال (ع): فما أشرفت عليها، ولا شربت من مائها!!

قال (ع): أسعيت بين الصفا والمروة، ومشيت وتردّدت بينهما؟

قال: نعم.

قال (ع): نويت أنّك بين الرجاء والخوف؟

قال: لا.

قال (ع): فما سعيت، ولا مشيت، ولا تردَّدت بين الصفا والمروة!!

ثمّ قال (ع): خرجتَ إلى منى؟

قال: نعم.

قال (ع): نويت أنّك أمنتَ الناسَ من لسانك وقلبك ويدك؟

قال: لا.

قال (ع): فما خرجت إلى منى!!

ثمّ قال له: أوَقفتَ الوقفة بعرفة، وطلعتَ جبل الرحمة، وعرفت وادي نمرة، ودعوت الله سبحانه عند الميل والجمرات؟

قال: نعم.

قال (ع): هل عرفت بموقفك بعرفة معرفة الله سبحانه، أمر المعارف والعلوم، وعرفت قبض الله على صحيفتك، واطّلاعه على سريرتك وقلبك؟

قال: لا.

قال (ع): نويتَ بطلوعك جبل الرحمة أنّ الله يرحم كلّ مؤمن ومؤمنة، ويتولّى كلّ مسلم ومسلمة؟

قال: لا.

قال (ع): فنويت عند النمرة أنّكَ لا تأمر حتى تأتمر، ولا تزجر حتى تنزجر؟

قال: لا.

قال (ع): فعندما وقفتَ عند العلم نويت أنّها شاهدة لك على الطاعات، حافظة لك مع الحفظة بأمر ربّ السماوات؟

قال: لا.

قال (ع): فما وقفت بعرفة، ولا طلعت جبل الرحمة، ولا عرفت نمرة، ولا دعوت، ولا وقفت عند النمرات!!

ثمّ قال (ع): مررتَ بينَ العلمين، وصلّيت قبل مرورك ركعتين، ومشيت بمزدلفة، ولقطت فيها الحصى، ومررت بالمشعر الحرام؟

قال: نعم.

قال (ع): فحين صلّيت ركعتين نويت أنّها صلاة شكر في ليلة عشر تنفي كلَّ عسر، وتُيسِّر كلَّ يُسر؟

قال: لا.

قال (ع): فعندما مشيت بين العلمين، ولم تعدل عنهما يميناً وشمالاً، نويت أن لا تعدل عن دين الحق يميناً وشمالاً، لا بقلبك، ولا بلسانك، ولا بجوارحك؟

قال: لا.

قال (ع): فما مررتَ بالعلمين، ولا صلّيت ركعتين، ولا مشيت بالمزدلفة، ولا رفعت منها الحصى، ولا مررت بالمشعر الحرام!!

ثمّ قال (ع): وصلت منى ورميت الجمرة، وحلقت رأسك، وذبحت هديك، وصلّيت في مسجد الخيف، ورجعت إلى مكّة، وطفت طواف الإفاضة؟

قال: نعم.

قال (ع): فنويت عندما وصلت منى، ورميت الجمار أنّك بلغت إلى مطلبك، وقد قضى ربّك لك كلَّ حاجتك؟

قال: نعم.

قال (ع): فعندما رميت الجمار نويت أنّك رميت عدوّك إبليس، وعصيته بتمام حجّك النفيس؟

قال: لا.

قال (ع): فعندما حلقت رأسك نويت أنّك تطهّرت من الأدناس، ومن تبعة بني آدم، وخرجت من الذنوب كما ولدتك أُمّك؟

قال: لا.

قال (ع): أفعندما صلّيت في مسجد الخيف نويت أنّك لا تخاف إلا الله عزّوجل وذنبك، ولا ترجو إلا رحمة الله تعالى؟

قال: لا.

قال (ع): فعندما ذبحت هديك نويت أنّك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسّكت بحقيقة الورع، وأنّك اتّبعت سُنّة إبراهيم (ع) بذبح ولده وثمرة فؤاده وريحانة قلبه وحاجة سنّته لمن بعده، وقربه إلى الله تعالى لمن خلفه؟

قال: لا.

قال (ع): فعندما رجعت إلى مكّة، وطفت طواف الإفاضة نويت أنّك أفضت من رحمة الله تعالى، ورجعت إلى طاعته، وتمسّكت بودّه، وأدّيت فرائضه، وتقرّبت إلى الله تعالى؟

قال: لا.

قال له الإمام زين العابدين (ع): فما وصلت منى، ولا رميت الجمار، ولا حلقت رأسك، ولا ذبحت، ولا أدّيت نسكك، ولا صلّيت في مسجد الخيف، ولا طفت طواف الإفاضة، ولا تقرّبت، ارجع فإنّك لم تحجّ.

فطفق (الشبلي) يبكي على ما فرّط في حجّه، وما زال يتعلّم حتى حجّ من قابل (السنة المقبلة) بمعرفة ويقين"[6].

ومن أجل تيسير معرفة هذه الرموز والعمل بها، نضعها في الجدول التالي بحسب تسلسلها في نصّ الوثيقة:

ر

المَنسَك

الرمز (النيّة)

1

خلع الثياب المخيطة ولبس ثوبي الإحرام

إنِّي أخلع ثياب المعصية وأرتدي ثوب الطاعة

2

التجرُّد عن المخيط

إنِّي أتجرّد من (الرِّياء) و(النِّفاق) و(الدخول في الشبهات)

3

الغسل

إنِّي أتنظّف بنور التوبة الخالصة

4

الإحرام

إنِّي أُحرِّم كلُّ محرّم حرَّمه الله

5

دخول الميقات

إنِّي أزور الله[7]

6

الصلاة ركعتين (في الميقات)

إنِّي أتقرَّب إلى الله بخير الأعمال

7

دخول الحرم

إنِّي أُحرِّم كلّ غيبة

8

الوصول إلى مكّة

إنِّي قاصدٌ الله

9

السعي

إنِّي هاربٌ إلى الله

10

مصافحة الحجر

إنِّي أُصافحُ الله

11

الصلاة خلف مقام إبراهيم (ع)

إنِّي أقف على كلّ طاعة، والتخلّف عن كلّ معصية

12

الصلاة ركعتين (خلف المقام)

إنِّي أُصلِّي صلاة إبراهيم (ع)

13

الشرب من ماء زمزم

إنِّي أُشرف على الطاعة، وأغضُّ الطرفَ عن المعصية

14

السعي

إنِّي أقف بين (الرَّجاء) و(الخوف)

15

الخروج إلى منى

إنِّي أمنتُ الناسَ من (لساني) و(قلبي) و(يدي)

16

الوقوف بعرفات

إنِّي أعرف الله الآمر بالمعارف والعلوم، القابض على صحيفتي، المطّلع على سريرتي

17

الوقوف بوادي النمرة

إنِّي لا أأمر حتى أئتمر، ولا أزجر حتى أتزجّر

18

الوقوف عند العَلَم (النمرات)

إشهدي لي بالطاعة

19

المرور بين العلمين

لا أعدل عن طريق الحق يميناً ولا شمالاً

20

المشي بين العلمين

إنِّي لا أعدلُ عن دين الحق

21

إلتقاط الحصى

إنِّي أرفعُ كلَّ (معصية) و(جهل)، وأُثبت كل (علم) و(عمل)

22

الوقوف في المشعر الحرام (مزدلفة)

إنِّي أُشعر قلبي (التقوى) و(الخوف من الله تعالى)

23

الوصول إلى منى

إنِّي بلغتُ مطلبي وقضى الله لي حاجاتي

24

رمي الجمار

إنِّي أرمي عدوّي إبليس وأعصيه بحجّي

25

الحلق

إنِّي أتطهّر من (الأدناس) و(التبعيّة) و(الخروج من الذنوب)

26

الصلاة في مسجد الخيف

إنِّي لا أخاف إلا الله تعالى وذنبي ولا أرجو إلا رحمة الله تعالى

27

ذبح الهدي

إنِّي أذبح حنجرة الطمع بحقيقة الورع، وأتّبع سنّة إبراهيم بذبح إبنه

28

طواف الإفاضة

إنِّي أفيضُ من رحمة الله، وأرجع إلى طاعته، وأتمسّك بودّه

 

 

-         دلالات النص:

1- النصّ السجّادي عبارة عن مجموعة ثنائيات تشتمل على (المنسك المادّي) والتعبير الرمزي والروحي والإجتماعي.. فكما أكّدنا في الحج، تلازم المادّي والمعنوي يفترض بك أن تُحقِّق هذا المستوى من الربط حتى تتذوّق حلاوة حجّك، وتستشعر بقيمته، وتقول عن ثقة واطمئنان إنّك حججت.

2- كلمات الإمام (ع) النافية لأعمال المناسك لا تعني (بطلان) الحج، بل تعني أنّ الحاج إذا لم يتفهّم رمزيّة كلّ منسك ودلالة كل شعيرة، فكأنّه وقف عند ظواهرها ولم يعلم ماوراءها، أو لم يغص إلى أعماقها، وبالتالي فهو لم يُحقِّق (كمال) الحج ولا (تمام) العبادة، وإن حصل على ثواب الإمتثال والطاعة.

3- كلمة (نويت) في النصّ لا تعني النيّة المعهودة في العبادة (أي قصد القربة إلى الله تعالى)، بل يراد بها استحضار معنى المنسك ودلالته الرمزية قبل مزاولته كطقس عبادي حتى تتجلّى قيمته في نفسك أكثر، وتقدم على القيام به بروحية أعلى، و(شهيّة) نفسيّة أوفر.

4- النصُّ بمجملهِ يوحي أنّ الحجَّ موسمٌ ينتهي بإنتهاء أداء المناسك، ولكنه (ممتد) مع الحياة بما يُعزِّزه من قيم لا تحدّ بموسم، ولا تؤطَّر بمكان، الأمر الذي يستدعي ربط كلّ حركة في أي منسك بحركتك الكلِّيّة في الحياة.

5- ويوحي النصُّ أيضاً أنّ المناسك: (أدوات) و(وسائل) و(وسائط) لا غايات، أي أنّها ليست مطلوبة لذاتها، بل لما يترتّب عليها من منافع دنيوية وأخروية، وبما تُحقِّقه من حالة الإنشداد إلى الله في كل (قول) و(فعل).

6- يؤشِّر النص على ضرورة استلال المعاني الإصطلاحيّة من المعاني والمفردات اللغوية، فكلّ اسم في الحج ومناسكه يختزن في داخله جملة من المعاني الثريّة التي تستحق التأمُّل والتزوُّد من معطياتها الأبعد من مجرّد التسمية، كما في: (عرفات) و(منى) و(النمرة) و(المشعر) و(الخيف) و(الذبح).

 

الوثيقة الثانية: وصيّة الإمام الصادق (ع) إلى كلِّ حاج:

يقول (ع): "إذا أرَدت الحج:

1-         فـ (جرِّد) قلبك لله تعالى من كلّ (شاغل) وكلّ (حجاب).

2-         و(فوِّض) أُمورك كلّها إلى خالقك.

3-         و(توكّل) عليه في جميع ما يظهر من حركاتك.

4-         و(سلِّم) لـ(قضائه) و(حكمه) و(قدره).

5-         و(ودِّع) (الدُّنيا) و(الرّاحة) و(الخلق).

6-         و(أخرج) من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين.

7-         و(لا تعقد) على (زادك) و(راحتك) و(أصحابك) و(قوتك) و(شبابك) و(مالك) مخافة أن يصير ذلك عدوّاً ووبالاً، فإنّ مَنْ ادّعى رضا الله، واعتمد على ما سواه صيّره عليه وبالاً وعدواً، ليعلم أنّه ليس له قوّة ولا حيلة، ولا لأحد إلا (بعصمة) الله و(توفيقه).

8-         و(استعد) استعداد مَنْ لا يرجو الرجوع.

9-         و(أحسن) الصحبة.

10-      و(راعِ) أوقات فرائض الله، وسنن نبيّه، وإيثار الزاد على دوام الأوقات.

11-      ثمّ (اغسل) بماء التوبة الخالصة ذنوبك.

12-      و(البس) كسوة (الصِّدق) و(الصَّفاء) و(الخضوع) و(الخشوع).

13-      و(أحرم) من كلّ شيء يمنعك عن ذكر الله، ويحجبك عن طاعته، متمسِّكاً بالعروة الوثقى.

14-      و(طِفْ) بقلبك مع الملائكة حول العرش، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت.

15-      و(هرول) هرولة من هواك.

16-      و(تبرّأ) من حولك وقوتك.

17-      و(اخرج) من (غفلتك) و(زلاّتك) بخروجك من منى، و(لا تتمنَّ) ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه.

18-      و(اعترف) بالخطايا بعرفات.

19-      و(جدِّد) عهدك عند الله تعالى بوحدانيّته.

20-      و(تقرَّب) إليه بمزدلفة.

21-      و(اصعد) بروحِك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل.

22-     و(اذبح) حنجرتي (الهوى) و(الطمع) عند الذبيحة.

23-      و(ارم) (الشهوات) و(الخساسة) و(الدناءة) و(الأفعال الذميمة) عند رمي الجمرات.

24-      و(احلق) العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك.

25-      و(ادخل) في (أمان) الله تعالى و(كنفه) و(ستره) و(كلاءته) من متابعة مرادك بدخولك الحرم.

26-      و(دُرْ) حول البيت متحققاً لتعظيم صاحبه، ومعرفة جلاله وسلطانه.

27-      و(استلم) الحجر (رضاً بقسمته) و(خضوعاً لعزّته).

28-      و(ودِّع) ما سواه بطواف الوداع.

29-      و(صفِّ) (روحك) و(سرّك) للقائه يوم تلقاه بوقوفك على (الصفا).

30-      و(كُن) بمرأى من الله عند المروة.

31-      و(استقم) على شرط حجّك هذا، ووفاء عهدك الذي عاهدت مع ربّك، وأوجبته إلى يوم القيامة".

 

-         دلالات النص:

يُستخلص من النصّ الصادقي، ما يلي:

1-          ضرورة تحقيق أعلى درجة من درجات الصلة الروحيّة مع الله تبارك وتعالى من خلال أفعال الأمر، من قبيل: (جرِّد)، (فوِّض)، (توكّل)، (أسلم)، (لا تعتمد)، (آثر)، (استعد)، (تبرّأ)، (اعترف)، (جدِّد)، (تقرَّب)، (صفِّ) و(استقم).

2-          كما لاحظنا في النصّ السجّادي السابق، نلاحظ هنا في النصّ الصادقي أنّ ثمة ترابطاً وثيقاً بين (المادّي) و(المعنوي) كتوديع الدنيا والراحة والخلق (الناس) بتوديعك الأهل والأحبّة ومواطن الأنس والذكريات، وفي (الغسل) بماء التوبة للنقاء من الذنوب، وفي الخروج من الغفلة والزلاّت بخروجك إلى (منى)، واعترافك بالخطايا في (عرفات)، والتقرُّب إلى الله زلفى في (مزدلفة)، والصعود بروحك إلى الملأ الأعلى بصعود جبل الرحمة، وذبح الهوى والطمع بذبح الأضحية، وحلق العيوب بحلق الرأس، والرِّضا بالقضاء وباستلام الحجر، وتصفية السرّ بالوقوف على (الصفا)، وأن تكون بمرأى من الله في (المروة).

3-          الإهتمام برفاق الحج: (أحسن الصحبة).. سواء بالسهر على راحتهم، أو تقديم ما يمكن تقديمه من خدمات لهم، أو التغاضي عن أخطائهم، أو المسامرة معهم، أو إطعامهم الطعام، وما إلى ذلك من مطيّبات الخواطر ومؤنسات السرائر.

4-          مراعاة أوقات الفرائض، خاصّة وأنّ الحاج ليس لديه التزامات عمليّة سوى تفرُّغه لعبادته ومناسكه ومناشطه الروحيّة، الأمر الذي لا يعفيه من المحافظة على الصلوات في أوقاتها، وممارسة النوافل والمستحبّات بقدر ما أوتي من صحّة ونشاط وسعة وقت.

5-          تفعيل وشحذ الطاقات غير المفعَّلة بشكل جيِّد، تأمّل في التوصيات التالية و(استعد استعداد مَنْ لا يرجو الرجوع)، (طف بقلبك مع الملائكة)، (هرول هرولة من هواك) و(اصعد بروحك).

 

يوم نموذجي للحاج:

لا يصحُّ اعتبار الحج موسماً فوضوياً يتعذّر فيه تنظيم الوقت، فإنّ أوقات الحاج يمكن أن تقسَّم إلى قسمين رئيسين:

الأوّل: مناسك الحج والزيارات التي لها مواقيت محدَّدة، أو جدول التزامات زمني خاص تضعه الحملة المشرفة على تنظيم سير فعّاليات الحج، فأنت في ذلك مع الجماعة تتبعها كمنتسب إليها، فضلاً عمّا تحمله رحلات أو نشاطات الحملة من روح جماعيّة ينتظمها التعاون على الخير والبرّ والتقوى، وما تحقِّقه من ثواب عظيم يشترك فيه كلّ المساهمين فيها.

الثاني: البرنامج الحرّ، وما يهمّنا هنا هو الحديث عن هذ القسم تحديداً، لأنّ للقسم الأوّل -كما قلنا- ترتيباته الخاصّة والخارجة عن حدود الصلاحية الفردية للحاج.. أمّا البرنامج الحرّ، فأنت المسؤول عن تنظيمه ووضع الأجندة الخاصّة به، أي أنّ كلّ حاج يجتهد في وضع برنامج ذاتي لإغتنام واستثمار أوقاته الخالية من المناسك، والزيارات أفضل استثمار.

وإذ كنّا نُسمِّي يوماً ما يوماً نموذجياً، فإنّنا لا نحصره بما سنذكر، ولا نريد للحاج أن يتأطّر به، فكلّ حاج وما يجدّ ويجتهد ويجد من مواقف وفعاليات موافقة لمزاجه وصحّته واستعداده الروحيّ.. فالمهم أن لا ينقضي الوقت الثمين هناك عبثاً، أو في الإستغراق في النوم، أو في الثرثرة، أو في التجوّل في الشوارع والأسواق، وإن كان بعض ذلك يدخل كاستراحات وفواصل لإلتقاط الأنفاس وتجديد النشاط، ولهذه ضروراتها التي تقدّر بقدرها لا أن تكون هي أصل البرنامج أو الفترة الطاغية منه:

1- الصلاة:

وفي فسحة الصلاة يمكن الحديث عن النقاط التالية:

أ‌)            طالما أنّ الحاج غير مرتبط -كما هو الحال في وطنه ببيته وعمله-، فإنّ وقته الحرّ يمكن أن يُعبّأ بما يعود عليه بالخير والبركة، فينبغي أن لا تفوته (صلاة جماعة) في كلّ الأوقات، فلتحرص على الجماعة حتى ولو كانت تقام بك وبحاجّ آخر، وإذا تمكّنت من إقامة صلواتك في الحرمين الشريفين، فذلك توفيق آخر لا يفوتك اقتناصه وتصيُّده.

ب‌)       أن تُصلِّي في كل مسجد تمرّ به في أثناء رحلتك سواء مساجد المدينة المنوّرة أو مساجد مكّة المكرّمة، ونعني ضواحيها، وإلا ففي قلب المدينة لا يقدَّم مسجد على المسجد النبويّ أو المسجد الحرام.. ويستحب لك أن تصلِّي في كل مسجد ركعتين تحية المسجد ليشهد لك ذلك المكان إنّك صلّيت وذكرت الله فيه.

ت‌)       أن تشرع في برنامج القضاء والتدارك إذا كانت هناك صلوات متعلِّقة بذمّتكم ولم يتح لكم فرصة قضائها، فتكون رحلة الحج فاتحة عهد لبراءة الذمّة من متعلِّقات الفرائض، وبداية طيِّبة لتوبة نصوح.

ث‌)       أن تسعى -ما استطعت- لأن تؤدِّي النوافل اليومية كلّها، لأن فرصة مماثلة كهذه لن تتهيّأ لك في الوطن، وقد لا تتوفّر لك في المستقبل، وأهم ما ينبغي مراعاته هو صلاة الليل لما ورد فيها من فضل عظيم وأجر كريم، ولما لها من انعكاسات روحية ونفسية على يومك التالي.

ج‌)         وإذا تمكّنت من أن تهدي ثواب بعض الصلواتَ في المسجدين الشريفين لأمواتك وأرحامك وأصدقائك ممّن قلّدك الدُّعاء والزيارة، خصوصاً في الأماكن التي أثر أنّ للصلاة فيها ثواب عظيم، كالصلاة بين قبر النبي (ص) ومنبره الذي ورد في الخبر أنّها روضة من رياض الجنّة.

 

2- الصوم:

ولا نعني به صوم الكفّارة لبعض التقصيرات، بل الصوم في أوقات الإقامة في المدينة أو مكّة ولو ليومين في الأسبوع لتتداخل حلاوة الطاعة بالطاعة، ولذّة العبادة بالعبادة، ومتعة الصبر بالصبر.

 

3- تلاوة القرآن:

إذا استطعت أن تختم القرآن في موسمك ختمة أو ختمتين، فإنّك ستجد لذّة وحلاوة ذلك في الإستماع إلى كلام الله في المواطن التي نزل فيها، وبالقرب ممّن نزل عليه.

إنّ لتلاوة الكتاب الكريم في تلك المشاهد الشريفة وقعاً لا يُنسى خاصّة إذا تأمّلت فيما تقرأ ونقّلت بصرك من حروف الكتاب لتبصر واقع ما أنت فيه، وما عليه حال الأُمّة، وكيف عمل به الصالحون ليكونوا خير أُمّة أُخرجت للناس.

ويمكن أن تصطحب نسختك من الكتاب المجيد في كلّ مكان تحل فيه أو ترتحل إليه، ليكون رفيقك المؤنس حيث لا يكون هناك تزاحم بينه وبين فعّالية نافعة أخرى.

 

4- الطواف المستحبّ:

بعد أن تتحلّل من الإحرام وقبل أن يحين موعد الإنتقال إلى رُبى عرفات، فأنت في سعة من وقتك، وغنيمة من عباداتك، وبحبوحة من نوافلك ومستحباتك، فلك أن تطوف حول البيت ما شاء الله وما شاء استعدادك لتحصد من الأجر والثواب على طوافك التطوّعي ما وسعه إناؤك.

إنّ لك أن تطوف لتهدي ثواب طوافك لوالديك وأرحامك ولأهل بيتك ولكل مَنْ له فضل عليك ولأمواتك وللصالحين والعلماء الأبرار من حملة لواء التوحيد، فمنهم مَنْ تهدي له شوطاً، ومنهم مَنْ تهدي له سبعاً، ولك في كل ما تهدي أضعاف ما أهديت.

وكم كان وفياً ذلك الحاج الذي رأيناه يحمل قائمة بأسماء مَنْ أوصاه بالدُّعاء والزيارة، وأسماء أمواته وأموات المؤمنين ليذكرهم عند بيت الله في طواف أو صلاة أو دعاء.

5- التزاور:

"مَنْ زار أخاه في الله فكأنّما زار الله في عرشه".. فزيارة الإخوان في الله في مقرّات حملاتهم أو أماكن تواجدهم، وتفقّد احتياجاتهم، ليس تقوية لأواصر الأخوة والصداقة فقط، بل هو تقوية لأمر الدين، خاصّة إذا كانت المجالس فيها ذكر لله ولرسوله ولأهل بيته وللصلحاء، والتباحث في القضايا التي تهم الأُمّة، وفي التذاكر بالمسؤوليات.

تذكّر وأنت تضع ذلك في لائحة برنامجك اليومي أنّ النبي (ص) الذي تعيش بالقرب منه الآن كان يوصي، فيقول: "الزيارة تنبت المودّة".

وتذكّر أنّك (ضيف الرّحمن)، ومَنْ تزوره (ضيف الرّحمن)، وأنّ كلاكما في ضيافة الرّحمان الذي يقول للزائر كما في الحديث القدسي: "أنت ضيفي وزائري، عليَّ قراك (ضيافتك) وقد أوجبت لك الجنّة بحبّك إيّاه".

وتذكّر وقد قررت برنامجاً نموذجياً ليومك في موسمك أنّ المبادرة في الإسلام خير. يقول (ص): "الزائر أخاه أعظم أجراً من المزور".

ويمكن لهذه الزيارات أن تتسع لتكون زيارات تعارف وبناء علاقات إخوانية جديدة من خلال ما يُعرِّفه أبناء الحملة الواحدة من رفاق الحج للزائر الذي يضيف لرصيده أخوة لم يسبق له أن تعرَّف عليهم.

 

 

 

خدمة الحاج:

رفقة الحاج وصحبة إخوة الحج لا تُنسى، فقد ينسى أحدنا طلبة صفّه وأبناء محلّته، لكنه لا ينسى الذين رافقوه في تلك الرحلة الكريمة من موسم الحج، حتى إنّه وهو يستذكر ويسترجع ذكرياته في الأيام والأعوام التالية يتذكّر مَنْ كان معه بالإسم فيترحّم على مَنْ رحل منهم، ويدعو للأحياء منهم بالتوفيق وأن يكتب الله له ولهم رفقة أخرى في حج أو موسم آخر.

ورفقة الحج تبتدئ من الأخذ بنصيحة ووصية الإمام علي (ع): "سِل عن الرفيق قبل الطريق" ليكون مَنْ تصحبه ليس إنساناً مؤنساً ومسلّياً، ومخففاً من وطأة أتعاب السفر فحسب، بل أن يكون ممّن إذا رأيته ذكرت الله، وإذا جالسته ذكر الله، وإذا انتقلت معه تذكرتما ما يرضي الله.

هو (الرفيق النوعي) الذي يرفع مستوى إيمانك، ويذكِّرك إذا نسيت، وينصحك إذا غفلت، ويستر عليك إذا رأى عيباً، ويشير عليك بالصواب إذا استشرت، ويسهر على راحتك إذا مرضت، ويؤثر هواك على هواه إذا أقمت.

وخيركما الذي يرعى صاحبه ويخدمه ويتولّى شأنه، بل وشؤون الذين يرافقونه في حملته أو غرفته.. أمّا إذا استطاع أن يخدم حتى الذين هم خارج حملته، فهذا من التوفيق الكبير، والعناية الربّانية الفائقة، ولا نغالي إذا قلنا إنّ خدمة الحاج والسهر على راحتهم من بعض عبادات الحج، بل هو من عبادات الإسلام التي يتقرّب الإنسان بها إلى الله عزّوجل منطلقاً من هدي التعليم النبوي: "خير الناس مَنْ نفع الناس".

لقد رأينا -وسعدنا بما رأينا وتعلّمنا ممّا رأينا- بعض الذين يُقدِّمون خدماتهم الجلّى للحجّاج وهم في غاية السرور والإنشراح والرِّضا، وكان بعضهم يحب أن يُسمّى بـ (خادم الحاج) أو (خادم الحجّاج)، ولعلّه تربّى على ذلك الخلق الفاضل بناءً على ما ربّاه عليه سيِّد الخلق والأخلاق الرسول الأكرم محمد (ص)، حيث يقول: "إيّما مسلم خدم قوماً من المسلمين إلا أعطاه الله مثل عددهم خدّاماً في الجنّة".

وعنه (ص): "خدمة المؤمن لأخيه المؤمن درجة لا يُدرك فضلها إلا بمثلها".

وعن الإمام الصادق (ع): "المؤمنون خَدَمٌ بعضهم لبعض، فقيل له: كيف يكونون خدماً بعضهم لبعض؟ قال: يفيد بعضهم بعضاً".

يا ضيفَ الله الكريم، صحيح أنّ لكلّ حملةٍ أُناساً يقومون على خدمتها وتوفير احتياجاتها وتأمين راحتها وتيسير مناسكها، لكن ذلك لا يمنع أن تنبري لخدمة الحجّاج القريبين منك، أو الذين يشاطرونك السكن في غرفة واحدة، أو الذين يأتون للحج للمرّة الأولى، لتحظى بشرف خدمة ضيوف الرّحمان، كما يتشرّف الولدان المخلّدون بخدمة عباد الله من أهل الجنّة، خاصّة وإنّ الحاج كثيراً ما يكون مرهق الأعصاب، ضيِّق الصدر، حادّ المزاج، جرّاء التعب، وقلّة النوم، وشدّة الحرّ، وكثرة الزحام، وتغيّر الأجواء، فما أجمل أن تُخفِّف وتُلطِّف أجواءه بالكلمة الطيِّبة، والموعظة الحسنة، والإبتسامة الحانية، والخدمة المناسبة، وأن تُعلِّمه ما لا يعلم، وأن تتحمّل ممّا يصدر عن كبار السن من شكوى وتذمُّر، فتكون لأحدهم كإبنه، ولا يخفى عليك ما في ذلك من الأجر العظيم الذي قد لا يوازيه أو يعادله ثوابُ طوافٍ وطوافٍ وطواف.

 


 

من قصص الحـج التربوية

1- بيت الله في قلوب المساكين!!

يروى أنّه قد أوحى الله تعالى إلى خليله إبراهيم (ع): "أنْ إبنِ لي بيتاً، فبنى إبراهيم (ع) مسجداً (بيتاً لله)، ثمّ كرّر المولى سبحانه النداء، فبنى شيخ الأنبياء مسجداً آخر، وجاء النداء للمرّة الثالثة، فأشاد إبراهيم (ع) مسجداً ثالثاً، ثمّ قال بعد أن جاءه النداء رابعاً: إلهي ألم أبنِ مساجد ثلاثة؟

فجاء النداء الربّاني: يا إبراهيم، هل كسوت عرياناً؟! هل أشبعت جائعاً؟!".

أي إنّ بيت الله ليس من الحجارة فقط، بل هو ما يُبنى من مشاعر إنسانية في نفوس تتطلّع إلى الشفقة والرأفة والعون والإحسان.

 

2- كلّكم أفضل منه!!

عندما رجع الحجّاج إلى المدينة المنوّرة، التقى أحدهم بالإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) وأخذ يقصّ عليه ما حدث له في سفره مع رفاق الحج الذين كانوا معه، فكان يثني كثيراً على أحدهم لأنّه كان رجلاً زاهداً عابداً تقيّاً، وعقّب قائلاً: "ولكم كنّا نفخر بصحبته يا مولاي، فلقد كان مشغولاً بالطاعة والعبادة على الدوام، وكنّا ما أن ننزل بمكان حتى ينتحي هو ناحية يشتغل فيها بالطاعة والعبادة.

وهنا سأله الإمام الصادق (ع): ومَنْ ذا الذي كان ينجز أعماله يا ترى؟

قال الحاج: نحن يا مولاي.

فقال الإمام (ع): اعلموا أنّكم كلّكم أفضل منه"!!

 

3- سيِّد القوم خادمهم!!

قصدت إحدى قوافل المسلمين مكّة المكرّمة تُريد الحج، وما إن وصلت إلى المدينة حتى ألقت عصا الترحال وأزاحت ثوب التعب عنها، ثمّ واصلت مسيرها -بعد أيام- صوب البلد الحرام.

وفي الطريق بين مكّة والمدينة وفي أحد المنازل، صادف رجال القافلة شخصاً كان يعرفهم، وفيما هم يتحادثون جلب نظره شخص كان مشغولاً بخدمة القافلة وإدارة شؤونها، وكانت آثار الصلاح بادية عليه، فعرفه وقال موجِّهاً كلامه للحجّاج بإستغراب وبلهجة فيها تأنيب: "أتعرفون مَنْ هذا الذي يقوم على خدمتكم وإنجاز أعمالكم؟

قالوا له: لا، لا نعرفه، لقد التحق بقافلتنا من المدينة، وقد رغب إلينا أن يقوم على خدمتنا بنفسه دون أن نطلب منه مساعدتنا في شيء.

فقال الرجل: حقّاً إنّكم لا تعرفونه، إذ لو عرفتموه لم تكلوا إليه أعمالكم.

فقالوا مستغربين: مَنْ هو هذا الذي نراك تتحدّث عنه بإجلال؟

قال: إنّه الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع).

فهرع رجال القافلة إلى الإمام يُقدِّمون له إعتذاراتهم نادمين آسفين أن قبلوا تكليفه القيام بشؤونهم، وكانوا هم أحرى بخدمته.

فقال (ع): إنّما رغبت بكم رفاقاً للحج لأنّكم لا تعرفونني، لأنّني كلّما سافرت مع أُناس يعرفونني لا يدعوني أعمل شيئاً، فكان ذلك يثقل عليَّ، فرغبت أن أُسافر مع مَنْ لا يعرفونني حتى أحظى بخدمتهم"!!

 

4- "لبّيك" من أعماق القلب!!

حجّ (مالك بن أنس) فقيه المدينة ذات مرّة مع الإمام جعفر الصادق (ع)، فلمّا وصلا الميقات وارتديا ثياب الإحرام وشرعا بالتلبية، واستوت بالإمام (ع) راحلته، حانت التفاتة من مالك فوجد الإمام الصادق (ع) قد تغيّرت حاله، فكلّما همَّ بالتلبية ارتج عليه (تعذّر عليه النطق بها)، ولم يكن صوته يخرج من فمه حتى كاد يسقط من راحلته، فسأله مالك: "ما لكَ لا تلبي يا ابن رسول الله؟!

فقال (ع): يا ابن أبي عامر، كيف أجسر أن أقول لبّيك أللهمّ لبّيك وأنا أخشى أن يقول لي عزّوجل: لا لبّيك ولا سعديك"!!

 

5- قضاء حاجة المؤمن أحبّ من الطواف!!

دخل رجل مكّي على الإمام الصادق (ع) وشكا له حاجة، فطلب الإمام إلى صاحبه (صفوان) أن يقضيها له. فذهب صفوان معه فتيسّرت، فلمّا رجع سأله الإمام (ع): "ما صنعت في حاجة أخيك؟

قال: قضاها الله (لاحظ إنّه لم يقل قضيتها له).

فقال الإمام الصادق (ع): إنّك إذا أعنت أخاك المسلم فذلك أحبّ إليَّ من طواف أسبوع بالبيت الحرام.

واستطرد (ع) قائلاً: إنّ رجلاً أتى الإمام الحسن (ع) وسأله قضاء حاجة له، فتنعّل الإمام وقام معه، ومرّا على الإمام الحسين (ع) وهو قائم يُصلِّي، فقال الإمام الحسن (ع) للرجل: أين كنت عن أبي عبدالله تستعين على قضاء حاجتك؟!

قال: ما أحببت أن أخبره بها لأنِّي علمت أنّه معتكف (أي لا يستطيع مغادرة المسجد).

فقال الإمام الحسن (ع): إمّا إنّه لو أعانك، كان خيراً له من اعتكافه شهراً"!!

ويروى أنّ شخصاً آخر جاءه (ع) وهو في الطواف، فسأله أن يقضي له حاجة فترك طوافه وسعى في قضاء حاجة أخيه المسلم، فلمّا سُئِل كيف يترك طوافه، قال: "إنّ قضاء حاجة المؤمن أفضل من طواف وطواف وطواف حتى عدّ عشرة، وقيل أكثر من ذلك".

6- حاج ينقذ قاتل أبيه من القتل!!

علم المنصور العبّاسي أنّ (محمد بن هشام بن عبدالملك) موجود في موسم الحج حينما جاء مكّة حاجاً، فطلب من حاجبه (الربيع) إلقاء القبض عليه. وفي اليوم التالي أغلقت أبواب المسجد الحرام كافّة، ووقف الربيع على باب واحد لا يسمح لأحد بالخروج حتى يعرفه، أو يأتي بمن يُعرِّفه.

فعلم (محمد بن هشام) أنّه هو المطلوب فضاقت عليه الحياة بما رحبت وآيس من النجاة، ثمّ حانت منه التفاتة، فإذا رجل بهيّ الطلعة عليه سيماء الهدى والمروءة والصلاح، فنظر إليه نظرة خائف يلوذ بركن وثيق، فلقد ظنّ به خيراً، وأقبل عليه خائفاً وجلاً، فسأله بإضطراب وقلق: هل أنا آمن إن حدّثتك عن أمري؟

فقال الرجل الصالح: نعم، ولك عهد الله أن أسعى في خلاصك!!

وهنا تنفّس (محمد بن هشام) الصعداء، وأخبر الرجل الصالح بخبره وإنّه هو الشخص المطلوب لزبانية المنصور، وقد عرّفه بإسمه قائلاً: أنا محمد بن هشام بن عبدالملك، فبادره الرجل الصالح بالقول: وأنا (محمد بن زيد بن علي بن الحسين)!!

لقد أمر هشام بن عبدالملك بقتل زيد الشهيد وصلبه، وهاهي الأيام تدور وإذا بالأبناء يلتقون: إبن القاتل وابن القتيل، ابن المجرم وابن الشهيد، وكان يمكن لمحمد بن زيد أن يرى في ذلك فرصة للثأر والإنتقام لكنه من بيت لا يعرف الغدر والإنتقام.

إنّ (محمد بن هشام) حينما عرف أنّ محدِّثه (محمد بن زيد) ظنّ إنّه مقتول لا محالة، فقال بيأس: عند الله أحتسب نفسي! ولكن (محمد بن زيد الشهيد) طمأنه بأنّه عند عهده، وبالفعل فقد سعى في خلاصه وإنقاذه[8].

 

7- إلى متى تدوسون هذا البيدر؟!

اجتمع (ابن أبي العوجاء) و(ابن طالوت) و(ابن الأعمى) و(ابن المقفّع) ونفر من الزنادقة في موسم الحج بالمسجد الحرام، وأبو عبدالله الصادق (ع) فيه إذ ذاك يُفتي الناس ويُفسِّر لهم القرآن، ويجيب عن المسائل بالحج والبيِّنات.

فقال القوم لابن أبي العوجاء: "هل لك في تغليظ هذا الجالس وسؤاله عمّا يفضحه عند هؤلاء المحيطين به؟ فقد ترى فتنة الناس فيه، وهو علاّمة زمانه. فقال: نعم، ثمّ تقدّم ففرّق الناس، وقال: فتأذن في السؤال؟ قال أبو عبدالله (ع): سل إن شئت، فقال ابن أبي العوجاء: إلى كم تدوسون هذا البيدر (يشبه الحجيج بالحيوانات التي تدوس بيدر الحنطة لإستخراج حبوبه)، وتلوذون بهذا الحجر (الأسود)، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر (الكعبة)، وتهرولون هرولة البعير إذا نفر (إشارة إلى السعي) مَنْ فكّر في ذلك وقدّر، علم أنّه فعل غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنّك رأس هذا الأمر وسنامه، وأبوك أسّه ونظامه.

فقال له الإمام الصادق (ع): إنّ مَنْ أضلّه الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذ به وصار الشيطان وليّه وربّه يورده من أهل الهلكة، وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وجعله قبلة للمصلِّين له، فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدِّي إلى غفرانه، منصوبٌ على استواء الكمال، ومجمع العظمة والجلال، فأحقّ مَنْ أطيع في ما أمر وانتهي عمّا زجر، الله عزّوجلّ المنشئ للأرواح والصور.

فقال له ابن أبي العوجاء: ذكرت أبا عبدالله، فأحلتَ على غائب (يقصد الله تعالى)، فقال الصادق (ع): كيف يكون -يا ويلك- عنّا غائباً مَنْ هو مع خلقه شاهد، وإليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم ويعلم أسرارهم، لا يخلو منه مكان، ولا يشتغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان، تشهد له بذلك آثاره، وتدلّ عليه أفعاله، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة، محمد (ص) جاءنا بهذه العبادة، فإن شككت في شيء من أمره، فاسأل عنه أوضحه لك"!!

فأُبلس (أفحم) ابن أبي العوجاء، ولم يدرِ ما يقول، فانصرف من بين يديه، وقال لأصحابه: سألتكم أن تلتمسوا لي (حُمرة) فألقيتموني على (جمرة)، فقالوا له: اسكت، فوالله لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك، وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه، فقال: ألِي تقولون هذا؟ إنّه ابن مَنْ حلق رؤوس مَنْ ترون، وأومأ إلى أهل الموسم (الحجيج)[9].

8- حمل أُمُّه على ظهره:

حجّ شاب مؤمن مع أُمّه العجوز التي لا تقوى على الحركة، فكان يحملها على ظهره في الطواف والسعي والمواقف.. وحينما انتهى من الحج، سأل النبي (ص): هل وفّيتُها حقّها؟ فقال (ص): "لا ولا طلقة" (أي لا يساوي ذلك طلقة من طلقاتها عند الوضع لأنّ في ذلك ربما هلاكها).

ولا يعني أنّ الشاب لم يُثاب على عمله، بل أراد النبي (ص) إلفات نظره إلى أن حقّ أُمّه عليه أعظم ممّا يتصوّر.

 

9- اليأس من رحمة الله!!

كان الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) يطوف حول الكعبة ذات يوم فرأى شخصاً متعلِّقاً بأستار الكعبة، يقول: أللهمّ اغفر لي وإنِّي لأعلم أنّك لن تغفر لي!!

فتعجّب الإمام (ع) من قوله، فاستدعاه، وسأله: لماذا تقول قولاً عظيماً؟

قال الرجل: لو كنت تعلم يا مولاي ما ذنبي لما استغربت؟

قال (ع): وما هو ذنبك؟

قال: أنا ممّن خرج لقتال أبيك الحسين (ع)!

فقال الإمام علي بن الحسين (ع): إنّ يأسك من رحمة الله أعظم أو (أشدّ) من خروجك لقتال أبي!!

10- "أللهمّ قني شُحَّ نفسي"!!

يروي (الفضل بن أبي مَرّة) أنّه رأى أبا عبدالله الصادق (ع) يطوف من أوّل الليل إلى الصباح، وهو يقول: أللهمّ قني شُحَّ نفسي!

فقلت: جعلت فداك، ما سمعتك تدعو بغير هذا الدُّعاء؟

قال: وأيّ شيء أشدُّ من النفس؟ إنّ الله يقول: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾!

 

11- الرفق بالحيوان!!

قال الإمام علي بن الحسين (ع) لإبنه الإمام محمد الباقر (ع) حين حضرته الوفاة: إنِّي قد حججت على ناقتي هذه عشرين حجّة فلم أقرعها بسوط قرعة، فإذا نفقت (ماتت) فادفنها لا تأكل لحمها السباع (الوحوش)، فإنّ رسول الله (ص) قال: "ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله الله من نعم الجنّة وبارك في نسله"، فلمّا مات علي بن الحسين (ع) أتت الناقةُ قبره وتمرّغت عليه، وضربت بِجِرانها عليه ورغت وهملت عيناها، فلم تلبث إلا ثلاثة (أيام) حتى نفقت، فحفر لها الإمام الباقر (ع) ودفنها.

¯    ¯       ¯

 

وإنّما أوردنا بعض قصص الحج لنلفت إنتباه الحاج إلى أنّ موسم الحج مدرسة يمكن أن (يتعلّم) و(يُعلِّم) فيها، وأنّ الموسم تربوي وروحي وثقافي وإجتماعي وإنساني.

 


 

قاموس الحاج

سنشير في هذا القاموس المرتّب بالترتيب الألفبائي إلى أهمّ المواقع والمحطّات والمصطلحات التي يحب الحاج أن يتعرَّف عليها حتى وإن لم يكن بعضها في سياق حجّه ولا ضمن مناسكه، بل هي معلومات ترفده بتكوين صورة عن تلك الديار المقدّسة في مكّة والمدينة وما حدث عليها من أحداث، وما بقي على أرضها من آثار:

 

- الأبواء:

الأبواء: قرية قرب الجحفة، على طريق الحاج بين مكّة والمدينة، تبعد عن المدينة حوالي (150 كم). وفي تسميتها بالأبواء أقوال: قيل إنّها جمع (بوّ) وهو جلد الجمل الصغير، يُحشى ويُقدّم للناقة التي فقدت ولدها، فتخاله ابنها، فيدرّ لبنها.

وقيل سُمِّيت بذلك نسبة إلى جبل قائم هناك يُسمّى (الأبواء)، وقيل لتبوّؤ السيول فيها، أي نزولها وتجمّعها، وهذا أرجح الأقوال.

دفنت في هذه البلدة السيِّدة آمنة بنت وهب (رض) أُمّ النبي (ص)، إذ توفّيت أثناء رجوعها إلى مكّة، من زيارة كانت تقوم بها إلى المدينة، ومعها ابنها محمد (ص) وعمره يومئذ ست سنوات، لزيارة قبر أبيه (عبدالله) المدفون في المدينة. ويستحسن بمن يمرّ بالأبواء التوقف لتلاوة الفاتحة على روح أّمّ النبي الأكرم (ص) إدخالاً للسرور على قلبه.

و(الأبواء) اسم لأولى غزوات الرسول (ص)، إذ خرج من المدينة المنوّرة في السنة الثانية للهجرة في ستين رجلاً معترضاً إبلاً لقريش لكنها فاتته، فوصل (ص) إلى (ودّان) القريبة من الأبواء وعقد فيها صلحاً مع سيِّد عشيرة بني ضُمرة.

 

- أبو قبيس:

قبيس: تصغير قَبس، وهو جذوة النار، و(أبو قبيس) اسم الجبل الذي يطلّ على الحرم المكّي من جهة الشرق، وإليه يتجه ركن الكعبة الذي يحتضن الحجر الأسود، وعلى سفحه يقوم (الصفا) الطرف الجنوبي للمسعى.

واسم الجبل مع الجبل الواقع على الجانب الغربي للوادي (الأخشبان). ويقال: شيخ الجبال أبو قبيس. وكان أهل الجاهلية يسمّونه بـ (الجبل الأمين) لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ الحجر الأسود كان مستودعاً فيه أيام الطوفان.

وفي سبب تسميته يقال إنّ رجلاً من بني جرهم يدعى (أبا قبيس) عشق امرأة فأراد أن يوقع بينها وابن عمّها الذي شغفته حبّاً، فوشى بينهما فنذرت المرأة واسمها (مي) ألاّ تُكلِّم ابن عمّها، فحلف هذا ليقتلن أبا قبيس، فهرب أبو قبيس إلى الجبل واعتصم به، فعرُف به.

وقد ورد ذكره في بعض الروايات كمثل للفخامة، كقول النبي (ص) للتاجر الثري الذي لم يدرك الحج، وأراد أن يُعوِّضه بالمال، لو أنّ لك مثل أبي قبيس ذهباً لما عدل الحج.

وفي زمن (عبدالملك بن مروان)، نصب (الحجاج بن يوسف الثقفي) المنجنيقات على أبي قبيس، ورمى به حرم الكعبة الذي اعتصم به (عبدالله بن الزبير) سنة 93هـ .

 

- أُحُـد:

أُحُد: جبل يقع إلى الشمال من المدينة المنوّرة، وبالقرب منه وقعت الغزوة الشهيرة أو (وقعة أُحُد) ثاني معركة بعد (بدر الكبرى)، حيث عزمت قريش على الردّ على المسلمين بمعركة فاصلة تستعيد فيها هيبتها: فكان تعداد الجيش القرشي ثلاثة آلاف رجل.

وكان رأي الرسول (ص) البقاء في المدينة، ورأي جمع من أصحابه الخروج للقاء قريش، فلبس النبي (ص) لامته (درعه) وخرج، فوعظهم وأمرهم بالتهيؤ، ولمّا اعتذر الذين استكرهوه، قال: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل"، فخرج بألف من أصحابه، ولمّا وصل أُحُداً جعل ظهر عسكره إلى الجبل.

وعبّأ (ص) جيشه فوضع علياً بن أبي طالب (ع) على الميمنة، وعمّه الحمزة على القلب، وكان (عبدالله بن جبير) وخمسون رجلاً من الرماة، فقال لقائدهم عبدالله: "انضح الخيل عنّا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك"، وشدَّد عليهم أن لا يبرحوا مكانهم.

وفي الجولة الأولى، انتصر المسلمون لأن خيل المشركين كانت تنضح بالنبل من الرماة على الجبل، وكان (وحشي) يترقّب حمزة فطعنه بحربته ليستشهد وقد هدّ النبي (ص) مقتله. فلمّا انهزم المشركون وانشغل المسلمون بجمع الغنائم، فارق الرماة مكانهم الذي أمروا أن يثبتوا فيه ليساهموا في جمع الغنائم.

فنظر (خالد بن الوليد) إلى خلاء الجبل من الرماة فحملوا على مَنْ بقي منهم فقتلوهم ووضعوا السيوف والنبال في المسلمين من خلفهم، فتفرّق المسلمون، وقُذِفَ النبي (ص) بالحجارة وأصيبت رباعيته (أسنانه الأمامية)، وشُجَّ وجهه، وجرحت شفته، وسال الدم على وجهه الشريف، فقال (ص): "كيف يفلح قومٌ خضبوا وجه نبيّهم وهو يدعوهم إلى الله".

 

- الإحـرام:

الإحرام: نيّة الحج مع لفظ التلبية، وسُمِّي كذلك لأنّ الحاج إذا لبس ثوبي الإحرام ولبّى حرمت عليه أشياء لا يجوز له أن يصنعها، كصيد الحيوان البرّي، والإستمتاع بالنِّساء، والطيب والإكتحال والتدهين والنظر في المرآة، ولبس المخيط للرجال، والفسوق (الكذب والسباب)، والجدل (القسم بالله تأييداً لنقاش)، وقتل هوام البدن (كالبرغوث وأمثاله)، وإزالة الشعر، والتظليل للرجال، وقلع أشجار الحرم، وحمل السلاح.

وللإحرام شروط لسنا في محلّ التعرُّض لها، فقد تكفّلت بذلك كتب المناسك والمرشد الديني لكل حملة.

- إسماعيل (ع):

هو نبيّ الله إسماعيل بن إبراهيم خليل الرّحمن عليهما صلاة الله وسلامه، وأُمّه (هاجر) أهداها ملك مصر إلى إبراهيم (ع) يوم مرَّ بمصر، وإسماعيل هو الولد البكر لإبراهيم، ولد ولأبيه من العمر (87) سنة. وكان إبراهيم (ع) متزوِّجاً بسارة فغارت من إسماعيل وأُمّه، فأوحى الله تعالى إلى إبراهيم (ع) أن يسافر بهما إلى جزيرة العرب، فرحل بهما (ع) إلى حيث أمره الله تعالى، وتركهما في وادٍ غيرِ ذي زرعٍ، وكانت هاجر ممتثلة لأمر الله مسلّمة كإبراهيم، ولمّا نفد ما معها من الماء راحت تبحث عنه لولدها ساعية بين الصفا والمروة فأنبع الله الماء من تحت قدمي إسماعيل (ع)، فكانت العين المعروفة الآن بـ (زمزم).

ولمّا علمت قبيلة (جرهم) اليمنية بأمر الماء، نزلت في ذلك المكان واستوطنته، وتزوّج إسماعيل منها فيما بعد. وكان إبراهيم (ع) يتردَّد إلى مكّة ليزور أسرته، وإسماعيل (ع) هو الذبيح الذي وردت قصّته في القرآن مع أبيه (ع)، وهو الذي شارك أباه إبراهيم (ع) في بناء الكعبة. ويعدّ (ع) جدّ العرب المستعربة، وقد مات في مكّة ودُفن عند قبر أُمّه هاجر في الحجر المعروف بإسمه.

 

- الأضحى:

هو اليوم العاشر من ذي الحجّة من كلّ سنة قمرية، وقد شرع في السنة الثانية للهجرة، وشرعت له صلاة خاصّة في صبيحته، وهي صلاة العيد.

يقال له: يوم النحر، لأنّ الأضاحي تُنحر فيه إحياءً لذكرى فداء إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

يحتفل المسلمون -في كل مكان- في هذا اليوم لأنّ فيه تمام نعمة الإسلام وكمال دينه، وقضاء حجاج بيت الله مناسكهم.

ويكون الحجّاج في هذا اليوم في (منى) لرمي الجمار ونحر الهدي والطواف بالبيت طواف الإفاضة والتحلُّل من الإحرام، ويشرّع فيه التكبير ويستحب عقب كلّ صلاة لثلاثة أيام.

 

- الأضحية:

الأضحية: ما يذبح من النعم (الإبل، البقر والأغنام) يوم الأضحى، وغلب استعماله في الشاة خاصّة، ويراعى فيها سلامة أذنيها وعينيها مع شروط خاصّة فصّلتها كتب المناسك.. ويستحب للمضحِّي أن يشهدها (أي أن يرى ذبحها بنفسه) أو يذبحها بنفسه إن أمكن، وأن يتصدّق بثلثها ويهدي ثلثها ويأكل الثلث الثالث.

- الإفاضة:

الفيض في اللغة: الكثرة، يقال فاض الماء أو المدمع إذا كثر. والإفاضة: تعني الزحف والدفع في السير بقوّة مع كثرة. وأمّا الإفاضة في الحج، فالدفع مع الجميع من (عرفة) إلى (مزدلفة)، ثمّ منى، قال تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة/ 198-199).

 

- أُمُّ القرى:

أُمُّ القرى: صفة أطلقت على مكّة المكرّمة فصارت لها كنية اشتهرت بها وعُرفت، ويقال: ما تقرّت القرى إلاّ بعد مكّة، لأنّ العرب قبلها كانوا يقيمون في الخيام، ولهذا سُمِّيت (أُمُّ القرى). وقيل: لأنّها تضمّ أوّل بيت وضع للناس، وجعل لهم مثابة وأمناً، فهجر الناس خيامهم وأقاموا حوله دورهم. وقيل: لأنّها تتوسّط الدنيا وحولها القرى ملتفة، وأنّ الأرض كان أوّل دحوها (بسطها) منها. وقيل: لأنّها قبلة الناس من كلّ حدب وصوب، ولأنّ الإنذار الموجّه لأهلها، بقوله تعالى: ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ (الأنعام/ 92) هو إنذار للناس عامّة.

 

- أهل الصُفّة:

الصُفّة لغةً: الظُلّة وهي السقف، وأطلق اللفظ على الجزء الشمالي من المسجد النبويّ في المدينة المنوّرة، إذ كان مضللاً بسقف، وبارزاً كالشرفة، ليس له ما يستر جوانبه، لجأ إليه الفقراء من المهاجرين ومَنْ لم يكن له منزل يسكنه فكانوا يأوون إليه ويبيتون فيه، فسُمِّي هؤلاء العزّاب والغرباء عن المدينة والفقراء الذين لا عمل ولا مأوى لهم بـ(أهل الصُفّة).

وكان النبي (ص) يدعوهم بالليل فيفرقهم على أصحابه، كما كانت طائفة منهم تتعشى معه عليه الصلاة والسلام. وكان إخوانهم المسلمون من الأنصار والمهاجرين والأغنياء يقدمون لهم ما يحتاجون إليه من طعام وشراب، وكانوا يُسمّون أيضاً (ضيوف الإسلام)، وكان فيهم الغرباء ممّن تركوا أهاليهم، وقبائلهم، ومنهم أبوذر الغفاري (رض)، و(عمّار بن ياسر) و(بلال الحبشي) و(سلمان المحمدي) و(صهيب الرومي).

 

- أيام التشريق:

هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، سُمِّيت بذلك لأنّ لحوم الأضاحي تُشرّق فيها، أي تُنشر في الشمس المشرقة وتُقدَّد (تُجفَّف). وقيل سُمِّيت بذلك لأنّ الهدي لا يُنحر حتى تشرق الشمس. وهي الأيام المعدودات المذكورة في القرآن في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (البقرة/ 203).

وعنها قال النبي(ص): "إنّها أيام أكل وشرب وبعال -أي لقاء النِّساء-".

 

- بدر الكبرى:

أوّل معركة وقعت في الإسلام بين المسلمين والكفّار والمشركين من قريش وذلك في العام الثاني للهجرة وفي السابع عشر من شهر رمضان المبارك. فلقد سمع النبي (ص) أنّ قافلة لأبي سفيان قادمة من الشام فَنُدِبَ إليها المسلمون، وقد علم أبو سفيان بذلك فغيَّر طريقه، وكانت قريش قد خرجت لتمنع عيرها (قوافلها)، فأبى أبو جهل أن ينصرفوا حتى نزلوا بالعدوة القصوى من وادي بدر، فلمّا سمع رسول الله (ص) بذلك إستشار أصحابه فرحّبوا بفكرة مقاتلة قريش، وكان تعداد المسلمين (313) رجلاً، وكان ممّا قاله (المقداد بن الأسود الكندي) (رض): "امضِ يا رسول الله لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا﴾ (المائدة/ 24)، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون". وقال غيره مثل ما قال أو قريباً منه، فسرّ النبي (ص) بذلك، ثمّ نزل (ص) في العدوة الدنيا من الوادي ببدر حيث القُلب (آبار المياه)، وأنزل الله المطر فلبدت الأرض وأضحت صلبةً، واغتسل المسلمون بمائها وتطهّروا، فيما سبَّبت في أرض المشركين طيناً فغدت حركتهم صعبة. ومن حكمة الله أنّه قلل عدد المشركين في نظر المسلمين حتى لا يهابوهم، وأن يقلل عدد المسلمين في نظر المشركين حتى يستهينوا بهم ولا يستعدّوا لهم.

وصفّ رسول الله (ص) المسلمين كصفوف الصلاة، وأمرهم أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وكانت المعركة في بدايتها على شكل مبارزات، ثمّ زحرف الطرفان، ورمى رسول الله (ص) بحفنة حصباء من يده في وجوه القوم، وقال لأصحابه: "شدّوا"، فاستبسل أصحابه وألقى الله الرُّعب في قلوب المشركين، وأمدّ الله المسلمين بمدد غيبي وهو تثبيث الملائكة لهم، فبدأ المشركون يرمون أثقالهم ويهربون.

وقتل في بدر صناديد قريش وعتاتهم، ومنهم (أبو جهل)، وأسر عدد كبير منهم. وبذلك قويت شوكة المسلمين وغدوا قوّة يحسب حسابها، وذهلت قريش للصدمة، وكان الشهداء من المسلمين (14) رجلاً، وقتلى المشركين سبعين رجلاً.

 

- البقيع:

أصل البقيع في اللغة: الموضع الذي فيه أروم شجر وأصوله من أنواع شتّى، ويقال للبقيع بسبب ذلك (بقيع الغرقد)، والغرقد: كبار العوسج، والعوسج شجر كثير الشوك له ثمر أحمر مدوّر كأنّه خرز العقيق. فكان البقيع في الأصل حقلاً مغطّى بالعوسج ويقع في الطرف الجنوبي الشرقي للمدينة المنوّرة على مسافة قصيرة من قبر النبي (ص).

والبقيع أقدم مقبرة إسلامية في المدينة، وكان (عثمان بن مظعون) صاحب النبي (ص) أوّل مَن دفن فيها، وكان النبي (ص) يوصي بدفن بناته وابنه إبراهيم إلى جوار قبره، ثمّ أزيل العوسج من هذا المكان وخُصِّص ليكون مقبرة ضمّت جثامين أرواحاً مقدّسة: كالإمام الحسن (ع) والإمام علي بن الحسين (ع) والإمام محمد الباقر (ع) والإمام جعفر الصادق (ع) والسيِّدة فاطمة بنت أسد (رض) أُم الإمام علي (ع).. وقد تمنّى الكثيرون من الشعراء وغيرهم أن يدفنوا هناك.

 

 

- البَلد:

قال تعالى: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ (البلد/ 1-2).

البَلَد هي مكّة، وقد ابتدأت سورة البلد بالقسم بها كونها بلد الله الحرام التي شرَّفها ببيته الذي يحج الناس إليه كلّ عام، ولإقامة النبي (ص) فيها، ففي البلد (مكّة) أوّل مركز للتوحيد ولعبادة الله سبحانه، وكان هذا المركز مطاف أنبياء الله العظام، فالبلد استحقّ أن يُقسم به لشرفين: شرف المدينة المقدسة وشرف وجودك فيها أيُّها النبي الكريم، وشرف المكان كما يقال بالمكين.

فتكريم مكّة لما يحمله تأريخها من رسالات سماوية واحتضانها للرسالة الإسلامية الخاتمة، ولما غرسه النبي (ص) على أرضها من إباء وصبر ودعوة لله الواحد الأحد، وتطهير من الأصنام، وروح للمسامحة مع مَنْ آذاه وأمعن في الإساءة إليه.

 

- التروية:

التروية: إستسقاء الماء. ويوم التروية هو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، سُمِّي كذلك لأنّ الحجيج يردون إبلهم، ويتزوّدون فيه بالماء، استعداداً للوقوف بعرفة التي لا ماء فيها.

وقد اختلف الأمر اليوم، ففي عرفة ماء ولم يعد الحاج بحاجة إلى التروية كمن كان يفعل أيام لم تكن هناك وسائل للإسالة، وقد أشرنا إلى ذلك لأنّه كثيراً ما يرد في الأدبيات الإسلامية الخاصّة بالحج.

- التلبية:

يقال لَبّى فلانٌ الرجلَ: أجابه، وقال له: لبّيك. والتلبية في الحج هي أن يقول الحاج "لبّيك أللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". وتبدأ التلبية بعد النيّة بالحج أو العمرة وبإحرامه، وعندها يجب عليه اجتناب محظورات الإحرام.

ويستحب ترديدها حتى الوصول إلى مشارف مكّة، أي إلى بيوتها القديمة، وهذا يعني استحباب الإكثار منها ورفع الصوت بها من قبل الرجال. أمّا المرأة، فتخفت بها. وللتلبية صيغ أخرى إضافية للنصّ السابق لكن أهمّها الذي ذكرنا، إذ يجوز الإكتفاء به. أمّا الأخرس، فيُحرِّك بها لسانه وشفتيه ويشير بإصبعه بما يماثل لفظها.

والتلبية شرط أساس في انعقاد أي إحرام، فلو لم يلبّ لم ينعقد إحرامه، ويجب الإتيان بها مرّة واحدة، ويستحب أن يكرِّرها المحرم عند الإستيقاظ من النوم، وبعد كل فريضة من فرائضه، وحين الركوب، وعند كل علوّ وهبوط أثناء السفر، وعند ملاقاة الركب، ويستحب الإكثار منها في السحر حتى لو كان المحرم جُنباً أو حائضاً.

 

- التمتُّع في الحج:

حجّ التمتُّع: هو الحج الواجب على مَنْ يبعد أهله عن مكّة ستة عشر فرسخاً (86 كم)، ويجب فيه تقديم العمرة على الحج. وسُمِّي هذا الحج بحج التمتُّع لأنّ الحاج يتمتّع بفترة تحلل بين العمرة والحج، حيث يباح له فيها ما يحرم على المُحرم، ويتكوّن هذا الحج من عبادتين واجبتين، هما:

1-         عمرة التمتُّع.

2-         حج التمتُّع.

ويجب تقديم الأولى على الثاني، أي يجب على الحاج تقديم أعمال العمرة قبل موعد الحج.

 

- غار ثور:

جبل صخريّ يقع جنوب مكّة المكرّمة، وعلى مسافة خمسة أميال منها تقريباً، ضمن سلسلة الجبال السوداء ذات التركيب الجرانيتي، والتي تحيط بمكّة المكرّمة.

وعلى قمة جبل ثور، يقع الغار المشهور الذي لجأ إليه النبي (ص) وأبو بكر الصِّدِّيق أثناء الهجرة الشريفة إلى المدينة المنوّرة، وقد قضيا فيه ثلاثة أيام حتى يئست قريش من العثور على النبي (ص).

وغار ثور عبارة عن صخرة مجوّفة ذات فتحتين، الكبرى منها هي مدخله، وتحجب هذا المدخل صخرتان متقابلتان، ويرتقي إليه الصاعد على مرحلتين في طريق صخري متعرِّج.

ويعدُّ جبل ثور نقطة ممتازة للمراقبة، ويشرف الواقف على فتحة الغار على المنطقة المحيطة به كلّها، ويستطيع أن يرى مكّة المكرّمة والجبال المحيطة بها عند خط الأفق، وربما يكون هذا هو سبب اختيار النبي (ص) له مخبأ في الهجرة يقيه من أعين المشركين الذين كانوا يترصّدونه.

العجيب إنّ الله سبحانه نسج على باب الغار بيت عنكبوت، وهدى فاختة لأن تبني عشها هناك وتضع بيضتيها فيه، ولقد وصلت طلائع المتحرّين والباحثين عن النبي (ص) إلى الغار إلا أن تلك العلامات أقنعتهم أن لا أحد في الغار فلم يدخلوه.

 

- جُرهُمْ:

إحدى القبائل العربية القحطانية، كان تسكن اليمن أوّلاً، ثمّ انتقلت إلى الحجاز بعد منافسة بينها وبين أبناء العم القحطانيين، وهم حِمْيَر وسبأ.

ولمّا نزل إبراهيم (ع) بزوجته وولده إسماعيل (ع) في مكّة، وجرى ماء زمزم، استوطنت جُرهُم مكّة المكرّمة، وتزوّج إسماعيل منهم.

وكانت سدانة الكعبة المشرفة لجُرهُم أوّلاً، ثمّ انتزعتها منهم قبيلة خزاعة، فتشتَّت الجُرهميّون في البلاد.

 

- الجلوة[10]:

الجلوة تعبير صوفي عن المقام الذي يصل إليه العبد بعد (الخلوة) التي هي محادثة السرّ مع الحق تعالى، استناداً إلى الحديث القدسي: "مَنْ ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومَنْ ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيراً منه".

فالجلوة: هي خروج العبد من الخلوة بالصفات التي يرتضيها الله عزّوجل، بأن يكون متجرِّداً عن الأنانية وهي النظر إلى ذاته، وعن الرِّياء، وهو النظر إلى الخلق، بل تكون أفعاله كلّها متجهة نحو الله تعالى، أي لابدّ من العناية بالسرّ والجهر والظاهر والباطن.

 

- الجِمار:

الجمرات جمع جمرة وتجمع على جِمار أيضاً. والجمرات: ثلاثة مواضع في منى قرب مكّة المكرّمة، وهي:

1-     الجمرة الصغرى أو الأُولى: وتقع قرب مسجد الخَيف، وهي أقرب الجمرات إلى عرفات، وتسمّى أيضاً الجمرة القصوى.

2-     الجمرة الوسطى: وتبعد عن الأُولى بحوالي (156 متراً)، في الطريق السهلي بين عرفات ومنى.

3-     الجمرة الكبرى: وهي جمرة العقبة، تبعد عن الجمرة الوسطى بحوالي (116 متراً)، وهي أبعد الجمرات عن عرفات.

سُمِّيت الجمرات بهذا الإسم لأنّ الحُجّاج يرمون كلّ واحدة منها بالحصى، وذلك من مناسك الحج. وأصل رمي الجمرات أنّ إبراهيم الخليل (ع) لمّا أراد أن يذبح إبنه إسماعيل عرض له إبليس عند مواضع هذه الجمرات ليثنيه عن فعل ما أمره الله، فكان يرميه كلّما ظهر له.

ورُوِي أنّ جبرئيل (ع) ذهب بإبراهيم إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ، ثمّ أتى الجمرة الوسطى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ، ثمّ أتى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات فساخ.

 

- الحج:

الحج لغةً: القصد مطلقاً، ثمّ انسحب إلى القصد إلى معظّم. واصطلاحاً: قصد أماكن مخصوصة، وهي البيت الحرام وعرفة، بفعل مخصوص من طواف وسعي وإحرام، في أوقات مخصوصة، وهي شوال وذوالقعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة، بشروط معيّنة.

والحج ركن من أركان الإسلام، وفرض عين على كلّ مسلم بالغ، عاقل، مستطيع في العمرة مرّة واحدة، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ (آل عمران/ 97).

وقد فُرض في السنة التاسعة للهجرة، وله فوائد معنوية ومادّية كثيرة عرضنا لها خلال الصفحات السابقة. وقد حجّ النبي (ص) مرّة واحدة كانت في السنة العاشرة للهجرة، وتُسمّى هذه الحجة بحجة الوداع.

 

- حِجر إسماعيل:

حِجر إسماعيل أو (الحطيم) يقع شمال الكعبة على شكل نصف دائرة، وقد تركته قريش في بنائها للكعبة على أساس بناء إبراهيم (ع)، وعلى الحاج أن يطوف خارج الحطيم لكونه من البيت، وهو ممّا يلي الميزاب.

والحِجر قبر إسماعيل وأُمّه هاجر، وقيل إنّه سُمِّي (حطيماً) لأنّ الناس يزدحمون فيه حتى يحطم بعضهم بعضاً، وقيل لأنّ الحاج إذا ذكر ذنوبه هناك تحطّمت. وقيل بإعتبار إنكسار حالة كل مَنْ وصل إليه وزاره خضوعاً، أو لعلّه كان منكسراً في زمان.

 

- الحجر الأسود:

كتلة من حجر ضاربة في السواد، شبه بيضوي في شكله، يبلغ قطره نحو (81 سم). وقيل إنّه نزل من الجنّة، وهو أشدُّ بياضاً من اللبن فسوّدته خطايا بني آدم.

ويروى عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: "حججنا مع عمر أوّل حجّة حجّها في خلافته، فلمّا دخل المسجد الحرام دنا من الحجر الأسود فقبّله واستلمه، فقال: إنِّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنِّي رأيت رسول الله (ص) قبّلك واستلمك لمّا قبّلتك ولا استلمتك.

فقال له علي (ع): بلى يا أمير المؤمنين، إنّه ليضر وينفع، ولو علمت تأويل ذلك من كتاب الله لعلمت أنّ الذي أقول لك كما أقول، قال الله تعالى: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرِّيّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربّكم) قالوا: بلى، فلمّا أشهدهم، وأقرّوا بأنّ الربّ عزّوجل وأنّهم العبيد كتب ميثاقهم في رقّ ثمّ ألقمه هذا الحجر، وأنّ له لعينين ولساناً وشفتين يشهد بالموافاة، فهو أمين الله عزّوجل في هذا المكان.

وضع إبراهيم (ع) الحجر الأسود في الركن الشرقي من الكعبة حين رفع وابنه إسماعيل القواعد من البيت. وفي عهد النبي (ص) وقبل البعثة، أعادت قريش بناء الكعبة، فاختلفت القبائل في مَنْ سينال شرف إعادته إلى مكانه، فحكّموا أوّل وافد عليهم فكان النبي (ص) وعمره يومئذ خمس وعشرون سنة. فقالوا: هذا الأمين ارتضيناه حكماً، فبسط رداءه وحمل الحجر بيديه الشريفتين ووضعه فيه، وطلب إلى كلّ سيِّد قبيلة أن يأخذ بطرف منه، فلمّا رفعوا الرداء، حمله النبي (ص) بيديه وثبّته في مكانه بعد أن قبَّله.

وبه يبدأ الطواف، قال رسول الله (ص): "استلموا الركن فإنّه يمين الله في خلقه يصافح بها خلقه مصافحة العبد، أو الدخيل، ويشهد لمن استلمه بالموافاة"!

وعن الإمام الصادق (ع): "إذا دنوت من الحجر الأسود فارفع يديك واحمد الله، واثنِ عليه، وصلِّ على النبي (ص) أن يتقبّل منك، ثمّ استلم الحجر وقبِّله، فإن لم تستطع أن تُقبِّله فاستلمه بيدك، فإن لم تستطع أن تستلمه فأشِّر إليه، وقل: أللهمّ أمانتي أدَّيتها، وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة".

 

- الحَجُون:

الحَجُون لغةً: من حجن العود: عطفه وثناه. والحُجُون: جبل بأعلى مكّة عند (المُحصَّب)، فيه إعوجاج، يبعد عن البيت قرابة الميل ونصف الميل. وقيل: كانت الحَجُون مقبرة أهل مكّة.

- الحديبية:

الحديبية كما في (لسان العرب): موضع، وورد ذكرها في الحديث كثيراً، وهي قرية قريبة من مكّة، سُمِّيت ببئر فيها، وهي مخففة، وكثير من المحدِّثين يشدِّدونها.

وأمّا صلح الحديبية، فخلاصته أنّ النبي (ص) رأى في المنام أنّه دخل مكّة هو وأصحابه آمنين، محلِّقين رؤوسهم ومقصِّرين، وأنّه دخل البيت وأخذ مفتاحه وطاف مع أصحابه واعتمر، ثمّ أعلم أصحابه أنّه يريد العمرة، وغادر المدينة مع (400) من المسلمين، ولمّا سمعت قريش بخروجه (ص) استنفروا وجعلوا على الجبال عيوناً تراقب المسلمين، وتعاهدوا على منعهم من الدخول إلى مكّة.

نزل النبي (ص) الحديبية وأرسلت قريش ممثلاً عنها يستطلع هدف المسلمين، فقال له النبي (ص): "إنّا لم نأتِ لقتال أحد، ولكنّا جئنا معتمرين".

وبينما المسلمون جلوس تحت شجرة سُمرة، نادى منادي رسول الله (ص): البيعة، فبايعه المسلمون على عدم الفرار، فإمّا الفتح وإمّا الشهادة، وتُسمّى بـ (بيعة الرضوان)، ثمّ استقرّ الأمر بين رسول الله (ص) وبين قريش على الصلح ووضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، وأن يرجع النبي (ص) وأصحابه ليدخلوا الكعبة العام المقبل، وأمر رسول الله (ص) المسلمين بالنحر والحلق بعد أن فعل ذلك، فتبعوه.

وكان الصلح اعترافاً رسمياً من قريش بأنّ رسول الله (ص) ومَنْ معه قوّة مستقلة. كما كان فرصة ذهبية للإتصال بالقبائل فأسلم في سنتين من الصلح عدد مَنْ أسلم قبلهما، وأعاد الصلح فتح طريق القوافل المارّة بالمدينة، وعزل قريشاً عن حلفائها من اليهود، ودخل رسول الله (ص) العام القادم مكّة معتمراً وفق نصّ الصلح.

- حـراء:

جبل يقع شمال شرق مكّة المكرّمة، ويبعد عن المسجد الحرام حوالي (5 كم). وهو جبل صخري جرانيتي. ويوجد في أعلى هذا الجبل غار أو كهف صغير، ذو مدخل ضيِّق. وفي هذا الغار كان النبي (ص) قبل البعثة يتعبّد ويتحنّت لله تبارك وتعالى.

وفيه أيضاً نزلت أولى آيات القرآن الكريم عليه (ص): ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق/ 1-5).

وكانت عادة رسول الله (ص) أن يجاور في حراء شهراً من كلّ سنة، وهو شهر رمضان يعبد ربّه تعالى قبل أن ينزل عليه الوحي. ويروى أنّ زوجته خديجة (رض) كانت تأتيه بالطعام إلى الغار دون علم من قريش.

وعلى سفح هذا الجبل المنوّر، وقف (عبدالمطّلب) جدّ النبي (ص) معتصماً به يوم غزا (أبرهة الحبشي) البيت الحرام.

ويذكر صاحب (الموسوعة الإسلامية الميسّرة) أنّ قواعد الكعبة المشرّفة بنيت من حجارة جبل حراء.

 

- الحرم المكّي:

الحرم من الحرام أو الممنوع، وتطلق في القرآن على: الكعبة ومكّة، والمنطقة المحيطة بها ضمن حدود معيّنة لتحريم الله عزّوجل فيها ممّا ليس بمحرّم في غيرها.

يقول النبي (ص): "إنّ هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة"[11].

وقد أصبح لكلمة الحرم دلالة خاصّة على البناء المخصَّص داخله للصلاة، مع بقاء حكم الحرم على مكّة وما يحيط بها ممّا حرَّمه الله. ويعدّ الحرم المكّي أوّل مسجد وضع على الأرض منذ أيام أبينا آدم (ع) وهو أوّل بانٍ له.

وكان الحرم -في زمن رسول الله (ص)- بحسب الموسوعة الإسلامية الميسَّرة، يشمل بناء الكعبة والفضاء المحيط بها دون جدار يفصله عمّا حوله. وللمسجد الحالي سبع مآذن تتوزّع في كلّ زاوية منه، ويمتد المسعى على الجهة الشرقية منه، وقد كان خارج المسجد لكنه أدخل في المسجد في التوسعات الأخيرة.

 

- حُنين:

حُنين منطقة قريبة من الطائف، وقد وقعت الغزوة الشهيرة في واديها فَسُمِّيت بإسم المنطقة ذاتها، وقد عبّر عنها في القرآن بـ (يوم حُنين) ولها أسماء أخرى وهي: (غزوة أوطاس) و(غزوة هوازن) أيضاً. وأوطاس أرض قريبة من حُنين، وهوازن إحدى القبائل التي شاركت في الغزوة.

أمّا كيف حدثت، فبحسب ابن الأثير في (الكامل)، أنّ هوازن لمّا علمت بفتح مكّة، جمع القبيلة رئيسها (مالك بن عوف) وخوّفهم من أنّ محمداً (ص) قد يغزوهم فليبدأوه قبل أن يفعل، فلمّا بلغ النبي (ص) ذلك، أمر المسلمين أن يتوجّهوا إلى أرض هوازن، وعقد النبي (ص) اللواء وسلّمه علياً (ع) وأمر بالتوجُّه إلى حُنين، وكان عدد المسلمين (12) ألفاً، وأمر مالك بن عوف رجاله بالإختباء في كهوف الجبال والوديان وبين الأشجار ليحملوا على المسلمين ويبيدوهم، وبالفعل فقد فوجئ المسلمون بهجوم هوازن عليهم من كلّ جانب وفرّ الكثير منهم، وكان النبي (ص) في قلب الجيش وحوله بنو هاشم. فأمر النبي (ص) عمّه العباس -وكان جهير الصوت- أن يصعد تلاً وينادي: يا معشر المهاجرين والأنصار، يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إلى أين تفرّون؟ هذا رسول الله (ص). فلمّا سمع المسلمون صوته رجعوا وحملوا حملة شديدة انهزمت فيها هوازن، وأبدى النبيُّ (ص) حبّه وصفحه، فأسلم رئيسهم (مالك بن عوف) وردّ عليه النبي (ص) أموال قبيلته وأسراه، وصيّره رئيس المسلمين في قبيلته.

وكان السبب في هزيمة المسلمين بادئ الأمر غرورهم وكثرتهم. أمّا السرّ في انتصارهم النهائي، فثبوت الثابتين على المبدأ.

 

- الخندق:

عندما يعود الحاج من زيارة قبور شهداء أُحُد في ضواحي المدينة المنوّرة، يمرّ في طريقه وهو متجه إلى مركز المدينة ومسجد الرسول (ص) بالمكان الذي وقعت فيه معركة الخندق أو ما يطلق عليها بمعركة الأحزاب.

وكان سبب هذه الغزوة هو تحريض اليهود من بني النضير الذين تمّ إجلاؤهم عن المدينة، لقريش وغطفان، حيث تعاقدت قريش على المضي لإستئصال المسلمين بقيادة أبي سفيان، فأرسلت (خزاعة) وكانت في حلف مع المسلمين الخبر إلى المدينة، فجمع النبي (ص) المسلمين وتشاور معهم، فأشار عليه سلمان الفارسي (رض) بقوله: "إنّا كنّا بأرض فارس إذا تخوّفنا الخيل، وإذا حوصرنا خندقنا حولنا". فأعجب الجميع بالفكرة وباشر المسلمون بحفر الخندق بناءً على توجيهات النبي (ص)، وكان عدد المشتركين في حفره ثلاثة آلاف وكان نصيب كل واحد منهم أربعة أذرع، فكان طول الخندق (000ر212 ذراع)، أي ما يعادل الـ (5544 متراً).

أمّا العرض، فكان عشرة أذرع، واستغرق حفر الخندق مابين (9 - 10) أيام، ولم يكن الأحزاب قد وصلوا إلى المدينة إلا بعد (14) يوماً من وصول خبر خروجهم. وعسكر النبي (ص) في سفح جبل (سَلْع) وجعل ظهر الجيش إلى الجبل والخندق بينه وبين الأحزاب.

فلمّا نظر المشركون إلى الخندق، قالوا: والله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، وحاول البعض قفزه فسقط فيه، فكان التراشق بالنبل والحجارة مع المسلمين وأقنعت قريش بني قريضة بنقض عهدهم مع المسلمين، فاستجابوا.

وفي هذه المعركة نادى بطل المشركين (عمرو بن عبد ودّ العامري) المسلمين أن يبارزوه، فخرج إليه الإمام علي بن أبي طالب (ع) وقتله، فكبَّر المسلمون، وفرّ باقي المشركين، وعندها قال النبي (ص): "ضربة علي يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين". وكان قد قال قبل مبارزته لعمر: "خرج الإيمان كلّه إلى الشِّرك كلّه" بعد أن رفض المسلمون مبارزته خوفاً من بطشه.

وقد استخدم المسلمون في هذه المعركة الحرب النفسية، حيث قال النبي (ص) لنعيم بن مسعود: "إنّما أنت رجل واحد فخذّل عنّا ما استطعت فإنّ الحرب خدعة"، فانطلق إلى بني قريضة وأشار عليهم أن يأخذوا سبعين رجلاً من قريش توثيقاً لكلامهم وحلفهم معهم، كي لا يتركوهم ويهربوا، فأعجبهم ذلك.

ثمّ ذهب إلى الأحزاب وأخبرهم بأنّ اليهود ندموا على نقضهم العهد ويريدون أخذ رهائن منكم ليسلموهم إلى محمد فيقتلهم، فتصدّعت صفوف الأحزاب وانفرط عقد الشِّرك واليهود.

وبعد انتهاء المعركة، قال النبي (ص): "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا".

 

- خيبر:

كانت خيبر مركزاً للتحرّكات المناوئة للإسلام، وكان النبي (ص) يتحيّن الفرص لتدمير مركز الفساد والمؤامرات هذا. فتحرّك بألف وأربع مئة شخص من المسلمين ممّن حضروا الحديبية نحو خيبر.

فلمّا وصل النبي (ص) قريباً من قلاع خيبر، أمر أصحابه أن يقفوا ثمّ رفع رأسه الشريف للسماء ودعا قائلاً: "أللهمّ ربَّ السماواتِ وما أظلَلنَ، وربّ الأرضين وما أقللن، نسألك خير هذه القرية وخيرَ أهلها، ونعوذ بك من شرِّها وشرِّ أهلها وشرِّ ما فيها، ثمّ قال: أقدموا بإسم الله"، فوصلوا خيبر ليلاً، وعندما أصبح الصباح وجد أهل خيبر أنفسهم محاصرين من قبل جنود الإسلام، ثمّ فتح النبي (ص) القلاع قلعة بعد أخرى حتى بلغ أقوى القلاع وأمنعها، وكان فيها (مرحب) قائد اليهود المعروف.

فأعطى النبي (ص) الراية للخليفة الأوّل، غير انّه عاد ولم يُحقِّق شيئاً، وهكذا الثاني، فقال (ص): "والله لأعطينها غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله يأخذها عنوة".

وكان علي (ع) مصاباً بوجع في عينه، فوضع النبي (ص) ريقه في عينه، فبرأت، وأعطاه الراية، فتوجّه نحو القلعة الكبرى، فسأله يهودي: مَنْ أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب، فنادى اليهودي: أيّتها الجماعة، حان اندحاركم. ونازل (مرحب) علياً فضربه ضربة هوى أثرها صريعاً والتحمت الحرب بين المسلمين واليهود، فاقترب علي (ع) من باب الحصن، فقلعه، فدخل المسلمون القلعة فاتحين، واستسلم اليهود، وأودع النبي (ص) الأرض والأشجار بأيدي اليهود على أن يعطوا المسلمين نصف حاصلها[12].

 

- الخَيفْ:

الخَيف لغةً: اسم للمكان الذي يكون أسفل سفح الجبل، إلا أنّه يرتفع عن مسيل الماء، وقد سمّى العرب باسم (الخَيف) أمكنة متعدِّدة، منها (خيف منى) وهو موضع المسجد المشهور باسم مسجد الخَيف، ويروى أنّ أبانا آدم (ع) مدفون في موضع من هذا المسجد (وبالطبع فإنّ هناك رواية أخرى تشير إلى أنّه مدفون في النجف الأشرف بالعراق إلى جوار مدفن الإمام علي (ع) ).

ويذكر أنّ (70) من الأنبياء (ع) صلّوا في ذلك المكان، وقد صلّى فيه رسول الله (ص) صلاة الفجر في حجة الوداع.

وهناك خَيف آخر يُسمّى بـ (خيف بني كنانة) أو (المحصَّب) وهو موضع من منى أيضاً، وفيه تقع الجمار الثلاث التي يرجمها الحجاج. وقيل في هذا الموضع نزل رسول الله (ص) لمّا نفر من عرفات في حجة الوداع، وفي هذا الموضع أيضاً اجتمع زعماء قريش وقرّروا محاصرة المسلمين في شعب أبي طالب في السنة السابقة للبعثة.

- دار الأرقم:

الأرقم بن أبي الأرقم (عبدالله بن أسد المخزومي) صحابي من السابقين إلى الإسلام. اعتنق الإسلام يافعاً، ويقال أنّه كان سابع سبعة أسلموا، وقدّم داره الكائنة على (الصفا) للنبي (ص) ليلتقي فيها مع أصحابه، فاستمرّ رسول الله (ص) على ذلك.

وكانت دار الأرقم أوّل مكان يجمع بين المسلمين ليأخذوا عن رسول الله (ص)، فكانت بمثابة معهد لتعليم الإسلام والقرآن والأحكام الدينية بعيداً عن أنظار قريش، حتى عرفت دار الأرقم بـ (دار الإسلام).

 

- دار السلام:

يرد تعبير (دار السلام) في بعض التلبيات والأدعية التي يُردِّدها حجّاج بيت الله الحرام. ودار السلام اسم للجنّة. يقول الراغب الإصفهاني في مفرداته: "والسلامة الحقيقية ليست إلا في الجنّة، إذ فيها بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعزّ بلا ذلّ، وصحّةٍ بلا سقم".

 

- دار الندوة:

الندوة والنديّ والنادي: مجلس القدم ومتحدِّثهم، يلتقون فيه للبحث والمشاورة.

و(دار الندوة) دار بناها (قصي بن كلاب) وجمع فيها قبائل قريش لمّا أخذ مفتاح الكعبة من خزاعة. ولمّا جاء (هاشم بن عبد مناف) وضع في هذه الندوة الرفادة، وهي ما تخرجه قريش من أموالها في الجاهلية، وما يدفعه كلّ قرشيّ من ماله بقدر طاقته لإطعام الحجاج وسقايتهم في موسم الحج، فكانت له هذه السابقة، ثمّ بقيت الرفادة في بني هاشم.

- ذو الحجّة:

هو الشهر الأخير من السنة الهجرية، سُمِّي بذلك لأنّ الحج إلى مكّة وما يصحبه من مناسك يتم فيه، وهو من الأشهر الأربعة الحُرم، ويعدّ أكثرها مزية وفضلاً، وقيل إنّ القسم في قوله تعالى: ﴿وَلَيالٍ عَشْرٍ﴾ (الفجر/ 2)، قسم بلياليه الأوّل لأنّها وقت أعمال الحج ومناسكه.

 

- ذو القبلتين:

(ذو القبلتين): لقب مسجد صغير كان في ضواحي المدينة المنوّرة على عهد رسول الله (ص)، وكان يقال له: مسجد بني سَلَمة.

وسُمِّي بذي القبلتين لأنّ رسول الله (ص) صلّى فيه صلاة واحدة، هي صلاة العصر، اتّجه في ركعتين منها إلى بيت المقدّس، وفي الركعتين الأخيرتين منها إلى الكعبة المشرفة، وقد نزل قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ (البقرة/ 144).

والرسول (ص) يُصلِّي في (مسجد بني سلمة)، فأخذ جبريل (ع) بكتفيه وحوّله إلى الكعبة وهو في الصلاة، وتحوّل معه المصلّون، فسُمِّي المسجد الذي وقعت فيه هذه الحادثة بذي القبلتين، ويقصده آلاف الحجاج في كل عام للتبرُّك بالصلاة فيه، فلتكن ممّن تشهد لك بقعته أنّك صلّيت عليها.

حادثة تحويل القبلة -كما يذكر المؤرِّخون- وقعت في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة.

 

- زمزم:

زمزم لغةً: الماء الكثير الغزير، ويقال: زمزم الرجل الماءَ، أي شربه بسرعة. وزمزم بئر معروفة مشهورة تقع في صحن المسجد الحرام بمكّة المكرّمة قرب الكعبة وقبالة الحجر الأسود، وبين زمزم وبين الكعبة مقام إبراهيم، وتعرف بـ (بئر إسماعيل) أيضاً. وتتصل قصته بقصة هاجر وابنها إسماعيل التي سبقت الإشارة إليها.

ويقال إنّ قبيلة (جرهم) التي مرّ التعريف بها طمرت هذه البئر قبل نزوحِها من مكّة، وظلّت معطّلة إلى أن جاء (عبدالمطلب) جدّ النبي (ص) فكشف عن مكانها واحتفرها من جديد وأخرج ماءها للناس، ثمّ أقام عليها سوراً من الحجر. ويبلغ عمقها مئة قدم. وفي حجة الوداع بعدما نحر النبي (ص) وطاف بالبيت، ثمّ صلّى الظهر، أتى على بني عبدالمطلب يسقون على زمزم، فقال: "انزعوا بني عبدالمطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم"، فناولوه دلواً فشرب منه.

وقال رسول الله (ص): "ماء زمزم لِما شُرب له" أي بنيّة الشارب وعلى مقصد الطالب، وبرغبة الراغب.

هذا وقد أشار بعض المهندسين المشرفين على نزح البئر من العملات التي كانت تلقى فيه على مختلف العصور، أنّه اكتشف أنّ زمزم متصلة بالحجر الأسود، أي أنّ منبعها من تلك الجهة، والعهدة على الراوي، المهم أنّ كثيراً من الآبار قد تجف وتكفّ عن السقيا، إلا أنّ بئر زمزم شاءت إرادة الله أن تبقى تضخّ ماءها إلى يوم الدين، وأن تبقى ما بقيت الكعبة وبقي الحج.

 

- السعي:

السعي لغةً: المشي السريع، وهو دون العدو، ويستعمل للجدّ في الأمر خيراً كان أم شرّاً. والسعي في القرآن الكريم هو رمز على حركة الإنسان المكلّف في هذا الكون، توجّهه في مسارات الخير والشرّ، ولذلك كانت العاقبة يوم القيامة تقع على حصيلة سعي الإنسان في الدنيا، قال تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى﴾ (النجم/ 39-41).

وبالنسبة للحاج، فالسعي هو السعي بين الصفا والمروة، وهو واجب من واجبات الحج والعمرة، وقصّته مرتبطة بقصّة السيِّدة هاجر (رض) حينما راحت تبحث لوليدها إسماعيل (ع) عن الماء بين الجبلين، حيث قامت على (الصفا) واستقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر شيئاً، فهبطت من الصفا ثمّ سعت سعي الإنسان المجهد حتى جاوزت الوادي، ثمّ أتت (المروة) فقامت عليها تنظر فلم ترَ أحداً، وقد فعلت ذلك سبع مرّات، ويروى عن رسول الله (ص) أنّه قال: "فذلك سعي الناس بينهما"!

ولعلّ هرولة الساعي بين الميلين الأخضرين (للرجال فقط) كان من ضمن سعي هاجر أيضاً، لأنّ الساعي الباحث عن شيء، قد يغذّ السير بحثاً عن مطلبه، وهو مجرّد احتمال.

 

- شِعب أبي طالب:

الشِعب هي الفجوة بين جبلين، أو المساحة التي يتاح للمتنقِّل بين الجبال أن يسلكها وصولاً إلى مقصده، ولذلك شاع "أهلُ مكّةَ أدرى بِشعابها".

واقترن (شعب أبي طالب) بـ (حصار الشعب) في السنة السابعة للبعثة، فقد رأت قريش أنّ المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة قد استقرّ بهم المقام الآمن عند النجاشيّ وغدا الإسلام يفشو بين القبائل، وأنّ مَنْ بقي في مكّة أخذ يجاهر بدينه. فاجتمعت قريش وتداول وجهاؤها بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، وكتبوا في ذلك صحيفة، ثمّ تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، وعلّقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، فلمّا فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وأقاموا في الشعب ثلاث سنين، أصابهم الجوع الشديد والضيق. وكان بعض رجال قريش قد نقض الوثيقة وكان يصل المحاصرين بالطعام سرّاً.

وكان رسول الله (ص) قد أخبر عمّه أبا طالب بأنّ الله سَلَّطَ الإرضة على صحيفة قريش فلم تدع إسماً هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان، فقال أبو طالب (رض): أربّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم. فأخبر أبو طالب قريشاً الخبر، فلمّا نظروا فيها، وجدوه صحيحاً، كما قال رسول الله (ص).

وقد مات في الشعب من أثر الحصار أُمّ المؤمنين السيِّدة خديجة (رض) زوج النبي (ص) وتبعها عمّه أبو طالب، وقد سمّى (ص) ذلك العام بـ (عام الأحزان) لفقدانه أكبر ناصرين من أنصاره.

 

- الشيطان:

الشيطان لغةً: مَنْ (شطن) أي تباعد، وقيل هو مَنْ (شاط) أي احترق، والأوّل أصحّ. والشاطن: الخبيث. والشيطان اسم لكلّ مؤذٍ وخبيث، ومنه سمّى العرب نوعاً من الحيّات الشديدة الإيذاء (الشيطان).

والشيطان لقب لإبليس الجنّ (لعنه الله) ويطلق على كل كافر وخبيث وضالّ ومؤذٍ من المخلوقات كلّها. ولُقِّب إبليس بالشيطان لعصيانه واستكباره وعتوّه.

ولا يكفي الحاج أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لفظاً (باللسان)، أو يرجمه بالحجر (بيده)، بل لابدّ أن يطرده -ما استطاع إلى ذلك سبيلاً- من فكره وقلبه وسلوكه وعلاقاته.

- الصفا والمروة:

في اللغة (الصفا): مَنْ صفا يصفو إذا خلص، والصفا كلّ حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب متصل به. و(المروة) جمعها مرو، وهي حجارة بيض رقاق تقدح منها النار.

والصفا والمروة هما هضبتان صغيرتان من الأرض بجانب الكعبة المشرفة، تقع (الصفا) في الجهة الجنوبية الشرقية للحرم المكّي، في أصل جبل أبي قبيس، وتقابلها (المروة) وتقع في الجهة الشمالية الشرقية، وبينهما مسافة قدرها (450 متراً) تُسمّى (المسعى) يسعى الحجاج والمعتمرون بينهما وجوباً سبعة أشواط، يبدأونها بـ (الصفا) ويختمونها بـ (المروة).

ولما يرتبط بتأريخ (الصفا)، أنّ النبي (ص) وقف عليها عندما نزل قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ (الشُّعراء/ 214). ويروى أنّ في حادثة شق القمر ذهب شق باتجاه الصفا وآخر باتجاه المروة. كما يذكر المؤرّخون أنّه (ص) جلس في يوم الفتح على الصفا وجاءت قريش تبايعه على الإسلام هناك.

ويشير المؤرّخون أيضاً إلى أنّ ما نشهده اليوم هو بقايا الصفا والمروة، أي بضع صخرات ترمز إلى تأريخهما.

يقول أحد الكُتّاب: "مَنْ (صفا) وصل للسعي الحق، ونال (المروؤة)".

 

- الصيد:

قال تعالى: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ (المائدة/ 96).

ولقد سأل (يحيى بن أكثم) الإمام محمد بن علي الجواد (ع) في حضرة الخليفة العباسي المأمون عن هذا الصيد، قائلاً: "ما تقول في مُحرِم -الإنسان أثناء الإحرام في الحج- قتل صيداً؟ فقال له الإمام الجواد (ع): قتله في حلّ أو حرم؟ عالماً كان المُحرِم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأً؟ حُرّاً كان العبد أم عبداً؟ صغيراً كان أم كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد كان أم كبارها؟ مُصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهاراً؟ مُحرِماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان مُحرماً؟!".

الأمر الذي يعني أنّ لقتل الصيد أثناء الإحرام أحكاماً عديدة يحسن الحاج التفقُّه بها إن كانت موضع إبتلاء بالنسبة له، وعلى نحو العموم لا يحلّ للمحرم الصيد أثناء إحرامه في دائرة الحرم، أي مكّة وما حولها، بل لا يجوز قتل حيوان أو جرحه أو كسر عضوٍ منه، بل ومطلق إيذائه، ولا فرق بين مُحَلَّل الأكل أو مُحرَّمِه، والحرمة مختصّة بصيد البرّ فقط. وأمّا صيد البحر، فلا بأس به، ولحرمة صيد البرّ مستثنيات كقتل الحيوان الوحشي، ولكل حاج اتّباع رأي مَنْ يرجع إليه في ذلك.

 

- الطواف:

يقال طاف حول الشيء: دار حوله، وطاف بالبيت أو حول الكعبة المشرفة، دار حولها بنيّة العبادة في الحج أو العمرة أو بدونهما. والطواف مخصوص بالكعبة المشرفة لتعظيمها. وطواف المسلمين بالكعبة عنوان على الإلتفاف حول المبدأ الواحد (مبدأ التوحيد)، وعبادة الله الواحد.

وكيفية الطواف -كما هو معلوم- سبعة أشواط يبدأ كل شوط من الحجر الأسود وينتهي عنده على أن يجعل الطائف البيت إلى يساره، وأن يطوف من وراء الحطيم (أي خارج حجر إسماعيل)، وأن تكون الأشواط السبعة متتالية، أي يتابع بينها من دون فصل.

المهم هنا أنّه ينبغي على الحاج أن يتحسّس عظمة الله في طوافه، وأن يستشعر في قلبه الخشوع والسكينة، وأن يتأمّل أنّ الطواف ببيت الله تعالى يحتّم عليه أن لا يطوف ببيوت الظالمين والكافرين والتي تملأها معصية الله عزّوجل، وأن يجعل حياته طوافاً حول طاعة الله وابتغاء رضوانه.

 

- عرفة، عرفات:

جبلٌ يقع غربَ مكّة على بُعد (10 كم)، والوقوف فيه هو الركن الأساس من أركان الحج ولا يصحّ الحج إلا به، لقوله (ص): "الحج عرفة". وعرفة كلّها موقف، وزمن الوقوف فيه من زوال الشمس اليوم التاسع من ذي الحجة إلى غروبها.

والمقصود من الوقوف في عرفات ليس ما يقابل الجلوس، بل مأخوذ من (التوقف). فالحاج في مسيرة وأوّل محطاتها، أو أوّل موقف له هو (عرفات)، والأفضل الوقوف في السفح من مسيرة الجبل، كما في الروايات التي حكت حجّ رسول الله (ص).

ويوم عرفة وعرفات من أهمّ الأزمنة والأمكنة التي يتعرّض فيها الحاج لرحمة الله تعالى وعطاياه وجوائزه ومغفرته ورضوانه. ويستحب هناك التفرُّغ للدعاء والتوجّه إلى الله تعالى.

أمّا لماذا سُمِّيت عرفات، ففي ذلك أقوال؛ منها:

1- أنّ آدم (ع) حين هبط من الجنّة عرف حواء (ع) وعرفته في هذا الجبل.

2- أنّ الناس يتعارفون فيها في الحج، لإجتماعهم جميعاً في ذلك الموقف.

3- أنّه مكان معظّم معروف مشهور، فكأنّه لشهرته عُرِّف فَعُرِف.

 

- العُمرة:

العُمرة لغةً: الزيارة، وقيل: القصد إلى مكان عامر. واصطلاحاً: هي زيارة بيت الله الحرام للنسك. وسُمِّيت عمرة لأنّها تُفعل في العمر كلّه، وفي أي وقت فيه، خلافاً للحج، فهو فرض عين في العمر مرّة واحدة ولمن استطاع إليه سبيلاً وفي أشهر معلومات. وأعمالها: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير. وتصحّ في جميع أيام السنة، وأفضل أوقاتها شهر رمضان، حيث روي أنّ النبي (ص) قال: "عمرةٌ في رمضان كحجة معي"[13].

وقد اعتمر النبي (ص) أربع، عَمَر كلهنّ في ذي القعدة إلا التي في حجّته.

- العيد:

العيد لغةً: اليوم الذي يعود فيه الفرح أو الحزن، وما اعتادك من شوق، أو همّ، أو مرض ونحوه، وهو الموسم، وكلّ يوم فيه جمع. وقيل سُمِّي العيد عيداً لأنّه يعود كلَّ سنة بفرح مجدَّد. وعَيَّد المسلمون: شهدوا عيدهم. وقيل: العيد: عَودٌ منتَظرٌ بحالٍ فُضلى.

وللمسلمين عيدان يحتفلون بهما بعد تعب وجهد وإنجاز: عيد الفطر الآتي بعد صوم شهر رمضان، وعيد الأضحى الواقع بعد أداء مناسك الحج، ويُسمّى عيد النحر. وللعيد صلاة مسنونة وله مستحبات كثيرة، أهمّها (التكبير) فقد ورد "زيّنوا أعيادكم بالتكبير"[14].

والمهم في العيد ليس لبس الجديد، بل كما رُوِي عن الإمام علي (ع): "هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه، وكلّ يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد".

 

- غدير خُم:

إسم مكان يقع بين مكّة والمدينة، قرب الجحفة، قيل في معنى إسمه أموال أرجحها أنّه اسم غيضة كثيرة الشجر وفيها غدير ماء، فنسب إليها.

وقد اشتهر هذا المكان وذاع إسمه منذ أن وقف فيه رسول الله (ص) في طريق عودته من حجة الوداع، حيث خطب في الناس، بعدما نزل عليه جبرئيل بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة/ 67).

فأعلن (ص) بأمر السماء أنّ خليفته من بعده هو الإمام علي (ع)، وقال: "ألستم تعلمون، أو أوَلستم تشهدون أنِّي أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى. قال (ص): مَنْ كنت مولاه فهذا علي مولاه، أللهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر مَنْ نصره، واخذل مَنْ خذله".

فهنّأ المسلمون علياً (ع) بالخلافة وإمارته على المؤمنين، فنزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة/ 3).

وعدّ ذلك اليوم عند أتباع مدرسة أهل البيت (ع) عيداً، وقد ورد في الروايات عن أئمّتهم أنّه ما نودي بشيء بمثل ما نودي بالولاية.

 

- فتح مكّة:

حصل في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، حيث جهّز النبي (ص) جيشه من دون أن يُعلِنَ وجهته، فلمّا وصلوا مكّة أمر بتطويقها من جهاتها الأربع، وأمر (ص) أن لا يقتل إلا مَنْ قاتل، ونادى بعض المسلمين: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحُرُمَة".

فأمر (ص) مناديه أن ينادي: "اليوم يوم المرحمة، اليوم تُحمى الحُرُمة، وأن ينادي بالأمان لكل مَنْ وضع سلاحه ودخل بيته أو دخل بيت أبي سفيان، ثمّ خاطب قريشاً: ما تروني أنِّي فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. فقال (ص): أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريبَ عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء"!! وأمر بلالاً، فعلا الكعبة وأذّن للصلاة بعدما أمر علياً (ع) بإسقاط وتحطيم جميع الأصنام التي كانت هناك حتى يُطهِّر الكعبة منها، ثمّ أتى الصفا واجتمع الناس إليه يبايعونه رجالاً ونساءً.

ويقال إنّه (ص) دخل مكّة على بغلته وهو مطرق يثني على الله ويُسبِّحه، لقوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ (النصر/ 1-3).

 

- قباء:

أوّل مسجد بُنِي في الإسلام، بناه المسلمون المتقدِّمون في الهجرة مع إخوان لهم من الأنصار بناءً على رأي الرسول (ص) وترسيمه. ولمّا هاجر رسول الله (ص) ووصل قباء، صلّى بالمسلمين فيه، ويقال إنّه هو الذي خصّه الله بقوله: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ (التوبة/ 108).

 

 

- القبلة:

القبلة هي الكعبة المشرفة وسُمِّيت قبلة لأنّ المسلمين يتجهون إليها في الصلاة ويقابلونها. وقد بقي المسلمون يصلّون تجاه المسجد الأقصى سبعة عشر شهراً، ثمّ تحوّلوا تجاه الكعبة المشرفة[15].

والتوجُّه إلى الكعبة (القبلة) شرط من شروط صحّة الصلاة، ويمكن التأكُّد من ذلك إمّا بالبوصلة (الحُكّ)، أو عين الشمس، أو القمر. ويعهد توجُّه المسلمين إلى قبلة واحدة (مكان واحد) في وقت واحد (أي صلاة مفروضة) عاملاً من عوامل وحدة وتوحيد المسلمين وربطهم بالكعبة البيت الحرام وما ينطوي عليه من دلالات. فالكعبة هي قبلة المسلم في صلاته أينما كان بلده. ويستحب للمسلم أن يستقبل القبلة في كل عمل عبادي وتعليمي من قراءة القرآن، والذِّكر، والدُّعاء، والتعليم بأن يجلس المعلم بإتجاه القبلة، ففي الحديث: "خير الأعمال ما استقبلت به القبلة".

 

- المباهلة:

المباهلة لغةً: الملاعنة، وتباهل القوم: دعوا على الظالم منهم أن ينزل الله عليه عذاباً. ومعنى المباهلة: أن يجتمع الفريقان المختلفان في مسألة ما، يدعو كلّ واحد منهما باللعنة على مَنْ كان ظالماً في هذا الأمر.

وسبب نزول آية المباهلة في القرآن هو أنّ وفداً من نصارى نجران قدموا المدينة المنوّرة ليجادلوا النبي (ص) في عيسى (ع)، فلمّا أصرّوا على جدالهم أنزل الله تعالى قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران/ 59-61).

فخرج النبي (ص) ومعه إبناه الإمام الحسن والحسين (ع) وابنته السيِّدة فاطمة الزهراء (ع) وأخوه في الله وصهره وابن عمّاه علي بن أبي طالب (ع)، فدعا وفد نجران إلى المباهلة، فقال أسقف نجران: "يا معشر النصارى، إنِّي لأرى وجوهاً لو دعت الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا"، ثمّ صالحوا النبي (ص) على جزية يؤدُّونها إليه، وعادوا إلى بلادهم.

 

- المدينة المنوَّرة:

تعرف المدينة بـ (أل) التعريف يعني أنّها إسم علم يراد به مدينة رسول الله (ص) ثاني الحرمين الشريفين، ومُهاجَر رسول الله (ص)، ومدفنه.

ويقال إنّ للمدينة ثمانين إسماً، منها: يثرب، المدينة، طيبة، طابة، دار الهجرة، الإيمان، وقبة الإسلام.

توجد المدينة المنوَّرة في واحة خصبة من الجزيرة العربية، وعرفت منذ العصر الجاهلي كمنطقة زراعية، وأعطى ذلك أهلها طابع الإستقرار.

يرجع تأريخ المدينة إلى ماقبل ميلاد السيِّد المسيح (ع)، وجاء ذكرها في الكتابات القديمة. وتذكر الروايات أنّ نبي الله موسى (ع) بعث لقتال العماليق (سُكّانها) وتمكّن البعث من قتل ملكهم (الأرقم) ثمّ استقرّوا بها.

وتحوّل تاريخ المدينة بهجرة النبي (ص) إليها في (8) ربيع الأوّل عام (622هـ)، حيث أصبحت موئلاً لكلّ المسلمين، وكانت الهجرة إليها قبل فتح مكّة حكماً تكليفياً.

وقد شهدت دماراً وتخريباً وقتلاً فظيعاً في العهد الأُموي أيام يزيد بن معاوية في (وقعة الحرّة) التي استبيحت المدينة فيها ثلاثة أيام لم تترك فيها حرمة إلا وانتهكت ناهيك عن السلب والنهب.

وتضمّ المدينة مجموعة من المساجد الأثرية إلا أنّ أكثرها أزيل واندثر.

 

- المسجد النبوي الشريف:

شُيِّد هذا المسجد من قِبَل النبي (ص) وصحابته الكرام، في الموضع الذي بركت فيه ناقته، يوم وصوله إلى المدينة المنوَّرة مهاجراً، وشُيِّدت إلى جانبه بيوت أزواج النبي (ص)، وكان في ركنه الشمالي صفّه (ظُلّة) يأوي إليها الغرباء والفقراء، وقد مرّ التعريف بأهل الصفّة في هذا الكتاب، فراجع.

وكان بيت الإمام علي (ع) ملحقاً به أيضاً. وحين جاء أمر غلق أبواب الصحابة التي تطلّ على المسجد، أبقى باب علي مفتوحاً بأمر السماء.

يضمّ المسجد النبوي قبر النبي (ص) ومنبره ومحرابه والروضة الشريفة، حيث كان يُصلِّي، وقد ورد عنه (ص): "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة"، حيث يحتشد الزائر هناك للتبرُّك والصلاة فيها.

كانت مساحة المسجد أيام رسول الله (ص) لا تعدو (2475) متراً، وتعد زيارة قبر النبي (ص) قبل الحج أو بعده من مستكملات رحلة الحج، وإلا فالذي يحجُّ البيت ولا يزور قبر النبي (ص) يكون كمن قد جفاه، ففي الأثر عنه (ص): "مَنْ زار قبري وجبت له شفاعتي"، وأيضاً: "مَنْ زار قبري كمن زارني حيّاً".

وفي المسجد (أسطوانة أبي لبابة) التي ترمز إلى التوبة، حيث تَخلَّفَ أبو لبابة وإثنان من المسلمين عن إحدى غزوات النبي (ص) فربطوا أنفسهم في الأسطوانة تعبيراً عن ندمهم وأسفهم عن عدم اللحاق بركب المجاهدين، فتاب الله عليهم وحَلَّ النبي (ص) بيده وثاقهم، فيستحب للحاج الزائر قبر النبي (ص) أن يحتضن الأسطوانة ويسأل الله التوبة.

 

- المشعر الحرام:

المشعر الحرام جبل صغير في مزدلفة إسمه (جبل قزح)، وسُمِّي مشعراً من الشِّعار، وهي العلامة، لأنّه من معالم الحج، وقيل: المزدلفة كلّها مشعر حرام، قال تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ (البقرة/ 198).

والوقوف بمزدلفة أو بالمشعر الحرام واجب من واجبات الحج، وحدّها من (المأزمين) إلى الحياض إلى (وادي محسّر)، ويمتد الوقوف فيها من طلوع الفجر في يوم العيد إلى شروق الشمس.

وينبغي للحاج أن لا يترك التعب والجهد الذي ناله من عرفات يثنيه عن ذكر الله والتفكُّر في عظمته ونعمته، وقراءة القرآن والدُّعاء، وإحياء تلك الليلة بالعبادة.

وفي مزدلفة تلتقط حصى الجمار وعددها سبعون تكفي للرجم يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة.

 

- مكّة:

سُمِّيت مكّة لأنّها تمكّ الجبّارين، أي تذهب نخوتهم، وقيل: لإزدحام الناس فيها وقلّة مائها من قولهم: امتكّ الفصيل (إبن الناقة) الضرع إذا مَصَّهُ مَصّاً شديداً لقلّة اللبن فيه. وقيل إنّ التسمية جاءت من (المكاء) وهو الصغير، حيث كان عرب الجاهلية يقولون: لا يتم حجّنا حتى نأتي البيت فنمكّ فيه، أي نصفر. وقيل: إسمها (بكّة)، وقيل إنّ مكّة يقصد بها مجموع المدينة، ومكّة إسم المكان الذي فيه البيت، ولمكّة أسماء عديدة، منها: أُمّ القرى، الحاطمة، أُم رحم، والبلد الأمين.

تحيط مكّة جبال جرداء تزيد من قسوة مناخها، وليس فيها ماء غير زمزم، لهذا لم تصلح أن تكون بلداً زراعياً، واضطرّ سُكّانها القدامى لإستيراد حوائجهم من الأطراف المجاورة والبعيدة، مكتفين بالعيش من عائدات الحجاج كلَّ عام.

ومكّة تتوسّط جزيرة العرب من جهة البحر الأحمر. وقد شهدت في القرن السابع للميلاد إنطلاق النور إلى الدنيا، حيث بعث النبي (ص) فيها برسالة الإسلام، وكان يقول عنها (ص): "والله إنّك لأحبّ بلاد الله إليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت".

وقد تعرّضت مكّة في تاريخها إلى عدّة إنتهاكات خلال العهد الأُموي، حيث كان بعض خلفائها يجلسون على سطح البيت ويسكرون، وكان بعضهم يرميها بالمنجنيق إستهانة بحرمة أعظم بيت وضعه الله مثابة للناس وأمناً.

 

- مِنى:

بلدة من حرم مكّة المكرّمة، تقع في شعب محدود بين جبلين: أحدهما (بثير)، والآخر (ضائع)، تبعد عن مكّة بإتجاه الشرق نحو ستة كيلومترات، ويحدّها من الشرق المزدلفة، وإسمها مشتق من أنّها مكان لذبح الهدي، حيث تُمنى الدماء. وقيل لأنّ الحاج يحقق فيه منات بعد رحلة الحج، حيث يرمي فيها الجمرات ويذبح هديه ويحلق، فيكون يوم عيده وعيد جميع المسلمين، وفي الأعياد تتحقق المنى لأنّها خاتمة المطاف.


 


 

خلاصة وإستنتاجات

1- بغفران الله سبحانه وتعالى للإنسان ما سلف من ذنوبه لقاء حجّه، فإنّه يعطيه فرصة جديدة ليطيع ربّه بعد أن ضَيَّعَ أو فَرَّطَ في الفرصة الأُولى.. فالحج أشبه بحياة تكتب للإنسان بعد غرق أو حريق أو حادث سير مؤسف كاد أن يودي بحياته، ومن عادة الناس في التهنئة بالسلامة قولهم: "احمد الله.. لقد كتب لك عمراً جديداً".

هذا العمر الجديد.. هذه الصفحة الجديدة.. هذا المنعطف الروحي والعمري الجديد.. هو أشبه برصيد لثروة جديدة بعد أن تتعرّض الثروة السابقة للفقدان أو الضياع لسببٍ أو لآخر، أي أنّها يمكن أن تستثمر وتنمّى وتحقِّق التعويض المطلوب. في هذه المرّة يفترض أن تكون قيمة الثروة في نفس صاحبها أكبر، لأنّه عرف معنى الخسارة، فليجرِّب معنى الربح والفوز والتعويض والإستدراك.

2- إذا حانت فرصة الحج بشرط الإستطاعة المذكور في آية الحج، فهي قد تمرّ مرَّ السحاب.. فما يدريك أنّك ستبقى، إن أخّرت أو أجّلت أو سوّفت، أنّك ستحيا لموسم آخر، ولذلك عُدّ تأخير الحج عن سنة الإستطاعة من الكبائر، فلقد جاء في الحديث: "مَنْ استطاع الحج ولم يمت فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً".

3- الحج هجرة إلى الله، يقول إبراهيم (ع): ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (العنكبوت/ 26).. والهجرة إلى الله، وإن بدت في الحج مكانية وزمانية، لكنها في واقع الأمر رحلة روحية إلى لقائه، كما يرحل مَنْ يغادر الدنيا إلى لقاء الله، فإرتداء الثوبين الأبيضين تذكير بالكفن، والإغتسال تذكير بالمغتسل، والتلبية تذكير بالإستجابة لنداء الله، وترك الأهل والأصدقاء والدنيا بمشاغلها ومتاعبها ومتعها الزائلة، كل ذلك تمهيد أو تمرين للقاء الأكبر مع الله عزّوجلّ.

4- الحج عبادة جامعة للعبادات، ففيه (الصلاة) سواء تلك التي تُؤدَّى بعد الطواف خلف مقام إبراهيم (ع)، أو في الصلوات اليومية المفروضة، أو في ما وسع الحاج من صلوات في البيت الذي لا تعدل الصلاةَ فيه أيُّ صلاةٍ في أيِّ مكانٍ آخر. وفيه (الصوم) بما يمتنع الحاج عن بعض المباحات في إحرامه، أو فيما يَتوجَّب عليه من كفّارات في بعض مخالفاته الشرعية. وفيه (الدُّعاء) الذي تلهج به أينما تكون. وفيه (تلاوة القرآن) في المواطن التي هبط فيها الوحي. وفيه (التصدُّق) ليس بلحم الأضحية فقط، بل بما يُوسِّع فيه الحاج على المحتاجين من الفقراء والمساكين. وفيه إطعام الطعام، وزيارة الإخوان، وطلب العلم أيضاً.

5- لأدعية الحج وأذكاره نكهة خاصّة وحميميّة مميّزة، وفيها إحساس بالقرب من الله أكثر، وتنطوي عدا ذلك على خشوع وإنكسار.. فأنت حينما تقف عند باب البيت وتقول بقلب خاشع وطرف دامع: "عبدك ببابك، فقيرك ببابك، مسكينك ببابك".. وحينما ترفع حصياتك التي ترجم بها الشيطان، تخاطبه بتذلُّل: "أللهمّ هذه حصياتي، فاحصهنّ لي، وارفعهنّ في عملي"، إلى ما هنالك من ترانيم التضرُّع في مهرجان الحبّ الإلهي.

6- وحين تتجه إلى البيت الحرام، فإنّك تقصد (القبلة) التي تقف أمامها خمس مرّات في اليوم في الواجبات من فرائضك، وتقف إزاءها في كلّ عمل تريد التقرُّب فيه إلى الله، أو تنوي مخاطبة الله منه، فهاأنت الآن متجه إلى كعبة الآمال والمثابة والأمن، إلى مركز طاعة الله الذي تتوجّه إليه أنظار أكثر من مليار مسلم، وليس الذي يأمُّونه أو يتجهون شطره فقط. هنا يمكن أن تغرِّد بلسان الحب وفي ظل أجواء الرحمة الغامرة: "وَجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين".

7- إستشعار وإستحضار ضيافة الله تعالى يفترض أن يتجاوز حدود الضيافتين الزمانية والمكانية، فمائدةُ الله عامرة بالأطايب من العفو والصفح والمغفرة والتوفيق والصحّة والتسديد، والهداية إلى السبيل، وتمهيد الطريق إلى الجنّة، والشطب على سواد صحيفة الأعمال، والمباركة في كلّ خطوة ومسعى. هنا: زيادة في الحسنات، ومحو للسيِّئات، ورفع للدرجات. ومادمت في ضيافة الله فاطلب ما تشاء، فالمضيف كريمٌ كريم، رحيمٌ رحيم، لطيفٌ لطيف، واسعٌ واسع، قادرٌ قادر، مقتدرٌ مقتدر.

8- بين (الصفا) و(المروة) استحضر نقطة (البدء) والمسار، ونقطة (الإنتهاء).. هناك خط مستقيم رسمته يد العناية الإلهية لي فلا يجب أن تصرفني عنه الشواغل والصوارف والتوافه والسفاسف والهامشيات.. فأنا متجه إليه دفي وعيني مصوّبة إليه، فلا يلفتني عنه (حطامٌ)، أو (نباحٌ)، أو (صخور متناثرة)، أو إلتفاف حول مائدة دنيوية يتقاتل عليها الذباب، ولا هروع لإستقبال زعيمٌ أتمسَّحُ بأذياله، ولا إستجابة لتسويلات شيطانية يغريني بكل ما هو زائف ومنكر وقبيح ودني. إنّ معي بوصلتي: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ (يوسف/ 108) وأتبع السبيل الأوحد فلا تُفرِّق بيَ السُّبُل.

9- دليلي ورفيقي في رحلة الحج كلّها شيخ الأنبياء إبراهيم (ع).. هذا الذي يمنحني فتوة الإيمان وطاقة الإسلام في جميع محطاتي ومراحل حجّي وتنقُّلاتي، هو مرشدي الروحيّ الذي أقتفي أثره، وأتبعه إتباع الفصيل (ولد الناقة) أثرَ أُمُّه.إنّه يقول لي مؤشِّراً بسبّابته: هنا أقمت قواعد البيت هنا صلّيت، هنا سعيت، هنا وقفت، هنا رجمت، هنا أسلمت وإسماعيل وجوهنا إلى الله في مشهد الذبح العظيم.. هنا بصمات للتعظيم والتسليم.

10- في (عرفات) تصل إلى محطة (المعرفة).. فأنت في سير تكاملي يقودك الموقف فيه إلى (العرفان).. وهاهنا محطّ رحال ذنوبك كلّها لتحرقها على تلك الرمضاء، ولتسفحها على ذلك السفح، لتعود وقد نفضت يديك من كل ما علق بك من أدران وأوساخ وشوائب، وكلّك حُسنُ ظنّ بالله أنّك أصبحت كيوم ولدتك أُمّك، وإلا "فأعظم أهل عرفات جُرماً مَنْ انصرفَ وهو يظنّ أنّ الله لن يغفر له". والوقوف سواء في (عرفات) أو (مزدلفة) أو (منى)، هو أشبه بإشارة المرور التي تهتف بك: (قف).. هي محطات لـ (التوبة) و(الإستغفار) و(الإنابة) و(التأمُّل)، فيما مضى وفيما سيأتي.

11- عند المشعر الحرام، في (مزدلفة)، ليكن شعورك حاداً يقظاً، وهمتك عالية نشطة، فلا يشغلنك (وسام) عرفات الذي علّقته الملائكة على صدرك بأنّك مغفور لك، فتضعف أو تتراخى أو تتهاون، فأنت هنا في محطة (الذِّكر) و(الشُّكر): ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ (البقرة/ 198).. فالمحافظة على النصر أشدُّ من تحقيق النصر.


 


ملحق الأدعية المنتخبة

هذه طائفة مختارة من عيون الدُّعاء يمكن التضرُّع بها في أي وقت من الأوقات، فحتى الأدعية التي يُذكر أنّها للصباح أو المساء أو لأوقات ومناسبات معيّنة، يمكن أن ندعو بها في كل وقت طالما أنّ فيها ذكراً لله، أو تبياناً لحاجاتنا بين يديه، أو إعراباً عن الندم والإستغفار.

كما يمكن الدُّعاء بها في (قنوت) الصلاة، أو في تعقيبات الصلاة، أو حتى في السجود (خاصة الأدعية المختصرة)، ويمكن أن ندعو بها في الحرم النبوي والحرم المكّي وفي عرفة وفي مزدلفة وفي محطات الطريق من هنا إلى هناك، إلا ما نصَّ عليه بأنّه لموقف خاص، فهو يُتلى هناك، لكن لا مانع من تلاوته في أي وقت.. فليس للتضرُّع إلى الله محدِّدات أو أدعية مخصوصة، بل يمكن أن تدعو بما يرد على خاطرك وقلبك ولسانك من إعترافات بالتقصير، ومن إستشعارات للخطأ والمعاصي، ومن خطوات تتقرّب بها إلى المنعم الجبّار.

وإذا كنّا سنعطي لكل دعاءً إسماً أو عنواناً معيّناً، فقد لا يكون من حيث الأصل يحمل ذلك الإسم أو هذا العنوان، ولكن من باب التحبيب والتقريب ليس إلا.

وسنُقسِّم الأدعية إلى قسمين:

1- أدعية عامّة (تتلى في أي وقت).

2- أدعية خاصّة (تتلى في مناسبات أو أوقات معيّنة).

أوّلاً- الأدعية العامّة:

1- دعاء التوحيد[16]: "لا إله إلا الله إلهاً واحداً ونحن له مسلمون، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إيّاه مخلصين له الدين ولو كره المشركون، لا إله إلا الله ربّنا وربّ آبائنا الأوّلين، لا إله إلا الله وحده وحده وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فله المُلكُ وله الحمد، يُحيي ويُميت ويميتُ ويُحيي وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كلّ شيء قدير".

2- دعاء المغفرة والرحمة: "أللهمّ إنّ مغفرتك أرجى من عملي، وإنّ رحمتك أوسعُ من ذنبي.. أللهمّ إن كان ذنبي عندك عظيماً فعفوك أعظم من ذنبي.. أللهمّ إن لم أكن أهلاً أن أبلُغَ رحمتَك فرحمتُك أهلٌ أن تبلغني وتسعني لأنّها وسعت كلّ شيء، برحمتك يا أرحم الراحمين".

3- دعاء الحاجات الكلِّيّة: "أللهمّ إنِّي أسألك موجبات رحمتك، وعزائمَ مغفرتك، والغنيمةَ من كلِّ برّ، والسلامة من كلِّ إثم.. أللهمّ لا تدع لي ذنباً إلا غفرته، ولا همّاً إلا فَرَّجته، ولا سقماً إلا شفيته، ولا عيباً إلا سترته، ولا رزقاً إلا بسطته، ولا خوفاً إلا آمنته، ولا سُوءاً إلا صرفته، ولا حاجة هي لكَ رضا ولي فيها صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين".

4- دعاء معرفة الحق: "أللهمّ أرني الحقَّ حقّاً فاتبعه، والباطل باطلاً فاجتنبه، ولا تجعله متشابهاً عليَّ فاتبعَ هواي بغير هدى منك، واهدني لما اختلف فيه من الحقِّ بإذنك إنّك تهدي مَنْ تشاء إلى صراط مستقيم".

5- دعاء النور: "أللهمّ اجعل النورَ في بصري، والبصيرةَ في ديني، واليقينَ في قلبي، والإخلاصَ في عملي، والسلامةَ في نفسي، والسعةَ في رزقي، والشُّكرَ لكَ أبداً ما أبقيتني يا أرحم الراحمين".

6- دعاء الذِّكر والشُّكر: "أللهمّ يا مَنْ ذِكرهُ شَرفٌ للذاكرين، ويا مَنْ شُكرُه فوزٌ للشاكرين، ويا مَنْ طاعتهُ تجارةٌ للمطيعين، صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد واشغلْ قلوبَنا بذكرِكَ عن كلِّ ذكر، وألسنتنا بشكرك على كلّ شكر، وجوارحنا بطاعتك عن كلِّ طاعة، يا أرحمَ الراحمين".

7- دعاء براءة الذمّة: "أللهمّ إنِّي أستغفرُكَ لكلِّ نذرٍ نذرته، وكلِّ وعدٍ وعدتُه، وكلِّ عهدٍ عاهدته ثمّ لم أفِ لكَ به، وأسألكَ في مظالم عبادِك عندي، فأيّما عبدٍ من عبيدِك أو أمةٍ من إمائِك كانت له قبلي مظلمةٌ ظلمتُها إيّاه: في نفسه، أو في عرضه، أو في ماله، أو في أهله وولده، أو غيبةٌ اغتبتهُ بها، أو تحاملٌ عليه بميلٍ، أو هوىً، أو أنفةٍ[17]، أو حميّةٍ[18]، أو رياءٍ، أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، وحيّاً كان أو ميتاً، فقصرت يدي وضاق وسعي عن ردّها إليه والتحلُّل منه، فأسألُك يا مَنْ يملكُ الحاجات وهي مستجيبةٌ لمشيئته ومشرعةٌ إلى إرادته، أن تُصلِّي على محمد وآل محمد، وأن تُرضيه عنِّي بما شئت، وتهبَ لي من عندك رحمة، إنّه لا تنقصك المغفرة، ولا تضرّك الموهبة، يا أرحمَ الراحمين".

8- دعاء الإنتساب إلى الأبرار: "أللهمّ اجعلني من جندك فإنّ جندَكَ هم الغالبون، واجعلني من حزبك فإنّ حزبَكَ هم المفلحون، واجعلني من أوليائك فإنّ أولياءَكَ لا خَوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.. أللهمّ أصلح لي ديني فإنّه عصمةُ أمري، وأصلح لي آخرتي فإنّها دارُ مقرّي، وإليها من مجاورة اللئام مفرّي، واجعل الحياةَ زيادةً لي في كلّ خير، والوفاةَ راحةً لي من كلّ شرّ، يا أرحم الراحمين".

9- دعاء غفران الذنوب: "أللهمّ اغفر ليّ الذنوبَ التي تهتكُ العِصَمْ.. أللهمّ اغفر لي الذنوبَ التي تُنزِلُ النِقَم.. أللهمّ اغفر لي الذنوبَ التي تُغيِّر النِّعم.. أللهمّ اغفر ليَ الذنوبَ التي تحبسُ الدُّعاء.. أللهمّ اغفر لي الذنوبَ التي تُنزلُ البلاء.. أللهمّ اغفر ليَ كلَّ ذنبٍ أذنبتُه، وكلَّ خطيئةٍ أخطأتُها، يا أرحمَ الراحمين".

10- دعاء الكمال: "أللهمّ صلِّ على محمدٍ وآله، وبلِّغ بإيماني أكملَ الإيمان، واجعل يقيني أفضلَ اليقين، وانتهِ بنيّتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال، برحمتك يا أرحمَ الراحمين".

11- دعاء التخلُّص من الغرور: "أللهمّ صلِّ على محمد وآله، ولا ترفعني في الناسِ درجةً إلا حططتني عندَ نفسي مثلها، ولا تُحدِث لي عِزّاً ظاهراً إلا أحدثتَ لي ذلّة باطنة عندَ نفسي بقدرها، برحمتك يا أرحمَ الراحمين".

12- دعاء إغتنام الوقت: "أللهمّ صلِّ على محمدٍ وآله، ونبِّهني لذكرِكَ في أوقاتِ الغفلة، واستعملني بطاعتِكَ في أيام المُهلة، وانهج لي إلى محبتك سبيلاً سهلة، اكمل لي بها خيرَ الدنيا والآخرة، يا أرحمَ الراحمين".

13- دعاء التوبة: "إلهي ألبستني الخطايا ثوبَ مذلَّتي، وجلّلني التباعدُ منكَ لباسَ مسكنتي، وأماتَ قلبي عظِم جنايتي، فأحيهِ بتوبةٍ منكَ يا أملي وبُغيتي، ويا سؤلي ومنيتي، فوعزّتك ما أجدُ لذنوبي سواك غافراً، ولا أرى لكسري غيرَك جابراً، فأسألُك يا غافرَ الذنبِ الكبير، ويا جابرَ العضم الكسير: أن تهبَ لي موبقاتِ الجرائر، وتستر عليَّ فاضحاتِ السرائر، ولا تُخلني في مشهدِ القيامة من بردِ عفوِك وغفرِك، يا أرحمَ الراحمين".

14- دعاء إستمطار الرحمة: "يا مَنْ أرجوهُ لكلِّ خير، وآمنَ سَخطَهُ من كلِّ شرّ، يا مَنْ يُعطِ الكثيرَ بالقليل، يا مَنْ يُعطي مَنْ سأله، يا مَنْ يُعطي مَنْ لم يسأله ومَنْ لم يعرفه تحنُّناً منه ورحمة، أعطني بمسألتي إيّاك جميعَ خير الدنيا وجميعَ خيرِ الآخرة، واصرف عنِّي بمسألتِك إيّاك جميعَ شرّ الدنيا وشرِّ الآخرة، فإنّه غيرُ منقوصٍ ما أعطيت، وزِدني من فضلِك يا كريم، يا ذا الجلالِ والإكرام، يا ذا النعماءِ والجُود، يا ذا المنِّ والطول، حرِّم شيبتي على النار، يا أرحمَ الراحمين".

15- دعاء المعرفة: "إلهي هبْ لي كمالَ الإنقطاع إليك وأنِرْ أبصارَ قلوبِنا بضياء نظرِها إليك، حتى تخرق أبصارُ القلوب حُجبَ النورِ فتصلَ إلى معدنَ العظمة وتصيرَ معلّقةً بعزِّ قدسك، يا أرحمَ الراحمين".

16- دعاء الإحسان إلى الغير: "أللهمّ ادخلْ على أهلِ القبورِ السُّرور.. أللهمّ اغنِ كلَّ فقير.. أللهمّ اشبعْ كلَّ جائع.. أللهمّ أُكسُ كلَّ عريان.. أللهمّ اقضِ دينَ كلِّ مدين.. أللهمّ فرِّج عن كلَّ مكروب.. أللهمّ رُدَّ كلَّ غريب.. أللهمّ فكَّ كلَّ أسير.. أللهمّ أصلِح كلَّ فاسِد من أُمور المسلمين.. أللهمّ اشفِ كلَّ مريض، برحمتك يا أرحمَ الراحمين".

17- دعاء الدعوة إلى الله: "أللهمّ إنّا نرغبُ إليك في دولةٍ كريمة تُعِزُّ بها الإسلام وأهلَه، وتُذِلُّ بها النِّفاقَ وأهله، وتجعلنا فيها من الدُّعاةِ إلى طاعتِكَ، والقادةِ إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدُّنيا والآخرة.. أللهمّ ما عرّفتنا من الحق فحمِّلْناه، وما قُصِّرنا عنه فبلِّغناه، برحمتك يا أرحمَ الراحمين".

18- دعاء التذلُّل: "إلهي لم أرَ مولىً كريماً أصبر على عبد لئيم منكَ عليَّ يا ربّ، إنّك تدعوني فأولِّي عنك، وتَتَحبَّبُ إليَّ فأتبغَّضُ إليك، وتَتَودَّدُ إليَّ فلا أقبلُ منك كأنّ ليَّ التطوُّل عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمةِ لي والإحسانِ إليَّ والتفضُّلِ عليَّ بجودِكَ وكرمِكَ، فارحم عَبدَك الجاهلَ، وجُدْ عليه بفضلِ إحسانك إنّك جوادٌ كريم، يا أرحمَ الراحمين".

19- دعاء الإعتراف والإسترحام: "أنا يا ربِّ الذي لم أستحيكَ في الخلاء، ولم أراقبكَ في الملاء.. أنا صاحبُ الدواهي العظمى.. أنا الذي على سيِّده اجترى.. أنا الذي عصيتُ جبّارَ السّماء.. أنا الذي أعطيتُ على المعاصي جليلَ الرِّشا.. أنا حينَ بُشرتُ بها خرجتُ إليها أسعى.. أنا الذي أمهلتني فما ارعويت، وسترتَ عليَّ فما استحييت، وعملتُ بالمعاصي فتعدّيت، وأسقطتني من عينكَ فما باليت، فبحلمكَ أمهلتني، وبسترك سترتني حتى كأنّك أغفلتني، ومن عقوبات المعاصي جنّبتني حتى كأنّك استحييتني.. إلهي لم أعصكَ حين عصيتُكَ وأنا بربوبيتكَ جاحدْ، ولا بأمركَ مُستخفّ، ولا لعقوبتكَ مُتعرِّض، ولا لوعِيدكَ متهاون، لكن خطيئةٌ عرضت لي وسوَّلتَ لي نفسي وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوقي، وغرّني سترُكَ المُرضى عليَّ، فقد عصيتُكَ وخالفتُكَ بجهدي، فالآن من عذابكَ مَنْ يستنقذني، ومن أيدي الخصماء غداً لا يُخلِّصني، وبحبلِ مَنْ أتصلُ إن أنتَ قطعتَ حبلَكَ عنِّي، يا أرحمَ الراحمين".

20- دعاء استذكار الموت: "أللهمّ ارحم في هذه الدنيا غُربَتي، وعندَ الموت كُربَتي، وفي القبر وحدتي، وفي اللحدِ وحشتي، وإذا نُشرتُ للحسابِ بينَ يديكَ ذُلَّ موقفي، واغفر لي ما خفي على الآدميين على عملي، وأدم لي ما به سترتني، وارحمني صريعاً على الفراش تقلّبني أيدي أحبّتي، وتفضَّل عليَّ ممدوداً على المُغتَسَل يقلِّبُني صالحُ جيرتي، وتحنَّن عليَّ محمولاً قد تناولَ الأقرباءُ أطرافَ جنازتي، وخذ عليَّ منقولاً قد نزلتُ بكَ وحيداً في حفرتي، وارحم في ذلكَ البيت الجديد غُربتي حتى لا أستأنسَ بغيركَ، يا أرحمَ الراحمين".

21- دعاء الإلتحاق بالصالحين: "أللهمّ ألحقني بصالح مَنْ مضى، واجعلني مِن صالحِ مَنْ بقي، وخُذ بي سبيلَ الصالحين، واعنّي على نفسي بما تعينُ به الصالحينَ على أنفسهم، واختم عملي بأحسنه، واجعل ثوابي منه الجنَّة برحمتك، واعنّي على صالح ما أعطيتني، وثبِّتني يا رب، ولا تردّني في سوءٍ استنقذتني منه يا ربّ العالمين.. أللهمّ إنِّي أسألكَ إيماناً لا آجلَ لهُ دونَ لقائِك: أحيني ما أحييتني عليه، وتوفّني إذا توفّيتني عليه، وابعثني إذا بعثتني عليه، برحمتك يا أرحمَ الراحمين".

22- دعاء "هذا مقام": "يا ربِّ هذا مقامُ العائذٍ بكَ من النار، هذا مقامُ المستجير بكَ من النار، هذا مقامُ المستغيث بك من النار، هذا مقام الهارب إليك من النار، هذا مقام مَنْ يبوءُ لكَ بخطيئته، ويعترفُ بذنبه، ويتوبُ إلى ربّه، هذا مقامُ البائسِ الفقير، هذا مقامُ الخائفِ المستجير، هذا مقامُ المحزونُ المكروب، هذا مقامُ المغموم المهموم، هذا مقام الغريب الغريق، هذا مقام المستوحش الفَرِق[19]، هذا مقامُ مَنْ لا يجدُ لذنبهِ غافراً غيرَك، ولا لضعفه مقوِّياً إلا أنت، ولا لهمّه مفرِّجاً سواكَ، يا أرحمَ الراحمين".

23- دعاء التهجُّد[20]: "أناجيكَ يا موجوداً في كلِّ مكان، لعلّك تسمعُ ندائي فقد عَظُمَ جرمي وقلَّ حيائي.. مولايَ يا مولاي، أيَّ الأهوالِ أتذكَّرُ وأيُّها أنسى، ولِمَ لَم يَكُنْ إلّا الموت لكفى، كيفَ وما بعدَ الموتِ أعظمُ وأدهى.. مولايَ يا مولاي، حتى متى وإلى متى أقولُ لكَ العُتبى مرّةً بعدَ أخرى ثمّ لا تجدُ عندي صدقاً ولا وفاء، فياغوثاهُ ثمّ واغوثاه بكَ يا الله، من هوىً قد غلبني، ومن عدوٍّ قد استكلبَ عليَّ، ومن دنيا قد تزيّنت لي، ومن نفسٍ أمّارة بالسُّوء إلا ما رحمَ ربِّي.. مولايَ يا مولاي، إن كنتَ رحَمتَ مثلي فارحمني، وإن كنتَ قبلتَ مثلي فاقبلني، يا قابلَ السحرةِ أقلني، يا مَنْ لم أزل أتعرّف منه الحسنى، يا مَن يُغذِّيني بالنعمِ صباحاً ومساءً، ارحمني يومَ آتيك فرداً شاخصاً إليكَ بصري مقلِّداً عملي قد تبرّأ جميعُ الخلقِ منِّي، نعم وأبي وأُمّي، ومَنْ كان له كدّي وسعيي، فإنْ لم ترحمني فَمَن يرحمني، ومَنْ يؤنس في القبرِ وحشتي، ومَنْ يُنطق لساني إذا خلعتُ بعملي وساءلتني عمّا أنتَ أعلمُ به منِّي، فإنْ قلتُ نعم فأين المهرَبُ من عدلك، وإذا قلتُ لم أفعلْ، قلت ألم أكنِ الشاهدَ عليك، فعفوكَ عفوكَ يا مولاي قبلَ سرابيل القطران.. عفوكَ عفوكَ يا مولاي قبلَ جَهنَّم والنيران.. عفوكَ عفوكَ يا مولاي قبلَ أن تُغلَّ الأيدي إلى الأعناق، يا أرحمَ الراحمين وخيرَ الغافرين".

 

ثانياً- الأدعية الخاصّة:

1-   من أدعية الصباح:

أ‌)        دعاء طلب الخير: "الحمدُ لله الذي أذهبَ الليلَ مُظلماً بقدرته، وجاءَ بالنهارِ مُبصراً برحمته، وكساني ضياءَهُ وآتاني في نعمته. أللهمّ فكما أبقيتني لهُ فابقني لأمثاله، وصلِّ على النّبيّ محمَّدٍ وآله، ولا تفجعني فيه وفي غيره من الليالي والأيّام، بارتكاب المحارم، واكتساب المآثم، وارزقني خيرَهُ وخيرَ ما فيه وخيرَ ما بعدَه، واصرف عنِّي شرَّه وشرَّ مافيه وشرَّ ما بعده، يا أرحمَ الراحمين".

ب‌)   دعاء الإستعاذة: "أُعيذُ نفسي، وديني، وأهلي، ومالي، وولدي، وإخواني في ديني وما رزقني ربِّي، وخواتيم عملي، ومَنْ يعنيني أمرُه: بالله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، و(بربّ الفلق) آخر آخرها.. و(بربّ الناس) إلى آخرها".

ت‌)   دعاء طلب الثبات: "أللهمّ يا مقلِّبَ القلوب والأبصار ثبِّت قلبي على دينك، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنّك أنت الوهَّاب، واجرني من النار برحمتك. أللهمّ امدد لي في عمري، وأوسع لي في رزقي، وانشر عليَّ رحمتك، وإن كنتُ عندكَ في أمّ الكتاب شقياً فاجعلني سعيداً، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُمّ الكتاب".

ث‌)   دعاء التفويض: "بسم الله وصلَّى الله على محمد وآله، وأفوِّضُ أمري إلى الله إنّ الله بصيرٌ بالعباد، فوقاهُ الله سيِّئاتِ ما مكروا، لا إله إلّا أنت سبحانكَ إنِّي كنتُ من الظالمين، فاستجبنا له ونجيّناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين، حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء، ما شاء الله، لا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله، ما شاءَ اللهُ لا ما شاءَ الناس، ما شاءَ اللهُ وإن كرهَ الناسُ، حسبيَ الربُّ من المربوبين، حسبيَ الخالقُ من المخلوقين، حسبيَ الرازقُ من المرزوقين، حسبي مَنْ هو حسبي، حسبي مَن لم يزل حسبي، حسبيَ مَنْ كان منذ كنتُ لم يزل حسبي، حسبيَ الله لا إله إلا هوَ عليه توكّلتُ وهوَ ربُّ العرشِ العظيم".

1-   من أدعية المساء:

أ‌)        دعاء الضيافة: "أللهمّ إنّ لكَ حقوقاً فتصدّق بها عليَّ، وللناسِ قِبَلي تبعات فتحمّلها عنِّي، وقد أوجبتَ لكل ضيفٍ قرى، وأنا ضيفَك فاجعل قِرايَ[21] الليلةَ الجنَّة، يا وهَّاب الجنّةِ، يا وهَّاب المغفرةَ ولا حول ولا قوّةً إلا بك، يا أرحمَ الراحمين".

ب‌)   دعاء التوسُّل: "أعوذُ بجلالِ وجهك الكريم أن يطلعَ الفجرُ من ليلتي هذه ولك قِبَلي تبعةٌ أو ذنبٌ تعذِّبني عليه، يا أرحمَ الراحمين".

ت‌)   دعاء التمجيد: "يا دائمَ الفضلِ على البريّة يا باسطَ اليدين بالعطيَةِ، يا صاحبَ المواهبِ السنيّة، صلِّ على محمَّدٍ وآله خيرِ الورى[22] سجيّة، واغفر لنا يا ذا العُلى في هذه العشيّة، ونجِّنا من كلِّ داء وبلاءِ وبليّة، برحمتك يا أرحمَ الراحمين".

2-   من أدعية وأذكار السجود:

أ‌)        "أللهمّ ارزقني حبَّك، وحبَّ مَنْ يحبّك، وحبّ كلِّ عملِ يوصلني إلى قربك، يا أرحم الراحمين".

ب‌)  "إلهي كفى بيَّ فخراً أن تكون لي ربّاً، وكفى بيَّ عزّاً أن أكونَ لكَ عبداً، أنتَ كما أحبّ فاجعلني كما تحب، يا أرحمَ الراحمين".

ت‌)  "أللهمّ إنِّي أسألك التوبةَ قبلَ الموت، والمغفرةَ بعدَ الموت، والعفوَ عندَ الحساب، برحمتك يا أرحمَ الراحمين".

ث‌)  "يا خفيَ الألطاف، نجِّنا ممّا نحذر ونخاف، من بلاءِ الدنيا وعقوباتِ الآخرة يا أرحم الراحمين".

ج‌)    "يا مَنْ يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، اقبلْ منِّي اليسير، واعفُ عنِّي الكثير، إنّك أنت الغفورُ الرحيم".

ح‌)    يا مَنْ له الدنيا والآخرة، اِرحم مَنْ ليسَ له الدنيا والآخرة، يا أرحمَ الراحمين".

خ‌)    "إلهي قَبُحَ الذنبُ من عبدك، فليحسن العفو من عندك، يا أرحمَ الراحمين".

د‌)      "أللهمّ اغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمّن سواك، يا أرحمَ الراحمين".

ذ‌)      "يا لطيف ارحم عبدَك الضعيف. يا جليل ارحم عبدَك الذليل ذا اللسان الكليل، والعمل القليل، واكنُفهُ بطولِكَ[23] الجزيل، يا أرحمَ الراحمين".

ر‌)      "يا غفَّار بنورِكَ اهتدَيْنا، وبفضلكَ استغنينا، وبنعمتك أصبحنا وأمسينا، ذنوبُنا بين يديك، نستغفرك أللهمّ منها ونتوبُ إليك".

ز‌)      "أللهمّ إنّ الطاعةَ تَسُرُّك، والمعصية لا تَضُرُّك، فهب لنا ما يَسُرُّك، واغفر لنا ما يَضُرُّك، يا أرحمَ الراحمين".

س‌)  "أللهمّ ارزقنا التجافي عن دار الغرور، والإنابةَ إلى دار الخلود، والتوبة قبل الموت وحلول الفوت، يا أرحمَ الراحمين".

ش‌)  "أللهمّ إنِّي أسألكَ من رحمتكَ بأوسعِها، وكلُّ رحمتِكَ واسعة، أللهمّ إنِّي أسألك برحمتك كلّها، يا أرحمَ الراحمين".

 

-وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين-

 


[1] - نهج البلاغة/ الخطبة 8/ في خلق الملائكة وصفاتهم.

[2] - سُمِّي البيت العتيق لعتقه من أي سلطة أو حجر أو عادة دنيوية، فهو بيت الله وهذا حسبه.

[3] - ليس بين (المادّي) و(الرُّوحي) حدود فاصلة، والفرق بين المادّية والروحية فرق في الدرجة.. فالمادّة تتكامل في وجودها وتستمر في تكاملها حتى تتحرر عن ماديتها وتصير كائناً غير مادي أي كائناً روحياً، وهذا ما أسماه الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألهين بـ (الحركة الجوهرية).

[4] - فكرة (الإستقلاب) والإستعاضة في عملية التوبة عن كل ما تمّ طرده من سموم المعاصي واستقبال مواد صالحة وصحّية جديدة تتنعّم بها الروح، مأخوذة عن كتاب (ترانيم الرحيل إلى العالم الآخر)، د. محمدمهدي إصفهاني.

[5] - نهج البلاغة/ الكلمات القصار/ 252.

[6] - عن كتاب (الحج.. عبادة وتربية) من منشورات مؤسسة البلاغ.

[7] - نيّة الزيارة تعني أنّك جئت زائراً بيت الله الحرام قاصداً القربة إليه لا لغرضٍ آخر.

[8] - المجالس السنية/ السيِّد محسن الأمين/ ج1/ ص634.

[9] - الإرشاد للمفيد/ ص200-201.

[10] - الجلوة مصطلح صوفي، لكننا لا نريد هنا تبني المصطلحات الصوفية بقدر ما نشير إلى أنّ أجواء الحج بما تُحقِّقه من صفاء روحي تخلق عدداً من الجلوات التي يفترض بالحاج إستثمارها وإغتنامها بأفضل وجه.

[11] - أخرجه البخاري ومسلم.

[12] - عن الكامل في التاريخ لإبن الأثير، بإختصار.

[13] - أخرجه مسلم.

[14] - كنز العمال.

[15] - راجع ذوالقبلتين.

[16] - يستحب أن تبدأ كل دعاء بالصلاة على محمد وآل محمد وتختمه بهذه الصلاة، فقد ورد أنّ هذه الصلاة مستجابة، والله لا يستجيب دعائين ويترك ما بينهما.

[17] - الأنفة: الإستكبار والغرور والتعالي.

[18] - حميّة: التأبِّي.

[19]- الفَرِق: الخائف.

[20]- التهجُّد: العبادة الليلية.

[21]- قِرى: زاد الضيافة، أو ما يقدَّم للضيف.

[22]- الورى: الناس، البشر.

[23]- أكنفهُ بطولك: أحطه بعنايتك ولطفك ورعايتك.

ارسال التعليق

Top